لكم هو صعب"/>

سنة على تفجير بيروت: كل عامٍ ونحنُ بلا عدالة

عجزِ القضاء اللبناني تاريخياً عن معالجة جناياتٍ خطيرة تمسّ بالمجتمع اللبناني (Getty)
عجزِ القضاء اللبناني تاريخياً عن معالجة جناياتٍ خطيرة تمسّ بالمجتمع اللبناني (Getty)


"إذا ما فينا نحاسب خلّينا نفلّ ع البيت" (وزير الداخلية محمد فهمي في تصريحٍ إعلامي بتاريخ 5/8/2020).


لكم هو صعبٌ توصيفُ هذا اليوم - "الرابع من آب 2021". أهو "سنوية" أولى لقتلى تفجير مرفأ بيروت يستقبلُ ذووهم خلالها المعزّين دامعي الأعين، فيكرّسون نهجَ الندبِ المُلازم لفظاعاتٍ حُفِرَت في تاريخنا بلا محاسبة وكوفئ عذابُها برقمٍ على روزنامة؟ أم هو تاريخُ استحقاقِ دينٍ ثابت، حيثُ الدائنُ هو أهالي ضحايا التفجير -قتلى ومُشوّهين ومُشرّدين ومتضرّرين- والمَدين هو قضاؤنا المكلّف التحقيقَ في الجريمة وكشفَ جوانبِها وتحديدَ جُناتِها ومحاسبتِهم؟

في الحالة الأولى، فإنّنا، مهما عاندْنا ومهما شحذْنا صراخَنا، سننزلقُ ببطء، غالباً ومجدّداً، نحو التطبيع مع عجزِنا المرير، ومع حقيقة أننا شعبٌ يحكمُه، منذ نحو نصفِ قرنٍ، القَتَلةُ وزعماءُ الحرب ورؤساءُ العصابات وحيتانُ الأعمال والمصارف وناهبو المال العام وفاقدو الحياء والضمير، وأن هؤلاء سيستمرّونَ في حُكمِنا حتى ينهضَ وعيُنا السياسيّ من سُباتِه لنغيّر ما بأنفسنا فنقدرَ على تغييرهم ومحاسبتهم. وحتى ذلكَ الوقتِ، سوف نُهان ونُذلّ ونُنهَب ونُقتَل، مرة تلوَ الأخرى، فيما نُنكّص رؤوسَنا لأيدي الجُناة تربّتُ على أكتافِنا بفجور.

أما في الحالة الثانية، فثمة مسؤولية تقع على عاتقِ الدائن، صاحبِ الحقّ وسلطانُه، لا تقلّ أهمية عن موجباتِ المَدين. هي مسؤوليةٌ لا تقفُ عند حدّ سؤال المحقّق العدلي والنائب العام التمييزي "ماذا فعلتُما، أيها القاضيين طارق البيطار وغسان عويدات لكشفِ الحقيقة ولمُحاسبة المجرمين في أسوأ تفجيرٍ شهدَهُ اللبنانيون؟"، بل تتعدّاها إلى مساءلة جميع من تداولَتْ "محكمةُ الرأي العام" أسماءهم خلال الأشهر الاثني عشرة الأخيرة، وكلّ من أقحمَ إصبعه في مجرياتِ التحقيق، قولاً أو فعلاً، وجهاراً أم خفيةً، وإلى بلورةِ محاسبةٍ شعبية غير مسبوقة تُسقطُ ورقة التوتِ الأخيرة عن عوراتِ الجُناة الأوغاد، وإلى الإصرار على ملاذٍ دوليّ مستقلّ غير مُستنسَخ يكفلُ لنا سبرَ الحقيقة المطموسة وطنياً، حتى الآن.

ولعلّ حاضرَنا اليوم يزخرُ بالكثير من النكبات المستجدّة والمستفحِلة، فلم يعد بالإمكان القول، بعد مرورِ سنةٍ على الرابع من آب 2020، إن قضية تفجير مرفأ بيروت هي الأهمّ في حُسبانِ المواطنِ اللبنانيّ. فأغلبُ شعبِنا صارَ يعتمدُ حيوياً على دولاراتِ المغتربين لسدادِ قوتِ يومِه، ويقفُ في طوابير الذلّ استجداءً لبنزينٍ أو دواءٍ أو حليبِ أطفال، ويرتضي حفنةً من جنى عمره المحبوس في مصارفٍ يمتلكُها "نادي الحكّام وشركاؤهم"، ويتآلفُ مع العتمةِ وانقطاع الكهرباء الأسوأ منذ نصف قرن، فيما القطاعُ العام يسيرُ قُدُماً في عصيانِه التدريجيّ المقنّع وآلافٌ جديدة من العساكر يفرّون من خدمتهم من دون أن يلتفتوا إلى الخلف.


جردةُ حسابٍ مع القضاء اللبناني

بعد سنةٍ على وقوع التفجير الأسوأ في تاريخ لبنان، والأول على قائمة التفجيرات المرتبطة بمادة نيترات الأمونيوم عالمياً، لم يزلْ القضاء اللبناني عاجزاً عن تقديمِ أيّ إجاباتٍ شافية للشعب اللبناني حول ملابساتِ التفجير. ويبدو أن بوصلة التحقيق قد استقرّت حول "من امتنعَ عن إتلاف المواد المتفجرة أو نقلها خارجَ المرفأ؟" عوضاً عن "كيفَ وقع التفجير؟" و"من نفّذه؟" و"لماذا خُزّنَت المواد المتفجّرة في مرفأ بيروت طيلة سبعة أعوام؟" و"أينَ استُعمِل أكثرُها؟". وكأن القرار اتُخِذَ بالفعل لتصنيفِ التفجيرِ على أنه "حادثٌ" كما استعجَل وزيرُ داخليّتنا وصفَه بعد ساعاتٍ قليلة على وقوعِه. حادثٌ عَرَضي أشبه بانفجار قارورة غاز. "يتراءى لهُم"، قال فهمي حينَها بخفّة مُدهشة عن شهاداتِ كلّ من سمعَ هديرَ طائرةٍ أو دويّ صاروخ، محمّلاً "مفرقعاتٍ نارية منتهية الصلاحية" مسؤولية التفجير الأضخم في تاريخ بلده. بل إن خفّة وزيرِ أمننا الداخلي فاقت المعقول بتصريحه الشهير غداةَ التفجير: "بالتأكيد لا يوجد وزراء ورؤساء حكومات بين المسؤولين عن التفجير، التحقيق يحتاجُ خمسةَ أيام على الأكثر لإظهار المسؤول، والمسؤول سوف يُحاسَب كائناً من كان". بعد هذا التصريح بأحد عشر شهراً، حرصَ فهمي على عرقلَة مسار المحاسبة بنفسِه، رافضاً منح الإذن الإداري للتحقيق مع المدير العام لقوى الأمن العام، اللواء عباس ابراهيم.

بعد أيامٍ معدودة على وقوع التفجير، أظهرَت المراسلات الرسمية المسرّبة إلى وسائل الإعلام بأن جميع المتربّعين في القيادات الإدارية والأمنية والسياسية والقضائية كانوا يعلَمون بتخزين ترسانة نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، بمَن فيهم رئيس الجمهورية الحالي، ورؤساء الحكومة المتعاقبون منذ 2013، ووزراء المالية والأشغال والنقل والداخلية المتعاقبون منذ 2013، وقادة الأجهزة الأمنية الموجودة في المرفأ. بل إن النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات كانَ، هو الآخر، يعلَم، ومثلُه النائب العام العسكري في حينه القاضي بيتر جرمانوس! جميعُ حكّامنا، السياسيين والأمنيين والقضائيين، أَجمعوا، ويا للمُصادفة الغريبة، على عدم التحرّك لحمايةِ الشعبِ اللبناني من مخاطرِ تلكَ الترسانة. ويا لنُدرةِ الإجماعِ على أمرٍ في بلدِنا.

ورغم حسمِ مسألة "العِلم بالشيء" هذه باكراً وعلناً، لم يتمَ توجيه إصبعَ الادعاء إلى أغلبِ هؤلاء المسؤولين الكبار سوى بعد مرور 11 شهراً على بدء التحقيق في الجريمة، وكأن المحقق العدلي طارق البيطار استبَقَ "السنوية الأولى" للتفجير ليقدّمِ "شيئاً من العزاء" إلى أهالي الضحايا. هم الذين طالبوا منذ اليوم الأول للجريمة بمحاسبة المسؤولين في أعلى الهرم لا أسفلِه أو أوسطه. ووسطَ المفاجأة التي أظهرها هؤلاء المطلوبون الجدد من استدعائهم كـ"مدعى عليهم"، وهي صلاحية منحها للمحقق العدلي قانون أصول المحاكمات الجزائية ضد كل من يُظهر التحقيق إسهامه في الجريمة، حتى ولو لم يتضمنه ادعاء النيابة العامة التمييزية، تضافرت الهمم السياسية منعاً لمثول المسؤولين الكبار أمام القضاء. فكادَ المريبُ يقول خذوني.

ورغم تصريح وزير العدل الأسبق ابراهيم نجّار أنّ قائمة الادعاء التي فجّرها البيطار قبل شهر هي شبه مطابقةٍ لتلك التي كانت في جعبة المحقق العدلي الذي سبقه القاضي فادي صوان، إلا أن الأخير كان قد اكتفى قبيل تنحيته، وبعد أربعة أشهر من مباشرة مهامه، باستدعاء أربعة فقط من هؤلاء المسؤولين كـ"مدعى عليهم"، وهم رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب ووزراء المالية والأشغال السابقين، علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فينيانوس. قامت الدنيا ولم تقعدْ حينها، وثارت ثائرة كلّ من "الثنائي الشيعي" و"نادي رؤساء الحكومة السُنّة" من فِعلة صوان، فيما تقدّم خليل وزعيتر بطلب نقلِ الدعوى إلى قاضٍ آخر لعلّة الارتياب المشروع. وصدر القرار بتنحية صوان من منصبه ركيكاً واهياً عن محكمة التمييز الجزائية بغرفتها السادسة، مع مخالفةٍ خطية مُسهبة ومتينة للمستشار فادي العريضي. بعدها بأشهر قليلة، أعلنَ أحد الإعلاميين أن صوان تعرّض لتهديدٍ غير مباشر بقطّة مذبوحة وجدَها على عتبةِ باب بيتِه! هل أخافَت صوان القطة المذبوحة فرحّب بالتنحية؟ ولماذا اختارَ صوان أربعة مسؤولين كبار فقط لاستدعائهم كـ"مدعى عليهم" فيما استدعى البيطار 11 مسؤولاً، طالما أن القرينة ضدهم هي امتناعهم الثابت عن درء الخطر القومي عن شعبهم؟ بل لماذا لم يستدعِ البيطار رؤساء الحكومة الأسبقين كـ"مدعى عليهم" في حين استدعى وزراءً في حكوماتهم السابقة؟ هل يُعقَل أن يعلم فنيانوس وخليل وزعيتر من دون أن يعلمَ الحريري؟ ولماذا لم يطلبِ البيطار إحالة ملف رئيس الجمهورية ميشال عون إلى مجلس النواب للادعاء عليه أصولاً، بعدما ثبت "علمُ" الأخير وامتناعه عن الفعل، هو الآخر؟

أسئلة كثيرة لن يجيبَنا عليها المحقق العدلي راهناً، ولعله يهمسُ بها إلى صحافيين في اللقاءات "غير الرسمية" (off the record) التي يعقدها معهم في محاولتِه تكريسَ "شفافيةٍ قضائية ما"، أو لشحذِ دعمِ السلطة الرابعة في مواجهةِ الطبقة السياسية التي يبدو وكأنه شهرَ سيفَهُ لـ"محاسبتها". ووسط التزام المحقق العدلي عموماً بـ"موجب التحفّظ" حيال سرية التحقيقات التي يجريها، أدّت السلطة الرابعة دورها في إمداد الجمهور بمستجدّات التحقيقات وتسريباتِه، حتى زعمَ عددٌ من المسؤولين المطلوبين إلى التحقيق بأنهم تبلّغوا خبر استدعائهم كمدعى عليهم من وسائل الإعلام. وهو ما ندّد به الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله في انتقادِه لعمل المحقق العدلي، بعدما كانت حجّته مع صوان "ازدواجية المعايير". بل إن الصحافة الاستقصائية المحلية نجحت في الإمساك بطرفٍ مهمّ في خيوط التحقيق حيثُ أخفق القضاء أو قصّر، أكانَ لجهة الخبراتِ الفنية التي استعرضَها وشرَحها تباعاً، أو لجهة مصدر شحنة نيترات الأمونيوم وهوية شاريها.


وفي المحصلة، يمكن تلخيص منجزات التحقيق في تفجير مرفأ بيروت بالتالي:

توقيف 25 مدعى عليهم بُعيد وقوع التفجير بجرائم الإهمال والتقصير والتسبب بوفاة وحالات عجز وأضرار بشرية ومادية، أغلبهم موظفون إداريون وأمنيون في المرفأ، وإخلاء سبيل 13 موقوفاً منهم بين نيسان وحزيران 2021؛

طلب التعاون الفنّي والتقني ومشاركة المعلومات من دول عدة، وتسلّم تقارير أميركية وبريطانية وفرنسية تضاربت الأنباء حول مضمونها، فضلاً عن تقارير استقصائية أعدّتها كل من شعبة المعلومات في الأمن الداخلي، ومديرية مخابرات الجيش، وجهاز أمن الدولة؛

تعميم مذكرات توقيف دولية عبر منظمة الإنتربول الدولية بحقّ كلّ من مالك سفينة "روسوس" الأوكرانية التي نقلت شحنة نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، وقبطانِها، وتاجرِ النيترات الذي كشفَ عليها في مرفأ بيروت خلال العام 2014؛

الاستماع إلى إفادة العشرات من الأشخاص كـ"شهود" وبينهم وزراء وقادة عسكريون؛

تخصيص فريق فني من أجل تنفيذ "محاكاة" لتفجير مرفأ بيروت (بسريّة تامة)؛

وأخيراً، استدعاء 11 مسؤولاً رفيعي المستوى كـ"مدعى عليهم" بعد 11 شهراً على بدء التحقيق، وهم: رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، ووزراء المالية والأشغال والداخلية الأسبقين، علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس ونهاد المشنوق، تِباعاً، وقائد الجيش السابق العماد جان قهوجي، ومدير قوى الأمن العام اللواء عباس ابراهيم، ورئيس قوى أمن الدولة اللواء طوني صليبا، ومدير مخابرات الجيش الأسبق العميد كميل ضاهر، والعميدان السابقان في مخابرات الجيش غسان غرز الدين وجودت عويدات، فضلاً عن إحالة ثلاث قضاة إلى التحقيق في القضية.


"نهائي وحاسم"

أما عن خلاصة التحقيق، فلقد ألمحَ إليها البيطار في لقاء مع صحافيين في مكتبه مطلعَ حزيران الماضي، قبيل استدعائه المسؤولين الكبار الجدد للتحقيق معهم كـ"مدعى عليهم". إذ صرّح البيطار آنذاك بأن مرحلة التحقيق التقني والفني "شارفت على الانتهاء"، وأعرب عن ثقته بـ"الوصول إلى الحقيقة وتحديد المسؤولين" محدّداً مدّة شهرين من تاريخه "لتتوضّح أسباب الانفجار بشكل نهائي وحاسم". وقد مرّت مهلة الشهرين بالفعل من دون أن يعلنَ البيطار بعد عن أسباب وقوع جريمة مرفأ بيروت بشكل "نهائي وحاسم"، ولعلّه يعلن عنها اليوم أو خلال أيام.

كما تحدّث البيطار عن تخصيص فريق تقني لتنفيذ "محاكاة" للتفجير من أجل التثبت من أن عملية التلحيم قادرة على افتعال التفجير. فماذا إذا فشلت المحاكاة في إثبات فرضيته هذه، هو الذي استبعدَ على ما يبدو فرضية الاعتداءين الداخلي والخارجي؟ المهم كذلك ما نُقِل عن البيطار من استبعادِه لدورٍ سوريّ في شحنة نيترات الأمونيوم بحجة أنّ شركة "سافارو" ليست شركة وهمية وإنما حقيقية سجّلت نشاطاً تجارياً خلال العامين الماضيين (هل يكفي ذلك لبترِ هذا الخيط المهمّ من خيوط التحقيق؟). مع العلم بأن البيطار لم يستدعِ إلى التحقيق أياً من الأشخاص المرتبطين بشركة "سافارو" أو من رجال الأعمال السوريين الثلاثة الذين تداول الإعلام المحلي والأجنبي أسماءهم على أنهم مرتبطين بها، وهم: جورج حسواني (الخاضع لعقوباتٍ منذ سنة 2015 من وزارة الخزينة الأميركية بسبب تسهيله شراء النفط لصالح نظام بشار الأسد من قوات "داعش" الإرهابية)، والشقيقان عماد ومدلل خوري. والأخيران يخضعان لعقوباتٍ من الخزينة الأميركية منذ سنة 2015 كذلك بسبب وساطتهما في شراء شحنات من مادة نيترات الأمونيوم (أجل!) لصالح نظام الأسد. في هذه الأثناء، تقدمت مارينا بسيللو، المديرة الصورية لشركة "سافارو" (و لـ157 شركة أخرى!) بطلب رسمي لحلّ الشركة في بريطانيا من دون أن يطلبَ المحقق العدلي التحقيقَ معها.

وبدا لإعلاميين اجتمعوا "بشكلٍ غير رسميّ" (off the record) مؤخراً بالمحقق العدلي، أنه قد حسَمَ أمره نهائياً في استبعاد فرضية افتعال التفجير، ما يُبقي له فرضية وحيدة هي: "القضاء والقدر". كل ذلك مع شحّ موارد التحقيق في قضيةٍ بحجم تفجير بيروت، بشرياً ومادياً، ومع تجاهل معطيات عدة مرتبطة:

استعجال أغلب السياسيين اللبنانيين إلى تبنّي نظرية "الحادث" قبل البدء بأي تحقيق؛

تضارب المواقف الرسمية لدولٍ عدة عقبَ التفجير وصفته سنداً لمعلوماتها الاستخباراتية بـ"الاعتداء الخارجي" قبل أن تتراجع عن وصفِها هذا سريعاً، ومنها الولايات المتحدة الأميركية؛

ترجيح خبراء دوليين أن التفجير ناجم عن كمية تتراوح بين 300 و550 طناً من نيترات الأمونيوم، ما يعني أن أكثر من أربعة أخماس الشحنة التي دخلت مرفأ بيروت نُقلت إلى مكانٍ آخر؛

تأكيد مصادر علمية مختلفة أن نيترات الأمونيوم مادة لا يمكن أن تشتعل من تلقائها، ولا تكفي عملية "لحم" بوابة المستودع الذي كانت مودعة فيه لإشعالها؛

إشارة تقارير مختلفة إلى وجود مواد أخرى قابلة للاشتعال في المستودع الذي كانت نيترات الأمونيوم مُخزّنة فيه، منها 50 طناً من فوسفات الأمونيوم، وخمس لفات من الفتيل المشتعل، و100 عجلة سيارة و23 طناً من المفرقعات النارية، فضلاً عن "وقود صاروخي" عُثر على قواريره عائمة قبالة شواطئ المرفأ بعد التفجير؛

ما نقلته مصادر دبلوماسية لصحيفة "إندبندنت العربية" عن رسالة فرنسية بُعِثَت بتاريخ 22/7/2020 إلى مقرّ الاتحاد الأوروبي وسط بيروت تدعو إلى إخلائه لاحتمال وقوع حادثٍ أمني؛

اندلاع حريقين في مرفأ بيروت في 8 و10/9/2020 أثارا الشكوك حول تلاعبٍ بمسرح الجريمة؛

شهادة العشرات (على الأقلّ) من سكان بيروت بسماعِ هدير طيارةٍ/مسيّرة أو صاروخ قبيل التفجير؛

الرأي القانوني الداعي إلى تفسير جريء للدستور والنظام الداخلي لمجلس النواب لعدمِ الأخذ بالحصانة النيابية للنواب خليل وزعيتر والمشنوق في ضوء ارتباط استدعائهم بوظيفتهم السابقة كوزراء؛

اغتيال الصحافي لقمان سليم بعد اتهامه "حزب الله" بالمسؤولية عن تخزين شحنة نيترات الأمونيوم.


تدويل التحقيق؟

منذ وقوع التفجير، دعت جهاتٌ عدة إلى تدويل التحقيق من دون تحديد شكل التدويل، نظراً لجسامة التفجير وطبيعته، ووقوعه في مرفق استراتيجي إقليمياً، وتخطيه الحدود اللبنانية إلى المياه الإقليمية، وتعريضه السلم والأمن الإقليميين للخطر، ولعجزِ القضاء اللبناني تاريخياً عن معالجة جناياتٍ خطيرة تمسّ بالمجتمع اللبناني ككلّ، كجرائم الاغتيالات السياسية (منذ اغتيال الحريري في شباط 2005 وحتى اغتيال لقمان سليم في شباط 2021) وجرائم العصابات المسلّحة ("حرس مجلس النواب") والجرائم المالية الدولية (تبييض الأموال وتمويل جرائم الإرهاب والنزاعات المسلّحة) وغيرها. أولى هذه الدعوات تمثّلت برسالة مفتوحة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس وقعها 38 مقرراً وخبيراً أممياً في جنيف بتاريخ 13/8/2020، وطالبوه فيها بالتدخل لدعمِ العدالة التي ينشدُها اللبنانيون، وآخرها برسالةٍ وجهها 25 عضواً في الكونغرس الأميركي إلى وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن بتاريخ 24 أيار 2021، دعوه فيها إلى "قيادة الدعوات إلى إجراء تحقيق محايد بقيادة الأمم المتحدة". طالبت بتدويل التحقيق كذلك منظمات غير حكومية دولية رائدة في مجال مناصرة حقوق الإنسان بينها "منظمة العفو الدولية" و"هيومان رايتس ووتش".

لبنانياً، استعجلَ معارضو تدويل التحقيق إلى التحذير منه، مستذكرين عثرات تجربة لجنة التحقيق الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري. ولكنهم أغفلوا أن في جعبة الأمين العام للأمم المتحدة، منفرداً، صلاحية تشكيل لجان تقصي دولية خارج إطار مجلس الأمن، للتحقيق في الجرائم التي تتأثّر بها ممتلكات الأمم المتحدة وموظفوها في أرجاء العالم. وقد تضررت مباني الأمم المتحدة وسط بيروت بتفجير الرابع من آب 2020 كما أصيبَ عددٌ من موظفيها بجروحٍ من جرائه. وبهذه الصلاحية، أنشأ الأمين العام منذ العام 2016 لجان تحقيق مستقلة عدة من خبراء جنائيين دوليين مشهودٌ لهم بكفاءتهم واستقلاليتهم، للتحقيق في جرائم وقعت في فلسطين والسودان وسوريا. من شأن لجنةٍ كهذه تعملُ بموازاة القضاء اللبناني ومن دون التدخّل في عمله أن تحفظَ (لربما) شيئاً من الحقيقة لأهالي ضحايا التفجير وللشعب اللبناني، ولن يكونَ بمقدور لبنان حكومةً وقضاءً الامتناع عن التعاون معها، فيما دستورُنا ملتزمٌ بشرعة الأمم المتحدة ومواثيقها.

أما بعد، فاليومَ يوافقُ الذكرى السنوية الأولى لتفجير "الرابع من آب". وبعد أربعةِ أيامٍ تحلّ ذكرى جرائم "الثامن من آب". قبل عامٍ قلنا عن هذه الجريمة الكُبرى إنها الضربة القاصمة التي ستغيّر التقويمَ اللبناني إلى "ما بعد وما قبل تفجير بيروت"، ثم بعدَ أربعة أيام فقط، فقأت عصابةُ "حرس مجلس النواب" عيونَ المتظاهرين المحتجين على التفجير وخردقت أجسامهم بسلاحٍ محظّر دولياً. وحينَ طلبَ المجني عليهم المفقوءة عيونهم من النائب العام التمييزي غسان عويدات أن يُحاسبَ فاقئي عيونهم، حَفظَ الشكوى "لعدمِ كفايةِ الدليل". هي "النيابة العامة" عينُها التي تمثّل "الحقّ العام" في قضية تفجير مرفأ بيروت، والتي حصّنت بلا خجلٍ أحد المطلوبين الكِبار إلى التحقيق (اللواء عباس ابراهيم) بواحدةٍ من المطالعات الفذّة التي تفيضُ بها جعبتُها.


أما بعد، كلّ عامٍ ونحنُ بلا عدالة.

تعليقات: