سنصبح أوروبيين ونشتري نصف خيارة!

ليس عوزاً وفاقة بل إن سلطتنا تدفعنا لنصبح أوروبيين غير مبذرين (Getty)
ليس عوزاً وفاقة بل إن سلطتنا تدفعنا لنصبح أوروبيين غير مبذرين (Getty)


عندما انتقلت إلى العيش في إيطاليا منذ أكثر من 15 عاماً، ذهلت عندما رأيت المتاجر تعرض نصف خيارة أو ربع بطيخة أو نصف حبة قرع -الشبيه بالكوسا- للبيع. في البداية ظننت أن شطر هذه المنتجات إلى نصفين، وتوضيبها بالنيلون في البراد بمثابة عرض لجودة المنتج، كي يتسنى للزبائن الاطلاع عليها، كما يعمد بائعو البطيخ في لبنان عادة، ويقدمون على تلف واحدة من البطيخات لإغراء الزبائن، عارضين مزايا منتجهم. لكن خبرت لاحقاً أن الإيطاليين يشترون فعلاً نصف خيارة (وزن الواحدة منها يفوق الكيلوغرام) أو حبة أو اثنتين من البندورة، وهلم جرى.

اعتدت على هذه الحياة القائمة على الاقتصاد والتوفير، وعدم التبذير في شراء كميات كبيرة من المنتجات تنتهي معظمها في سلة المهملات، كما خبرت في حياتي السابقة في لبنان. فهناك بت أرى الزبائن يشترون نصف خيارة ومثلها من القرع والبصل والثوم، ومئة غرام من اللحوم، أو أقل حتى.

تذمّرت بداية من هذه العادات الغريبة، أنا القادم من مجتمع مشهور بتبذير المأكولات وكبر الولائم، التي ينتهي أكثر من نصفها في سهلة المهملات. فكلما تنوع الطعام وزادت الأطباق على المائدة، يزداد فخر العائلة بكرمها. فيما الاقتصاد بالأطباق ووضع الضروري منها، أو ما يكفي الحاجة ولا يزيد عنها، فبخل من أصحاب الولائم، يلامون عليها نميمةً وتندراً من ضيوفهم لاحقاً. وكما قيل في أدبنا العربي "كثير الرماد" هو من يكثر من إشعال الحطب تحت الموائد لإطعام الزائرين، دليلاً على الكرم وحسن إكرام الضيوف.

ولطالما ظننت أن بخل الغربيين هو الدافع وراء تلك العادات الغريبة. وكان أن مضيت الشهور الأولى في إيطاليا على عادتي اللبنانية "السليمة"، وعدت واستفقت بعد مدة وتطبعت على الاقتصاد وشراء اللازم، رغم أنني تجنبت شراء نصف خيارة مثلاً. واعتدت على السكن بغرفة واحدة وإطفاء الكهرباء وكل ما يتعلق بالطاقة خلفي، بخلاف ما اعتدنا عليه في لبنان، طالما لا طاقة مادية لي على تحمل الأعباء.

ها نحن في لبنان نتحول إلى أوروبيين عنوة. أو أن منظومتنا تدفعنا مرغمين كي نقتدي بالأوروبيين، بعدما تحولت دولتنا إلى كومة خراب، بات يصعب على العائلات غير المقتدرة شراء كيلو تفاح "دفعة واحدة". ولأن الإدارات تخلت عن مسؤوليتها في تأمين الكهرباء والماء والمحروقات والدواء، بات لزاماً علينا البحث عن البدائل أو "الشي التاني"، الذي نصحنا وزير الطاقة استخدامه في تنقلاتنا.

بعد زرع الشرفات، كما دعانا "مرشد الجمهورية"، وتقنين شراء الألبان والأجبان والخضر، وتوديع اللحوم والأسماك (كلها في الأساس إسراف وتبذير!) بتنا نشتري الدواء من الخارج. وعلينا البحث عن بديل للكهرباء وتركيب نظام الطاقة الشمسية، ونتفوق على الأوروبيين بلا منّة من أحد.

وكما يقول العاملون في الشأن، نظام الطاقة الشمسية شبيه بالاقتصاد الذي تقوم به العائلات في دول الغرب في حياتها اليومية. أو بمعنى آخر الاعتماد على الطاقة الشمسية ما هو إلا نظام للحياة علينا التعود والتكيف معه: كيف ومتى وكم مسموح لنا صرفه يومياً من الطاقة. ما يعني أن التطبع معه أشبه بالتطبع مع عادات الأوروبيين بعدم الإسراف.

ما نعيشه حالياً، ليس عوزاً وفاقة، بل إن سلطتنا تدفعنا لنصبح أوروبيين غير مبذرين. ونعتمد على أنفسنا في تأمين الطاقة الكهربائية، وكل مصادر الطاقة الأخرى. وما علينا إلا التعود على ركوب الدرجات الهوائية، وأن نتطبب بالأعشاب، التي يستحسن أن تكون عضوية، ونصبح أوروبيين مئة بالمئة، أو جيلاً أوروبياً لم يولد حتى في أوروبا بعد.

تعليقات: