تستشري الأزمات في لبنان، إلا أن #طرابلس تشهد انغماساً في البؤس، يعمّقه انفلاتٌ أمنيّ لا يُطاق، ولا بوادر لضبطه، فينشر الخوف بين الناس ويشلّ الحركة في الشوارع والأسواق، وأكثرها قائمٌ في منطقة #التلّ ومحيطها في داخل الأحياء القديمة.
مَن المستفيد من العبث بأمن طرابلس؟
لا جواب يشفي حول مسؤوليّة مَن يرمي القنابل في المساء، ويزوّد المخلّين بالسلاح، ويلثّم مجهولين على الموتوسيكلات، ويُعطي الأمر... من جانب آخر، إنّ تعدّد الخلفيّات (ثأر شخصيّ، خلاف عائليّ، ملف أمنيّ، نشل، سبب مجهول) كثّف هالة الغموض، فأضحى التّهديد الأمنيّ شبحًا سائبًا لا يعرف المواطنون كيف يتصدّون له إلا بملازمتهم البيوت.
شوارع طرابلس شبه الخالية من المارّة تفيد بصورة أليمة عن استسلام أبنائها الذين يقارعون طواحين المجهول الأمنيّ. أضحوا ينشدون العيش بأمان فقط والحفاظ على أرواحهم، وهم يشهدون يومًا تلو الآخر كيف يخسرون أرزاقهم، التي يُهدّدها الإغلاق بعدما أصبحت الشوارع مرتعًا سائبًا للمسلّحين واللصوص.
الأمن والوقود
تمثّل منطقة التلّ تجسيدًا صارخًا لهذه الأزمة. فهذه المنطقة، التي تشكّل وسط المدينة، ونقطة ترانزيت ركّاب، وصلة وصلٍ بين قسميها القديم والحديث، عادة ما تعجّ منذ ساعات الصباح الأولى بالمشاة، وتشهد أزمات سير خانقة تدفع السّائقين إلى التفكير في سلوك شوارع أخرى لتجنّبها.
الدينامية النابضة انقلبت رأسًا على عقب. ففي جولة لـ"النهار" بين العاشرة صباحًا والواحدة ظهرًا، لا مشاة في شوارع التلّ ومحيطها، وبالكاد تمرّ سيّارة. أما المحالّ، فأغلبيّتها مغلقة، والقلّة التي تفتح أبوابها مظلمة ومن دون تكييف، إذ فضّل الباعة الجلوس في الخارج على الكراسي. وعلى رصيف مقابل حيث نعمت المحالّ بالكهرباء، الصورة تتكرّر: باعة أو موظفون متسمّرون على شاشات الهواتف، يُحاولون اجتياز الوقت.
على رصيف مؤسّسة ABC التي لم تفتح أبوابها بعد، يتحدّث تاجر الألبسة النسائيّة علي الجزار مع جيرانه على كراسٍ نصبوها أمام محالّهم. وفي سؤال عن الركود السّائد، يُجيبنا "إنه الأمن، وبسببه، صارت المحالّ تفتح عند الحادية عشرة، وتقفل عند الثانية أو الخامسة كحدّ أقصى".
ويُضيف: "أمس، تلقّينا رسالة من صاحب المولّد قائلاً إن المولّد سيُطفأ عند الثالثة، لذلك سنضطرّ إلى التّسكير، وإن فتحنا أبوابنا فلا زبائن. الناس لا تفكّر في الملابس. إن استطاعوا تأمين الخبز فسيفكّرون في الدواء، ثمّ سيفكّرون في حليب أطفالهم، ثم البنزين، والمازوت، والغاز".
ويصعب على التاجر الاستمرار في هذه الظروف، وهو لا يبيع بأكثر من 200 ألف ليرة مع هامش ربح ما دون الصّفر "نحن نُمنى بخسارات، ونعلم أن مستقبلنا أسود".
وأشار إلى مشروع تعدّه حاضنة الأعمالBIAT ، بالتعاون مع بلدية طرابلس، وبتمويل من الـ UNDP بهدف إعادة تشكيل واجهات المحالّ في التلّ وتأهيل بعض الأبنية التراثيّة في المنطقة بهدف جذب مزيد من الزوار والسياح، "لكن الناس ليس بحوزتها سيولة، وإن امتلكت المال فهي صارت تخاف المجيء إلى هذه الأسواق."
وفي هذا الإطار، قدّرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) في تقرير أصدرته الأسبوع الماضي أن الفقر أصبح يطاول %74 تقريباً من مجموع سكّان لبنان، فيما هناك %82 من السكّان يعيشون في فقر متعدّد الأبعاد.
اليوم، صار الحلّ الوحيد بنظر التاجر "الهجرة، فالدولة لا تتحسّس وجعنا، وحين تمسي حياتنا في قبضة اللصوص والأسواق السوداء ماذا بقي لنا؟".
وأشار إلى أنّ البضائع الوطنية تحاول ترقيع النقص بالاستيراد من تركيا، التي كانت تشكّل السوق الأهمّ للملابس في طرابلس، لكن هذه الحركة جمدت بسبب تضخّم الدولار.
هذا ما أكّده أيضًا جاره في السرايا العتيقة، عدنان القصعة، الذي يعمل في محلّ لبيع الألبسة الرجالية، ولم يبع قطعة واحدة حتى ساعة الظهيرة، وكلامه تأكيد أن "البضائع التي استوردناها من تركيا ستولّي موضتها وتتكدّس "ستوكات"، وما عدنا نستورد أيّ جديد. وحتى البضائع الوطنية، يتردّد الزبون باقتنائها لتدنّي الجودة."
ويضيف: "هذه حالنا منذ تشرين الأول 2019 لكن الأزمة آخذة بالتدحرج. طرابلس بالذات متعبة أكثر من غيرها، لأن الأمن فيها غير ممسوك، حتى بتنا لا نرى مشاة في الشارع."
تداعيات سياسية
في ضوء هذا التدهور، يتحدّث رئيس جمعية إنماء التلّ الاقتصادي عمر الحلاب عن "معاناة تتفاقم منذ سنتين، وأصعب ما فيها أن العوامل التي صنعتها غير مرتقبة. نتحدّث عن أزمة المصارف، ثمّ دخلنا في أزمة سياسيّة، واستتبعتها أزمة المحروقات، وتتقاطع معها معضلة الأمن في طرابلس. وإنه لمن المؤلم جدًا أن يموت البائع المحبّ عبد الرزاق حداد بعدما رميت قنبلة أمام بسطته، والأجواء توحي بأنها لن تكون الجريمة الأخيرة".
وإثر ورود خبر وفاته صباح السبت، تناقل رواد مواقع التواصل الاجتماعي من طرابلس خبر الوفاة، واسترجعوا بحزن ذكرياتهم مع صانع حلاوة الشميسة "الطيّب"، و"الآدمي" و"ضحية الزعران والسلاح"، ونشروا صورته خلف عربة "حلاوة الشميسة" التي ورثها عن عائلته، وقد توفي متأثّرًا بجروحه بعدما نقل إلى المستشفى. وأوقفت مديرية المخابرات المدعو "ع.م." الذي رمى القنبلة على خلفيّة مشكلات عائليّة، ولم تعلن التحقيقات بعد مصير الجاني.
ويشير الحلاب إلى أن "الأسواق متوقفة كأنها مصابة بشلل تامّ، ولم يحرّكها سوى مغتربين زاروا أهاليهم لفترة محدّدة أوائل الصيف لكنهم لم يطيلوا إقامتهم بسبب تطوّر الأزمة. يتشاطر التّجار مخاوف في مواجهة الشهرين المقبلين، إذ نرتقب رفع الدّعم وصرف اهتمام الناس لاحتياجات المدارس وتوقف إيرادات المغتربين."
لكن "الأمن هو الأصعب، ويبدو أنه خرج عن السيطرة، لأنه أصبح قنبلة موقوتة ستنفجر في أيّ لحظة. وتترجم المؤسّسات خوفها بإقفال مبكر، حيث تغلق المحالّ الواقعة في الشارع الرئيسيّ عند الخامسة مساء كحدّ أقصى، والمحالّ الخلفيّة مخاوفها أكبر، تغلق أبوابها عند الثانية من بعد الظهر."
وينقل الحلاب صرخة أكثر من 172 مؤسّسة عاملة في التل، في مواجهة "الأمن المتدهور، وهو أخطر ما يُمكن وقوعه في حسابات الأسواق. ولا ننسى أن المؤسّسات منهكة بالأساس بسبب عوامل وطنيّة أدّت إلى تأخّر تشكيل الحكومة وما يتمخّض عنه من قرارات لتعديل الحدّ الأدنى لأجور الموظّفين في المؤسّسات الخاصّة، في ظلّ التّضخّم الحاصل الذي بلغت نسبته 400 في المئة، وصعوبة تأمين المحروقات وتكاليف التشغيل"، و"تتعقّد المعضلة بين محاولة التاجر تأمين استمراريّته وضرورة تقليص أعماله ليتجنّب المزيد من الخسائر. مؤسّساتنا في التلّ وجواره تعيش سقوطًا حاليًّا، ولا نعلم على أيّ ارتطام قادم نحن مقبلين."
تنصّل المسؤولين
لم يواجه من يفترض بهم أن يكونوا مسؤولين عن طرابلس هذا الواقع بإجراءات حازمة. وأكثر ما توصّلوا إليه هو اجتماع في مكتب الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي، ضمّ كلًّا من نقولا نحاس، وسمير الجسر، ومحمد كبّارة، وعلي درويش وفيصل كرامي، وحمل عنوان "الأمن والمحروقات" في طرابلس. وفي ختامه، أصدر المجتمعون بيانًا لا جديد في مضمونه، ويبرز أن النواب استمعوا إلى شرح الأجهزة الأمنية، واستشفّوا معلومات حول التطوّرات، وأوصوا ببسط الأمن الاستباقيّ.
وترأس محافظ لبنان الشمالي رمزي نهرا اجتماعًا لمجلس الأمن الفرعيّ يوم الخميس في الـ 2 من أيلول، ضمّ مسؤولي أجهزة أمنية ورؤساء بلديات، وخرجوا بتوصيات حول المحروقات ومواقيت سير الموتوسيكلات، إلا أن القرارت لم ترقَ إلى مستوى التطبيق، فلا يزال عدّاد الجنون الأمنيّ يواصل جرائمه المتنقّلة؛ وبين قنبلة وأخرى أكثر ما يتلقّى أهالي طرابلس من ممثّليهم وعودًا وشعارات محنّطة تبقى في حيّز "المجاملات" أو الحدّ الأدنى من المسكّنات التي لا تؤثر في السرطان الأمنيّ الآخذ بالتفشّي في أرواح الأبرياء وأرزاقهم.
تعليقات: