هذا النص لا علاقة له بقائد الجيش العماد جوزف عون، ولا بالمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، ولا بالمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، ولا ببعض الضباط من ذوي الامتيازات وحماة المصارف وحاكم مصرف لبنان. هذه خلاصة جلسات مع عسكريين وعناصر أمنية، ومعهم «ضباط أوادم»، في معاناتهم اليومية في ظل انهيار رواتبهم. صحيح أن ما يعانونه يشبه حال معظم الشعب اللبناني. لكن وضع الأسلاك الأمنية له وجهان: أولاً، أمنيّ نظراً الى انعكاس انهيار معيشتهم اليومية على معنوياتهم وأدائهم لمهامهم، وعلى حالة الأمن ككل، وخصوصاً في ضوء هرب عناصر وعدم التحاقهم بمراكزهم، وسط توقّعات أن يصبح عددهم نصف عديد الأسلاك الأمنية (120 ألفاً،) فيما لو سُمح بالسفر وتقديم طلب التسريح؛ وثانياً لأن هذه الشريحة لا تنحصر بهذه العناصر، بل بعائلاتهم وأطفالهم، في حياتهم اليومية والمعيشية والصحية والتربوية. هذه عيّنة من المعاناة اليومية لعناصر الأمن العام والجيش وقوى الأمن وجميع الأسلاك الأمنية، في مأساة إنسانية تضاف الى مثيلاتها
حين يُسأل عنصر أمنيّ عن وصف حالته ورفاقه في مركز خدمته، يجيب: «اسألوا الكلب في الخارج». الجواب ليس ساخراً. هناك كلب شارد يتردّد على المركز، والعسكريون يطعمونه من الفضلات. منذ أشهر، والكلب الذي اعتاد التردد الى المركز بدأ يفتش من دون جدوى عما يأكله، فصار ينحف تدريجاً. يروي العسكري النكتة السوداء، كما لو أنها مشهد مسرحي. لكن ما يسمّيه أحد العناصر الأمنية بـ«حشوة بطن»، يصف تماماً المآكل اليومية للعسكريين. «نأكل لمجرد أن نأكل، لم نعد نشتري أي حلويات أو مأكولات مميزة، ما نأكله لا نعرف تاريخ صلاحيته. بعضنا لا يشتري الخبز لعائلته، وبعضنا يمتنع عن شراء الحد الأدنى من الوجبات اليومية». لم تعد الترويقة الصباحية والقهوة والنسكافيه، العادة اليومية. فنجان القهوة أصبح بألفَي ليرة وقنينة المياه الصغيرة بألفي ليرة (في المركز)، واختفت دراجات الدليفري عن الحضور الى المراكز للترويقة والغداء والعشاء. «لم نستبدل طعام السناك أو المطعم بأكل البيت. لكن أحياناً مأكولات المطاعم الصغيرة على علّاتها وعلى سوء الحفظ والمواد الفاسدة أرخص من أن ناتي بطعامنا من البيت. نأكل مرة واحدة في النهار، وننتظر العودة مساء الى البيت أو الاكتفاء «بعروس خبز» حاف. حتى كعكة أبو عرب أصبحت بـ 8 آلاف ليرة». في بعض المراكز العسكرية، عاد الجنود ليأكلوا ممّا يوفره لهم مطبخ المركز الأمني، أي مجاناً وبما تيسّر. ويساعد الدوام الذي اعتمد منذ أزمة كورونا وبعض المراكز الأمنية في تقليص عدد أيام الخدمة، الأمر الذي يجعل العناصر أكثر ارتياحاً في تأمين مستلزمات طعامهم في المنزل.
نسأل أحدهم كيف توزّع راتبك، جوابه السريع «أيّ معاش؟». يعيش عنصر أمني أو عسكري بمليون و200 ألف ليرة، لتصل رواتب الأعلى رتبة منه الى مليونين ونصف مليون ليرة. جميعهم يعيشون على قروض إما إسكانية أو خاصة أو سيارات أو قروض تعاضدية من المؤسسة الأمنية، أي أن ما بين 200 و400 ألف ليرة تذهب شهرياً نحو تسديد الأقساط، والباقي موزع بين إيجارات ومأكولات ويوميات بسيطة.
على شاطئ رمليّ مجاني، يقول طفل في السادسة من عمره لشقيقه الأكبر منه بسنتين: سأطلب من والدي أن يشتري لنا البوظة»، يجيبه الأكبر: «لا تطلب منه، سمعته يقول إنه لا يملك مالاً». وحين أصرّ الصغير، قال له ابن الثماني سنوات سأطلب منه أن يشتري لك فقط. الوالد الذي سمع الحديث اشترى لطفليه البوظة. ليفاجأ بابنه الأصغر سائلاً إياه، هل أصبحت غنياً؟ الوالد عنصر في أحد الأسلاك الأمنية. لم يصبح غنياً، بل ازداد فقراً منذ أشهر، وهو الذي كان يستعدّ للتقاعد على أساس أن راتبه التقاعدي سيسمح لأولاده بمتابعة تحصيلهم العلمي، والعيش بكرامة. في الأشهر الماضية بدا الانحدار سريعاً: الاتكال على المساعدات، والاستدانة من الأصدقاء والعائلة، والتقنين المتمادي على اليوميات الأساسية بعدما أصبح الكثير من الحاجات الضرورية فوق قدرته.
المساعدات الخارجية التي وصلت لا تكفي حتى اليوم سوى لتأمين بعض وجبات الطعام لا أكثر
يقول عسكري يملك سيارة إنه لا يريد بيعها لأنها تؤمن الحاجات الضرورية له ولوالدته، لكنه بات يقلّص من استعمالاته لها. يحقّ له بـ«بون بنزين» واحد شهرياً، ويذهب أحياناً سيراً على الأقدام من منطقة الى أخرى أو يستخدم دراجة نارية. معظم أوقاته بات يقضيها في البيت ولا يخرج إلا للعمل. لكن السيارة ضرورية في كثير من الحالات حتى للخدمة. هناك أيام العطل، والمداومة التي يضطر فيها العسكري الى البقاء ليلاً حيث لا مجال لاستخدام الباصات العسكرية. ثمة حلول تسعى أجهزة أمنية الى تأمينها، كتوفير باصات عسكرية، وخصوصاً لجنود الألوية أو لمراكز محددة في الدوام وتفعيل خطوط النقل. لكن حتى الآن، كل ذلك لا يزال دون المطلوب، علماً بأن أوضاع عناصر المراكز أفضل حالاً من حال عناصر الألوية والمراكز الأمنية البعيدة. يقول عسكري من إحدى قرى جبيل إنه بسبب ارتفاع أسعار البنزين، صارت كلفة مجيئه الى عمله ستين ألف ليرة من بيته الى بيروت، وستين ألف ليرة للعودة. وخدمة ثلاثة أيام تكلفه 360 ألفاً أسبوعياً، في انتظار أن ترتفع أكثر بعد ارتفاع سعر المحروقات مجدداً. ما يوفره من إقامته في منزله الذي يملكه وزرع خضرواته، بات يدفعه ثمن تنقّله بالفان. هو سيخرج بعد سنة من الجيش بعدما أدى خدمته على مدى 23 عاماً. تعويض نهاية الخدمة لن يكون في أحسن الأحوال بحسب السعر الحالي للدولار أكثر من عشرة آلاف دولار. فأيّ مستقبل سيكتب له؟ مثله مثل عسكريين في البقاع والجنوب يأتون إلى بيروت ويتنقلون بالفانات. يتحملون الذل، وينتظرون من يقلّهم من منطقة الى أخرى ليوفّروا أجرة النقل، وسط مفارقة التضامن بين الأسلاك الأمنية. إذ يساعد الأمنيون بعضهم بعضاً بالتنقلات. يدفعون أحياناً عن راكب أو يعطونه مالاً ليصل الى منزله، وكلهم سواسية في الفقر. الآتون من عائلات ميسورة أو مرتاحة مالياً يتحدثون عن المتغيرات التي يرونها في زملائهم. لكنهم يتشاركون في الكلام عن المستقبل. نسأل أحدهم لماذا لا تترك المؤسسة العسكرية؟ فيجيب: «عائلتي لا تقبل. نحن أبناء مؤسسة لا يجب تركها»، فيما يجيب آخر: «معنويات العسكر يجب أن تبقى مرتفعة، لا يجوز التخلي عن المؤسسة لأنها ليست هي المخطئة في حقنا». قد يكون بعض العسكريين أفضل حالاً في بعض الامتيازات بين مؤسسة أمنية وأخرى، وخصوصاً لجهة الاستشفاء. لأن هناك أسلاكاً أمنية لم تستطع تأمين استمرار التعاقد مع مستشفيات مرموقة أو في مجال تأمين كل الأدوية المطلوبة. يقول عنصر أمني إن «الذين يلتحقون بهذه المؤسسات يأملون براتب جيد وطبابة ومدارس. هذه الخدمات كلها تراجعت، بتنا مضطرين الى الذهاب الى مستشفيات «مش منيحة» للطبابة. فلماذا يجب أن نبقى؟ فنحن نستدين لتأمين أموال فارق الاستشفاء من أقربائنا وأصدقائنا. وكلنا أصبحنا متساوين في الفقر».
بعض المؤسسات الأمنية تمنع حالياً التسريح أو تقديم طلبات السفر والهجرة. وبعضها كالجيش يسمح بشروط محددة. أحد العسكريين بدأ يحضّر أوراقه للسفر الى إفريقيا، يريد الزواج والخروج من لبنان الى حيث يتقاضى ما لا يقلّ عن ألفَي دولار شهرياً. في المبدأ، لم يكن يفكر في الهجرة ولا ترك عمله، ولا يزال حسّه بالانتماء إلى المؤسسة عالياً، وهو يقول إن الكثيرين باتوا يشعرون بالضغط، لكن تركهم المؤسسة العسكرية أو الأمنية من دون بديل يعني بقاءهم في لبنان من دون أي أفق. من يتدبّر عملاً في الخارج قد يسهل عليه الأمر».
مأساة العسكريين إنسانيّة، لكنها مشكلة أمنية بالدرجة الأولى، لأن الأجهزة أصبحت مكشوفة داخلياً وخارجياً
ومع ذلك ترتفع نسب الذين يهربون أو يطلبون تسريحهم، بعضهم حين يُقبض عليه يعتذر من قائده لكنه يَعِد بأنه سيعيد الكرّة. هناك تضارب بين المعنويات وبين الحياة اليومية، التي تتطلب جهداً مضاعفاً لتأمين الاحتياجات. تقول إحدى الجنديات إن راتب زوجها الذي يعمل في عمل حر، هو الذي لا يزال يؤمن للعائلة معيشتها، لكنها هي أيضاً باتت تتأقلم، رغم أن راتبها الذي كان يكفيها كامرأة ولتغطية متطلباتها اليومية مع حضانة ابنتها، بات ضئيلاً، ويفترض بها أن تتكيف فتقتصد في حضانة طفلتها وفي يوميات السوبرماركت، وخصوصاً أنها تشاهد معاناة زملائها في العمل. المتزوجون حالة خاصة، في الفقر والمعاناة، وهي حال جميع الأسلاك، من مدارس وطبابة وملابس، وحالة غير المتزوجين ليست أفضل حالاً، وهم الذين بات حلمهم الوحيد تأمين وظيفة ثانية لا الزواج. ضاعت أحلام الزواج تحت السيوف البراقة، كما ضاعت أحلام من يريد الالتحاق بالمدرسة الحربية. من سيلتحق بالمدرسة الحربية ليتقاضى مئة وخمسين دولاراً؟ يقول ضباط لا يتعدّى راتبهم خمسة ملايين ليرة، إن زملاء لهم خرجوا ولم يعودوا. كيف يعود من يريد أن يؤمن مستقبل أولاده براتب لم يعد يوازي أكثر من 250 دولاراً؟ بعض الضباط لا يزالون مكتفين بسبب عمل زوجاتهم، وبعضهم يفضّل أن تترك زوجته العمل من أجل توفير كثير من اليوميات، كتأمين مدرّسين خاصين والاهتمام بالمنزل.
هناك جانب أساسي في المتغيّرات اليومية لحالة الجنود والضباط غير المرتشين وغير الآتين من عائلات ميسورة، وهي حالة الترهل الجسدية والنظافة اليومية. فالمظهر الخارجي للعناصر الأمنية «خط أحمر»، لكن اللياقة البدنية تتهوّر. النادي الرياضي وتناول الفيتامينات الضرورية أصبحا في خبر كان. حتى النظافة الشخصية تراجعت بعدما ارتفعت أسعار فرشاة الأسنان ومعجون الأسنان ومزيلات الرائحة. هي بديهيات وليست كماليات، كما نظافة المكاتب والمراكز التي تراجعت بسبب عدم توافر المطهّرات ومواد التنظيف.
حين أقدم أحد الشبان في مؤسسة أمنية على الانتحار، بدا الأمر للوهلة الأولى أنه شائعة. لكن واقع العسكريين يتراوح بين الصدمة مما حصل ومحاولة الفهم أو رفض الاستسلام. بعضهم يعتبر أن المشكلة في الطبقة السياسية، وقلّة ترمي المسؤولية على القيادات الأمنية. لكن هناك حالة مشتركة تكمن في هذا القرف المشترك الذي يجعل شاباً ينتحر بسبب راتبه. هذا الراتب الذي كانت القيادات السياسية تنادي وتشجع أبناء القرى والبلدات الحدودية للالتحاق بالمؤسسات الأمنية من أجله. لكن الحياة تبدو أنها توقفت ولو لم يطلق أحدهم النار على نفسه. فهناك حياة ثانية عير حياة الخدمة العسكرية، لكن معظم من نسألهم يجيبون أن لا حياة لهم اليوم غير الجلوس في البيت. البطالة تكاد تصبح سمة عسكريين يعيشون خارج الخدمة في حال توتر دائم، أو يفتشون عن عمل ثان. كل الأجهزة الأمنية تغضّ النظر عن عمل عسكرييها الرديف، رغم أن ذلك ممنوع قانوناً. لكن الجميع يعمل في كل ما يتوفر له، سائقو تاكسي، صيادون، حلاقون، سنكريون... من كان يتابع دراسته الجامعية توقف. لم يعد يملك ترف الوقت ليتابع عمله والدراسة، لا المعنويات تسمح بذلك ولا المال الذي كان يتوافر للالتحاق بمعاهد أو جامعات خاصة أو رسمية. والهمّ المستقبلي بات آفة يخشى معها تسلّل المخدرات الى مجتمع تتفشّى فيه حالات اليأس، رغم محاولات الاستيعاب ورفع المعنويات وشحن النفوس. لكن الهموم الكثيرة حالة أمنية بامتياز. فبين الانقطاع عن الخدمة والهرب واحتمالات دخول أطراف خارجية على خطّهم، تتحوّل المأساة اليومية للعناصر همّاً أمنياً موازياً، فيما المساعدات الخارجية التي وصلت لا تكفي حتى اليوم سوى لتأمين بعض وجبات الطعام لا أكثر. مأساة العسكريين إنسانية، لكنها مشكلة أمنية بالدرجة الأولى، لأن الأجهزة أصبحت مكشوفة الى هذا الحد من الانهيار ليس أمام الدول المانحة والسفارات وحسب، إنما أيضاً أمام القوى السياسية كافة من دون استثناء.
تعليقات: