الصينيون يرفضون الشوكة والسكين لأنهما توحيان بالعنف..
فرنسا (غرونوبل):
قبل عقدين أو ثلاثة عقود، كان الحديث عن طريقة الأكل الصينية، حدثاً فريداً، لا يمكن لأي كان الحديث عنه، ما لم يكن قد زار الصين أو الولايات المتحدة الأميركية، حيث تكثر أحياء المهاجرين الآسيويين بكامل تنوعاتها العرقية والدينية. كان الحديث صعبا. فوسائل الإعلام لم تكن موجودة بالقدر الذي هي عليه اليوم. وفكرة تصدير طرق الأكل الوطنية وغيرها لم تكن داخلة، ضمن الاستراتيجيات السياسية والتجارية للدول. كما أن أحداً، لم يكن يهتم بمشاهدة التلفزيون الصيني، ليتعرف الى بعض العادات والتقاليد الثقافية الصينية. اليوم الوضع أصبح مختلفاً بشكل كبير، فرغم أن الناس لا يفهمون اللغة الصينية ولا يشاهدون الفضائية الصينية إلا أنهم، في غالبيتهم، أصبحوا يعرفون أو سمعوا بالطريقة التي يأكل بها الصينيون طعامهم. فبفضل تنوع مصادر المعرفة، إضافة الى الميزات التي أدخلتها العولمة الى معظم الصناعات بما فيها صناعة الأكل، يمكننا اليوم أن ندخل الى مطعم صيني في أي مكان في العالم. فحتى القرى النائية جداً في بعض البلاد، التي تشهد اهتماماً سياحياً من أنواع مختلفة، بات الأكل الصيني يوجد بها كما لو أنه جزء من الثقافة السائدة عالمياً. الأمر مختلف كلياً، فالطريقة التي يأكل بها الصينيون أو معظم سكان شرق آسيا هي واحدة، لكن الصينيين هم من اكتشفها قبل ثلاثة آلاف عام. وتعتبر طريقة الأكل بالعيدان الصينية (des baguettes Chinoises) فلسفة قائمة بحد ذاتها، تبين الاتجاه اللاعنفي في الثقافة الصينية. كما أنها تستعمل في اليابان وفيتنام وكوريا وتايوان. وهي أصبحت تسمى بالانجليزية (chopsticks) بحسب رطانة انجليزية صينية تعني قطعة قطعة. وتشير الى عامل السرعة في الأكل الذي يسميه الصينيون (kuài) باللهجة الصينية، ودلالتها الخيزران، بحيث تصبح الخيزران السريع. وكانت الكلمة قد تنقلت من معانٍ كثيرة قبل أن ترسو على هذا المعنى، الذي يضمن لها علاقة بالحياة المعاصرة في الصين وخارجها. وقد ثبت أيضاً أنها توجد حاليا في مناطق من التيبت ونيبال بسبب التأثيرات الثقافية بين هذه البلدان والصين. ومع أن الكلمة تدرجت في اللغة الصينية إلا أنها باللغة اليابانية تعرف باسم (hashi) وهي كلمة لا دلالة لها سوى أنها تعرف من الاستعمال اليومي للفرد الياباني. غير أنها في كوريا تسمى عصا الطعام فقط لا غير، من دون أن يكون لها أي معنى آخر أو كلمات محلية. أما في فيتنام فاسمها باللهجة المحلية (dua). وهي كلمة مأخوذة من اللغة الصينية التي تعني العيدان. تكشف الحفريات، كذلك المراجع التاريخية الصينية وبعض المراجع لدول وقوميات أخرى مثل منغوليا بأن استعمال هذه العيدان بدأ في الصين القديمة في عهد أسرة شانغ 1600 ـ 1100 قبل الميلاد. وقد نادى باستعمال هذه العيدان الفيلسوف كونفوشيوس 551 ـ 479 قبل الميلاد. وحدد طرق استعمالها، بحيث تكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالثقافة السلمية التي كان ينادي بها هذا الفيلسوف. ومن ناحية أخرى، فقد تم اكتشاف أدوات مشابهة لها في منطقة المجدل في فلسطين، كانت تستعمل أيضاً في الطعام في الفترة التي سبقت مجيء الرومان الى منطقة الحوض الشرقي للبحر المتوسط. وهو الأمر الذي يكشف التبادل الثقافي بين هذه المنطقة في المتوسط وحضارات شرق آسيا، حيث كان التبادل التجاري يتم من خلال القوافل التي كانت تجوب طريق الحرير وتترك في كل المنطقة المحيطة به آثارها الثقافية. يعتبر الصينيون بأن العيدان هي امتداد للأصابع. إذ ان الأكل باليدين من دون استخدام هذه العيدان يعتبر عملاً بربرياً ومشيناً جداً، يعبر عن عدم تشرب الثقافة المحلية وبالتالي نقص المعرفة وآداب السلوك. في حين أنهم يعتبرون الأكل بالشوكة والسكين عملاً وحشياً، فهذه الأدوات تعتبر من أدوات الحرب والعدوان. وبالتالي فإن مجرد حملها على طاولة السفرة في الثقافة الصينية يعد إعلان حرب من طرف واحد على بقية الأطراف المجتمعة حول طاولة السفرة. وحتى لو كان الأمر أشبه بالتهكم، هنا، إلا أن لثقافة الشعب مكانة واحتراما لا يمكن المس بهما. وفي ما يتعلق بالثقافة الصينية التي تشمل نواحي الحياة كافة وتتدخل فيها عوامل دينية وفلسفية كثيرة وقديمة جداً. فإن السلوك الاجتماعي يعد من الناحية المبدئية بمثابة القوانين الإلزامية لا مجرد الأعراف. أما في كوريا فلا يتم أكل الأرز فيها إلا من خلال استعمال كاسة (زبدية) على خلاف معظم الدول التي تستخدم عيدان الأكل طريقة رسمية في تناوله. ومن القواعد الأساسية في استخدامها والتي هي ضرورة حتمية، استعمال اليد اليمنى لا اليسرى، حتى لو كان الشخص الذي يستعملها أعسر. ويشير عدد من المؤرخين لطريقة استعمال العيدان بأن هذه القوانين موجودة ضمن الأساطير الصينية المتداولة منذ آلاف السنين. ويلاحظ لتسهيل استعمالها بأن الطباخين يقطعون اللحوم والخضراوات الى قطع صغيرة حتى يسهل حملها في العيدان، فكل شيء على المائدة هو صغير الحجم. تماماً، كما يمكن لأي متذوق أن يتلمس هذا الأمر في المطاعم اليابانية الذائعة الانتشار اليوم الى جانب المطاعم الصينية. فلا يمكن على سبيل المثال تناول قطعة كبيرة من لحم البقر الفرنسي بعيدان الأكل، حيث لا يمكن تقطيعها بهذه الوسيلة السلمية. ويحدد الصينيون طريقة الأكل بهذه العيدان، كما يحددون آداب التعاطي معها على المائدة. فهم يحذرون على سبيل المثال من ضرورة عدم استخدامها على الشكل التالي: • ألا توضع العيدان في الأطباق التي تتغير على المائدة.
• ألا يتم تحريك هذه العيدان في الهواء حتى لا تجلب الفأل السيء لمستعملها من جهة وحتى لا يعتبر من يشاركه المائدة بأنه يهدده بها.
• حين يريد أي شخص على المائدة التحدث مع الآخرين عليه أن يضع هذه العيدان الى جانبها ومن ثم يبدأ الحديث، إشارة الى التوقف عن الأكل والبدء بأمر مهم. • يجب على مستعملها أن لا يلعب بها في الصحن حين يكون قد انتهى من الأكل لأن ذلك يضر بشخصية المائدة.
• عدم الإشارة أمام الآخرين الى نوعية العيدان التي تأكل بها أو نوع المواد المصنوعة منها، ذلك أنه من الممكن أن يكون اهانة لمن لا يملك عيدانا من نفس المواد.
• لا يمكن الإمساك بالعيدان بطريقة توحي بطريقة استعمال الأدوات الحربية.
• لا يمكن أن تنقل الطعام بالعيدان من صحنك الى صحن آخر.
• في الحالة التي تتشارك فيها مع شخص آخر من الصحن نفسه عليك تقديم العصي للآخر أولاً، لا أن يتم التصرف بشكل أناني.
أما بعض الآداب المرتبطة بها، خاصة في المطاعم، فهي لا تنفصل عن ما سبقها من تحذيرات. فيعتبر من الممنوعات كسر العيدان بعد الانتهاء من الأكل حتى لو كانت ذاهبة بعد ذلك الى النفايات. لأن ذلك يرمز الى الموت لا الى الحياة. وبالتالي تنكسر القاعدة الذهبية التي تقول بأن الناس يأكلون من أجل استمرار الحياة لا من أجل الموت. وفي المطاعم الصينية التقليدية لا يمكن للنادل جلب الفاتورة إلا بعد رؤيته العصي موضوعة على الطاولة بطريقة متساوية بين أطرافها، ما يعني الانتهاء من الأكل، كما أن الأطباق عادة ما تقدم قبل العيدان في طريقة ربما تكون ذكية لمعاينة الأكل قد البدء به. كما من الضروري والمهم الأخذ برأي الأكبر سناً لأنه الأقدر على تحديد جودة الطعام من عدمها. كما أنها ترمز الى القتلى في ساحات الحرب، حيث يصطفون بطريقة تشبه وضع العصي من دون طعام على المائدة فالحياة لا يمكنها أن تترافق مع الموت في مكان واحد. أما في حالات أخرى كمثل أن يكون الشخص مدعواً الى مائدة الغير، فمن الضروري أن لا يجلب معه عيدانه الخاصة لأن هذا التصرف يعتبر خاصاً بالمتسولين لا بأصحاب الذوق والقيمة الرفيعة. تعتبر صناعة عيدان الطعام في الصين واليابان والدول الأخرى التي تستعملها من الصناعات القومية المحلية التي يختص بها صناع مميزون ومحترفون. وهي تعرف حسب حجمها وطريقة صناعتها لأي بلد تنتمي. فالعيدان المصنوعة في الصين عادة ما تكون طويلة ودقيقة الرأس وهي إما مصنوعة من الخشب أو الخيزران أو البلاستيك الذي أدخل الى هذه الصناعة حديثاً. أما العيدان المصنوعة في كوريا فهي تشبه الملعقة عند رأسها الذي يكون عادة غير دقيق للقدرة على الإمساك بالطعام. وفي اليابان عادة ما تتم صناعتها من الأخشاب ويتم طليها بأنواع خاصة من الملونات التي لا تسبب أي نوع من التسمم عند استعمالها في الطعام. وفي وقت تصنع هذه العيدان بشكل خاص من الأخشاب، فإنها عادة ما تصنع من الذهب والعاج أو من الفضة الخالصة عند كبار وعلية القوم.
تعليقات: