بعد إقفالٍ دام أشهراً بسبب كورونا، أعيد افتتاح معرض فنان الغرافيتي بانكسي ليستمرّ حتى شهر كانون الأول (ديسمبر) في فضاء «لافاييت- دروو» في باريس. كُرّس المعرض لتجربة نجم فنان الشارع، الذي استحال فناناً عالميّاً. يحتوي المعرض على تجهيز ما يُقارب مئة عمل موزّعة على مساحة 1200 متر مربّع. «هي سعادة حقيقيّة لكلّ محبّ لفنّ الشارع» كما جاء في تعريف المعرض. منذ بداياته، يُدهش بانكسي المشاهدين، ويُثير الأسئلة من خلال أعماله الكثيرة والجميلة والمعبّرة، ولا سيّما غموضه كفنان سرّيّ يُحاول كثيرون اختراق جانبه هذا. يحب كثيرون التقاط الصور إلى جانب أعماله من لندن إلى نيويورك مروراً بباريس... بانكسي في كلّ مكان، حتى في فلسطين.
نسمع كثيراً باسم Banksy المُشاغب الذي تثير أعماله ورسوماته وخربشاته، على الجدران وفي الأماكن العامة، جلبةً وتساؤلات حوله وحول أمثاله من الفنانين (خفافيش الليل)، الذين يحوّلون الأحداث إلى أشكال وتعليقات بطابع جماليّ استفزازيّ جديد على المشاهد العادي الذي لم يعتد هذا النوع من الفنون التشكيليّة. فمن هو بانكسي، وماذا تعني هذه المفردة «غرافيتي»؟ وما هو الدور الذي يلعبه هذا النوع من الفنون؟ وما هي الإشكاليّات التي تثيرها في الشارع والمجتمع؟
نشأ هذا الفن من خلال الرسم ببخاخات الأصباغ على الجدران العامة في الشوارع والساحات والحدائق، وقد امتدّ الأمر إلى القطارات ومحطات المترو. ولا يقتصر الأمر على تلك الدعامات، أو الحوامل، بل قد يُغطي أبنية بكامل طوابقها وارتفاعاتها. يرتبط هذا الفن بجيل الشباب، فهو يتطلب مهارة وخفة وهروباً سريعاً عند اللزوم. وهو يُعتبر وسيلة احتجاجية ذات دلالات سياسية واجتماعية ودينية، وما شابهها... يتمّ تنفيذه بسرعة فائقة خوفاً من إلقاء القبض على منفذيه من قبل السلطات التي تمنع هذا النوع من الفنون بسبب تطرّفه ولذعاته التي لا ترحم، والتي ترى فيه تشويهاً للأمكنة. فهو، إذاً، مُرسلة موجّهة إلى السلطات والعامة على اختلاف مشاربها وثقافتها وجنسيّاتها وأعمارها. فنٌ نابع من نبض الشارع. تعدّدت أسماء الفنانين وصفاتهم، لكن يبقى أبرزهم بانكسي وكيث هارينغ وميشال باسكيا وميك وتاكي 183...
يقول أحد الفنانين: «إذا أردتَ أن تعرف ماذا يحدث في مدينة ما، فانظر إلى الكتابات التي على جدرانها».
بدأ هذا الفن في ستينيّات القرن الفائت في أميركا وبريطانيا قبل أن يستحيل تظاهرةً عالمية كوزموبوليتية. وهناك من يُرجع أصوله إلى فترات بعيدة في التاريخ كمغارة «لاسكو» و«ألتاميرا» كوسيلة أولى للكتابة والتعبير في التاريخ البشريّ. وهناك كشوفات لنقوش ورسوم أرَّخَت لفن الجداريّات في بلاد الرافدين قبل ثلاثة آلاف عام، أو شمال الجزيرة العربيّة، قبل أن ينتقل إلى أوروبا خلال العهدين اليوناني والروماني.
تقوم تقنيّته على استعمال الرشّ بالبخاخات (السبراي) ليأتي الرسم سريعاً. منهم من يلجأ إلى قصّ الكرتون ليكون كليشيهاً للرش داخل فتحاته أو أشكاله المفرّغة لينطبعَ الرسم على الحائط. وقد تدوم هذه الألوان والأشكال والكتابات عشرات السنين إذا لم تتمّ إزالتها أو العمل فوقها أو تخريبها من قبل فنانين آخرين.
الغرافيتي
تتألف الغرافيتي من كلمتين: «التاغ» و«الغراف»: الأولى عبارة عن تواقيع مشفّرة للفنان على رسمه، وهو أساس الغرافيتي. والثاني هو أشكال ورسوم ملوّنة متقنة الصنع شبيهة بالعمل الفني أو اللوحة. والغرافيتي هو نتاج جمع كلمة إيطالية «غرافيتو» تعني الكلمات المطبوعة على الجدار. وهو يُعتبر أحد أركان فن «الهيب هوب» الناتج عن الرقص مع موسيقى الراب وأغانيها حيث يروي الفنان قصصاً نابعة من حياته الخاصة مع بعض الخيال في أغنية بإيقاع سريع، يُصاحبها رقصٌ يتميّز بالخفة والموهبة. جاء هذا النوع من الرقص كردّة فعل على موسيقى الديسكو آنذاك. أما الكلمات، فتتمحور حول الطابع الإنساني والدعوة إلى السلام والتسامح ومحبة الآخر ونبذ العنصرية. وقد أصبح الهيب هوب أسلوب حياة لكثير من الشباب، وهو يعني «مخالفة السائد بشكل فاضح»
مدينة الجداريات
بدأ هذا الفن في مدينة نيويورك الأميركيّة في ستينيّات القرن الفائت، خصوصاً في أحياء «هارلم» السوداء على يد أبرز فنانَين اثنين: خوليو 204 وتاكي 183. أمّا مدينة فيلادلفيا، فتُعتبر الأبرز من بين مدن العالم التي تتوزع فيها رسوم الغرافيتي. فهي تترّبع على عرش ملكات هذا الفن. أطلق عليها بعضهم لقب «مدينة الجداريات». يقصدها سنويّاً ملايين السيّاح والزوّار لرؤية الرسوم الموزّعة على أمكنتها الخارجيّة. كما يحجّ إليها الفنانون من مختلف أنحاء العالم لاكتساب الخبرة والمهارة من رسّاميها المحليين. من هذا المنطلق، يمكننا اعتبار هذا النوع من الفنون عامل جذب سياحي للمدينة بالرغم من ملاحقة الدولة للفنانين الذين يُعتبرون خارجين عن القانون العام بتنفيذهم لهذه الرسوم في الأماكن العامة والخاصة. هناك فنانة تُدعى جاين غولدن قامت وحيدة برسم ما يفوق الألفين وسبعمئة لوحة جدارية في المدينة، فاعتُبرت هذه الفنانة علامة فارقة. وهناك أيضاً باريس التي ازدهرت فيها كتابة الشعارات أثناء أحداث 1968 والثورة الطلابيّة الشهيرة التي قلبت موازين الحياة في المجتمع الفرنسي. وما لفت انتباهي أثناء زيارتي مدينة جنيف السويسريّة عام 2001 هو كثرة الجداريات والغرافيتي فيها؛ فقد تحوّلت المدينة إلى لوحة فنيّة، بل قل تحفة ومُتحفاً في الهواء الطلق، تُضاف إليها المنحوتات الموزّعة في مختلف أنحاء المدينة.
روبرت بانكسي
هو رسام انكليزي من مواليد بريستول عام 1974. بدأت أعماله في هذه المدينة، وفي لندن، ثمّ انتقل إلى أمكنة أخرى في العالم كنيويورك ولوس أنجلوس. بعيد عن الإعلام وغامض، يوصل رسائل احتجاجيّة بمضامين اجتماعيّة وسياسيّة وبيئيّة. اعتاد الجمهور أعماله، فيقوم بانتظار كل جديد له نظراً لما يُحدثه من ضجّة وأسئلة وفضائح. وما زال هذا الفنان يُثير اهتمام وسائل الإعلام من وقت إلى آخر حيث تحوّل إلى أحجية ورمز للتمرّد والأكشن. أعماله كوميديا سوداء مناهضة للحرب والرأسمالية والمؤسّسة الحاكمة، وغالباً ما تشتمل موضوعاته على الفئران والقردة ورجال الشرطة والجنود والأطفال والمسنين.
لم تقتصر أعمال هذا الفنان على الغرب، بل امتدّت إلى الشرق الأوسط، وبالأخصّ الضفة الغربيّة في فلسطين المحتلة التي زارها منفّذاً فيها أعمالاً مختلفة، ساخراً من المحتل الإسرائيلي وعنصريّته وشراسته. رسم على الجدار العازل الذي بناه الصهاينة للفصل بينهم وبين الفلسطينيّين. من أبرز هذه الأعمال رجل يقوم بكشف الجدار كرداء أظهر زرقة البحر والسماء بمثابة رفض لهذا الجدار. أما العمل الأبرز فيُمثل طفلة فلسطينيّة تقوم بتفتيش الجندي الإسرائيلي في عمليّة معكوسة. وهناك رسم يُمثّل فتى يرمي بالورد، وآخر لطفلة فلسطينيّة تتعرّض للتفتيش، والموناليزا التي تحمل قاذفة آر. بي. جي. وغيرها... حصل بانكسي في 2007 على جائزة أفضل فنان يعيش في بريطانيا التي وزّعتها قناة «أي تي في» البريطانيّة. وكما كان متوقعاً، لم يحضر بانكسي لاستلام جائزته. وفي العام 2005 تسلل بانكسي إلى المُتحف البريطاني واضعاً قطعة من الحجارة مرسوماً عليها رجل يدفع عربة تسوّق، محاولاً إظهار الحجر كأنه مأخوذ من أحد الكهوف لرسومات الإنسان القديم.
عام 2002 نفّذ غرافيتي مصوّراً فيه ملكة بريطانيا اليزابيت الثانية على هيئة شامبانزي، ودعا الجمهور إلى إقامة الحفلات بالقرب من قصرها حيث تسكن. حضر المئات ممن لبّوا الدعوة قبل أن تتدخل السلطات وتنذر هؤلاء باعتقالهم.
وكان قد أصدر كتاباً بعنوان «اضرب رأسك بالجدار»، باع منه 22 ألف نسخة. هو يرفض عرض أعماله في الغاليريهات والصالونات الفنيّة، لكنّ هذا المعرض هو تجهيز للتعريف بأعمال مُبدع عالميّ شغل الناس طويلاً ولمّا يزل.
* د. يوسف غزاوي (أكاديمي وتشكيلي وباحث)
تعليقات: