عاشوراء الجنوب: لا حلويات تُوزَّع عن روح الحسين


عاد إحياء شعائر عاشوراء في الجنوب إلى سابق عهده، بعدما منعت جائحة كورونا أحياءها العام المنصرم. ويعيش الجنوبيون ذكرى هذه العام مضاعفة الألم والظلم والمعاناة. فشعارات عاشوراء لم تعد مجرد عبارات يكتبونها على اللافتات السود ويعلقونها على أبواب منازلهم أو يزينون بها صورهم على مواقع التواصل. بل بات لتلك الجمل اليوم معنى وحكايات تختزل معاناة كل أسرة جنوبية، أسوة بمعاناة اللبنانيين جميعاً.

تقشف عاشورائي

ألقى الانهيار المالي والاقتصادي الشامل بظلاله على عاشوراء هذا العام. فلم ترتفع الرايات الحسينية، كما في السابق، على أعمدة إنارة الشوارع. ولم تتشح القرى بالسواد المعتاد كلما حلت الذكرى. لا أكواخ توزع الطعام على المارة، ولا سيارات تجوب الشوارع حاملة أصنافاً متنوعة من الأطعمة: كبسة، هريسة، لحوم، فراريج. وحتى الحواجز التي كانت تنصب في السابق وتوزع الحلويات على المارة عن روح الحسين، اختفت تماماً.

في عاشوراء قبل العام 2019، كان يكفي أن تقود سيارتك من قرية حاريص في الجنوب إلى قرية جويا، لتكون قد جمعت حاجات عائلتك من الطعام ليوم كامل، بما فيها الحلويات والعصائر. هذا كله اختفى في ذكرى هذه السنة العجفاء.

عاد الجنوبيون إلى عاداتهم القديمة: راحة الحلقوم بين قطعتي بسكويت، توزع في مجالس العزاء العاشورائية مساءً. وأحجم كثيرون عن ارتيادها خوفاً من فيروس كورونا. وكذلك اختفت علب الهريسة كانت توزعها حركة أمل وحزب الله.

جهاد البقاء

لكن اللافت ليس اختفاء هذه المظاهر فحسب، بل إن غنائية الموت والأناشيد التي اعتاد الجنوبيون إنشادها في كل عام، خفت بريقها. لقد صار اليأس اليوم شاملاً تقريباً، بعدما كانت بيوت الجنوب دافئة أيام البحبوحة، والليالي تنيرها كهرباء لا تنقطع إلا نادراً، والأغذية تفيض عن حاجات السكان، فيلقى بعضها الفائض في سلال المهملات، بعد وجبات الطعام. وكانت مكبرات الصوت في المآذن لا يسكتها انقطاع في التيار الكهربائي أو التقنين. وأغنية الموت لم يعد ينشدها اليوم سوى أولئك المنكفئين إلى منازلهم، مطمئنين لدفء عائلاتهم في زمن القلة والتقشف. يرددونها بخفوت من دون تمتعهم بالطيب من الطعام. ففي زمن الوفرة الراحل، خلال ذكرى عاشوراء المنصرمة، كان الجنوبيون يتركون انطباعاً أنهم ارتدوا الأكفان ومستعدين للموت على مذبح حنينهم لواقعة كربلاء في ذلك الزمن الغابر، ويشعل حماستهم صوت قارئ عزاء شاب.

أما اليوم فهم يواجهون الموات والبؤس والفقر، مواجهة حقيقية وواقعية، بلا شعائر ولا طقوس مستمدة من ذلك الزمن الغابر. لا وقت لديهم اليوم للأناشيد والأغاني والطقوس، وقلما يستحضرون أغاني الموت ويتمنونه، فيما هم يجاهدون جهاد البقاء.

حزن حقيقي

لقد أرخى الانهيار بظلاله على عاشوراء. توقفت العائلات المتدينة عن إقامة مجالس العزاء الخاصة في المنازل، كما تعودت في الأعوام السابقة. فمجالس هذه الذكرى تقتصر على ما تنظمه البلديات أو الأحزاب، بأقل ما توفر، بعدما كانت العائلات تتسابق في تحضير الهريسة، وتتنافس النساء لتحضير الأشهى منها. فتحاول كل سيدة أن تضيف إليها المزيد من الدجاج والتوابل لتتفوق على جارتها. وكانت المآذن لا تتوقف عن قراءة الأدعية الحزينة وتلاوة القرآن. وفي الصباح، حينما كانت تجلس النساء لاحتساء قهوتهن، كن يشدن بصوت قارئ العزاء الفلاني وقدرته على استدرار الدموع من العيون التي تجري على المقل، ثم تتسابقن لحجز هذا المقرئ أو ذاك، كي يتلو مجلس عزاء في أحد المنازل.

لكن في الأيام العاشورائية هذه، تتجالس نساء القرى، لتدور على ألسنتهن في الصباح الباكر أخبار رفع الدعم عن الوقود، والسعر الجديد لصفيحة البنزين، أسعار اللحوم، الدجاج، الخضر، ومستلزمات المنازل. وسرعان ما تسمع شهقات استغراب وذهول بين الحين والآخر.

فتقول سيدة إنها لم تدخل اللحم إلى بيتها منذ أشهر. سيدة أخرى لم يعد باستطاعتها دفع اشتراك المولد الكهربائي. تأوهات حزينة تشوب أحاديث التقشف والقلة. فتعرج امرأة في كلامها على الحديث عن مريض عاجز عن تأمين ثمن دوائه.

عبء الانهيار يثقل كواهل الجنوبيين، فتركوا حنينهم إلى أرض كربلاء ليجمعوا شتات حياتهم، أو ما تبقى منها. وهم الذين اعتادوا شظف العيش لسنوات كثيرة قبل زمن البحبوحة، عينهم الآن على أولادهم، أي مستقبل يتركونه لهم؟ أي يوم سيكون يومهم؟

تعليقات: