لا دعم.. لا بطاقة تمويلية

أسئلة الاستمارة تفتح الباب على الاستنسابية وتوقعات بارتفاع هامش الخطأ إلى 50 في المئة
أسئلة الاستمارة تفتح الباب على الاستنسابية وتوقعات بارتفاع هامش الخطأ إلى 50 في المئة


انتهى زمن دعم السلع، وترك الناس لمصيرهم من دون أي حماية اجتماعية. حتى البطاقة التمويلية لن تسندهم في شدتهم. فبعد أكثر من عام على النقاش في البطاقة وبعد أكثر من شهر على إقرار قانونها لا تزال اللجنة الوزارية المعنية تائهة في تحديد المعايير وآلية تطبيقها. حتى الإعلان عن إطلاق منصة التسجيل غداً، لا يهدف فعلياً إلا إلى خداع الناس، وإيهامهم بأن البطاقة ستصدر قبل إلغاء الدعم، وأن التسجيل للحصول عليها صار متاحاً، فيما الخلافات بشأنها لم تنته بعد. فإذا اتفق على النقاط العالقة، وفي معظمها تتعلق بمصالح فئوية وانتخابية وكيدية، ستحتاج إلى أشهر لتبصر النور. باختصار، سيكون الواقع أكثر مأساوية: لا دعم للسلع ولا بطاقة دعم للسكان، مجرّد وعود لمن يموت من الجوع بأنه إذا صبر سيأكل

دعم المواد الغذائية انتهى، ودعم الدواء انتهى ودعم المحروقات انتهى. وفي المقابل، تُرك الناس لقدرهم يهيمون في تضخم غير مسبوق، جعل الأغلبية الساحقة تبحث فقط عن قوتها فلا تجده. تزامن ذلك مع وقوف الدولة على الحياد، من دون أن تقدّم أي بديل أو تسعى لإنتاج خطة طوارئ لحماية الطبقات المتضررة. وحتى لمّا أوحت للناس أنها تُعدّ برنامجاً لتعويض بعض الخسائر، أتى الحلّ باستبدال الدعم عبر بطاقة تمويلية وُلدت فكرتها منذ أكثر من عام، لكنها كما كل مشروع تنفذه السلطة، لم تتحول إلى حقيقة. على العكس، صار محسوماً أن الدعم سيُرفع تماماً قبل البدء بتنفيذ مشروع البطاقة، إذا نُفّذ. ولذلك، فإن المؤتمر الصحافي المشترك الذي يعقده وزيرا الشؤون الإجتماعية والإقتصاد رمزي المشرفية وراوول نعمة ورئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عطية، لإطلاق البطاقة التمويلية وشرح الآلية المتبعة للتقديم والحصول عليها، لا يمكن وضعه إلا في الإطار الشعبوي، والإيحاء بأن البطاقة ستطلق فعلاً قبل رفع الدعم.

ليس مصرف لبنان وحده من يتحمل مسؤولية ضياع أموال الدعم، بل الطبقة السياسية بأكملها هي المسؤولة. وللتذكير سبق أن حذر المصرف الحكومة، في آب 2020، من نفاد الأموال المخصصة للدعم. بغض النظر عن صحة تحذيره، إلا أن الحكومة تعاملت معه باستخفاف. كما كذبت، حين أشارت في مقدمة الورقة الخاصة بالمعايير وآلية تطبيق البطاقة، التي لم تكتمل بعد، إلى أن «المصرف أعلن مؤخراً عن عجزه الاستمرار بسياسة الدعم التي بدأت منذ أيلول 2019». «مؤخراً» هي تحديداً منذ أكثر من عام، وقد طالبته حينها بالاستمرار في الدعم إلى حين إصدار البطاقة. لكن مرت سنة منذ ذلك الحين، من دون أن يحصل أي تطور يذكر. إصدار بطاقة تمويلية متى توافر القرار لن يحتاج أكثر من شهرين. لكن بدلاً من ذلك، اختارت الحكومة المبتورة، عمداً، استهلاك أشهر طويلة في نقاشات لا تنتهي. حتى بعدما صدر قانون البطاقة المتأخّر كثيراً لا تزال آلية تنفيذها عالقة على مجموعة من المصالح والصراعات ومواقع النفوذ، التي تؤكد أن المماطلة في المشروع تهدف إلى إدخاله في بازار الانتخابات.

مصرف لبنان والحكومة يتفقان على أن الدعم بشكله الحالي «غير عادل وغير منصف كونه لا يميز بين الطبقة الغنية وبين الفقراء ومن هم أكثر حاجة، وهو يعود بالفائدة بشكل رئيسي على التجار، ويفتح المجال أمام تهريب السلع المدعومة وتخزينها واحتكارها…» (مقدمة المعايير الخاصة بالبطاقة). ماذا يعني ذلك؟ هذا دليل قاطع على أن السلطات المعنية، نقدية وسياسية، سمحت، عن سابق تصوّر وتصميم، وعبر المماطلة بإيجاد بديل للدعم، بهدر الأموال العامة على منافع شخصية ذهبت للمحتكرين والتجار (تقدر كلفة الدعم في العام 2020 بـ6 مليارات دولار، فيما لا أرقام دقيقة عن كلفته في العام الحالي) ولم تصل أبداً إلى مستحقيها. وهي من خلال الاستمرار في عدم حسم ملف البطاقة التمويلية إنما تسهم في تمديد استفادة هؤلاء قدر الإمكان.

حالياً الواقع هو التالي: الدعم بحكم المنتهي، إلا لمن يضطر إلى الانتظار لساعات طويلة في طوابير المحروقات، وخلافات تقنية سياسية لا تزال تعيق إصدار البطاقة، والإعلان اليوم عن إطلاقها لن يغيّر هذا الواقع. علماً أنها حتى لو تحولت إلى حقيقة، فإن قيمة البطاقة نفسها تضاءلت؛ بحسب مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية، عند بدء الحديث عن البطاقة التمويلية كانت أسعار المواد الغذائية قد ارتفعت نحو 100 في المئة، فيما تجاوزت اليوم 700 في المئة، وهذا يقود سريعاً إلى الاستنتاج بأن البطاقة لم تعد تلبّي مستويات تضخّم الأسعار. تكفي الإشارة إلى أن سعر 5 أمبير من المولدات الخاصة وصل إلى ثلاثة ملايين ليرة في بعض المناطق، فيما متوسط قيمة البطاقة هو 93 دولاراً، أي نحو مليون و700 ألف ليرة على سعر اليوم. ما يعني أن البطاقة، التي لا تزال حتى اليوم الفرصة الوحيدة أمام ذوي الدخل المحدود والمتوسط لمواجهة بعض تداعيات الأزمة، صارت بلا قيمة فعلية.

لكن رغم كل التوقعات المحدودة من البطاقة، فهي تبقى «الكحل الأفضل من العمى». ولذلك لا بدّ من سؤال بديهي: هل حقاً ستصدر هذه البطاقة؟ تؤكد مصادر معنية أنه من المستحيل إنجازها قبل نهاية الشهر الجاري، إذ كان يُفترض، بحسب اجتماع بعبدا الذي أقر دعم المحروقات على سعر 8 آلاف ليرة، أن تكون شرطاً يسبق رفع الدعم.

الأسوأ أن المسألة لا تقتصر على تأخير عن نهاية الشهر، بل ترتبط بما هو أخطر. فالمنصة التي كان يفترض أن تطلق الأسبوع الماضي، وستُطلق اليوم شكلياً، لم يكن عدم إطلاقها مرتبطاً بتأخير تقني، بل إن اللجنة المعنية بالمعايير الخاصة بالبطاقة، لم تنهِ بعد نقاشاتها، رغم أن قانون البطاقة الذي نشر في الجريدة الرسمية في 22 تموز ينص على أن تعمد اللجنة الوزارية إلى وضع المعايير خلال أسبوعين. لكنها بعد خمسة أسابيع لم تحسم عدداً من النقاط الأساسية، التي لا يمكن للبطاقة أن تتحول إلى أمر واقع من دونها:

- لا قرار نهائياً بشأن عملة البطاقة، هل هي بالدولار أو بالليرة؟ مصرف لبنان يُفضّل الدفع بالليرة بحسب سعر صرف الدولار، إلا أن ذلك دونه عقبتان، أولهما أن المصرف يعتبر أن منصة «صيرفة» هي التي تُعبّر عن سعر السوق (تقلّ بنحو ألفي ليرة على الأقل عن السعر الفعلي للسوق)، علماً أن البعض اقترح أن يُصار، في حال اعتماد الليرة، إلى الأخذ بسعر الصرف الذي تحدد عبر التطبيقات المتداولة لتحديد سعر الدولار، متجاهلين أن هذه التطبيقات قيد الملاحقة الأمنية! كذلك فإن التوسع في نقاش إمكانية الدفع بالليرة قاد إلى أسئلة من نوع: هل يُحتسب السعر في يوم السحب أو في اليوم الأول للشهر، وماذا لو أراد المستفيد سحب المبلغ على مراحل، هل سيُسحب عندها على أسعار متعدّدة، أم أنه سيُلزم بالحصول على المبلغ كاملاً دفعة واحدة؟ وفي المقابل، لم يجب الداعون إلى اعتماد الليرة، كيف يعقل أن تدفع الأموال لمستحقي البطاقة التمويلية بالليرة، فيما تُدفع بالدولار للمستفيدين من قرض البنك الدولي، علماً أن التقديم في الحالتين سيتم عبر المنصة نفسها.


الخلافات على المنصة تعيق تنفيذها ومخاوف من استخدام الداتا لأغراض سياسية

- طريقة الدفع لم تحدد بعد، فاللجنة المعنية لا تزال تناقش أي الخيارات أفضل، هل يتم دفع المستحقات النقدية من خلال المصارف، بحيث يتم صرفها من خلال أجهزة الصراف الآلي، أو من خلال وكلاء تحويل الأموال، أو من خلال تطبيقات المحفظة (Wallet) على الهواتف الذكية (...zaky, pinpay)، والتي يمكن تحويل المبالغ المحددة إليها على أن تسحب نقداً من نقاط تحويل الأموال. كذلك طرحت مسألة إضافة المبلغ المحدد إلى رواتب الموظفين المستفيدين، بما يسرع في عملية التوزيع. لكن كل هذه الاقتراحات التي تُطرح منذ أكثر من شهر لم يُتخذ القرار بشأنها، ولا تزال تخضع لنقاشات عقيمة.

- رغم الاتفاق على أن تمول البطاقة عبر تحويل قرض البنك الدولي المخصص للنقل العام إليها (300 مليون دولار) ونحو 250 مليون دولار من حقوق السحب الخاصة التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد، إلا أنه لم يحسم بعد المبلغ المفترض اقتطاعه من هذه الحقوق، بانتظار الوصول إلى معلومات إضافية تتعلق بالكلفة الفعلية للمشروع. كما لم تُحسم بعد مسألة إيجاد دولة توافق على استبدال الأسهم بالدولارات، وإن كان يحكى أن المفاوضات مع قطر قطعت شوطاً كبيراً.

- رغم الاتفاق على «تكليف التفتيش المركزي إنشاء قاعدة بيانات وبرامج متخصصة في ضوء الأنظمة المتوافرة لديه (منصة Impact)، على أن تنشأ برامج مشابهة في وزارة الشؤون الاجتماعية التي هي المتلقي الطبيعي لقاعدة البيانات، على أن تحفظ هذه القاعدة في رئاسة مجلس الوزراء - وحدة البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً»، إلا أن ذلك لا يزال يلقى معارضة كبيرة داخل اللجنة، ربطاً بالخلاف على منصة «Impact»، التي يُشكك الأمن العام في أمانها وسبق أن أبلغ رئاسة الحكومة ورئاسة مجلس النواب بأنها مُستضافة على خوادم أجنبية بشكل مشبوه. أضف إلى ذلك دخول وزارة الداخلية ووزارة الاتصالات ورئاسة الحكومة على خط الخلاف، مقابل اشتراط رئيس التفتيش المركزي تشريع المنصة كشرط لاستضافة طلبات التقديم للبطاقة (سيحول اليوم المرسوم التطبيقي الخاص بالمنصة إلى مجلس شورى الدولة لأخذ رأيه). علماً أن مصادر اللجنة تشير إلى أن هذه المنصة لا يديرها التفتيش بنفسه بل شركة بريطانية. وهناك من سأل خلال الاجتماعات التي جرت عما يحول دون اتفاق الحكومة رسمياً مع الشركة مباشرة، طالما أن لا دور فعلياً للتفتيش، خصوصاً أن المنصة ستكون مشتركة بين المستفيدين من قرض البنك الدولي والمستفيدين من البطاقة التمويلية.

- لم يتم الاتفاق على الآلية التي يفترض اعتمادها لملء الاستمارة أكان لناحية مكان تقديم الطلبات أو لناحية تحديد الأسئلة والمعلومات المطلوبة من المتقدم بالطلب. فالاجتماع الذي عقد أمس وجمع وزيريّ الاقتصاد والشؤون الاجتماعية وممثلين عن رئاسة الحكومة والتفتيش المركزي والبنك الدولي ومنظمة الغذاء العالمي، كان أقرب إلى اجتماع لأناس يتكلمون لغات مختلفة ولم يتمكنوا من الوصول إلى أي أرضية مشتركة. فالنقاش لا يزال عالقاً عند الأسئلة التي تتضمنها الاستمارة، لا سيما أن المعلومات التي أكدتها جهات متقاطعة لـ«الأخبار» تكشف عن أنها تفتح هامشاً واسعاً من الاستنسابية، خصوصاً أن الأسئلة غير محددة بشكل علمي يقود إلى أجوبة. بالتالي، يمكن بشحطة قلم شطب طلبات مستحقة ولكن مالئيها لم يتمكنوا من تقديم إجابة تعجب المتلقي. في سياق آخر، تجبر هذه الاستمارات المواطنين على تقديم معلومات خاصة تتعلق بحساباتهم المصرفية وبعائلاتهم من دون أن تضمن لهم الحفاظ على سرّية هذه المعلومات وعدم استخدامها لاحقاً في غير محلها أو لأسباب سياسية لا دخل لها بالبطاقة. في حين أن التشديد على ضرورة ذكر رقم الهوية، سيؤدي إلى استثناء شريحة واسعة لم تقم بإصدار بطاقة هوية. فالاستمارة هي عبارة عن 4 صفحات، وإذا ما تم حصرها بالتعبئة عبر الإنترنت فإن الجهة المستهدفة، أي الفقراء، لن تتمكن لا من تعبئتها ولا من الدخول إلى المنصة لعدم حيازتها على اشتراك بالإنترنت أو بسبب بطء الاتصالات.

- جرى اقتراح تخفيف الحمل عن المواطنين عبر تسهيل طريقة التسجيل تماماً كما حصل عندما انطلقت مديرية الشؤون الاجتماعية في تحديد العائلات (35 ألف عائلة) التي يمكن لها الاستفادة من برنامج الأسر الأكثر فقراً، أي من خلال فتح باب التسجيل في مراكز الخدمات الإنمائية أو مراكز البلديات. وثمة تجربة قريبة في هذا السياق حصلت في بداية أزمة كورونا عندما تعاونت وزارة الداخلية مع البلديات والمخاتير لتحديد العائلات المستفيدة من المساعدات التي وزعها الجيش والبالغة 300 ألف ليرة. على أن السؤال الرئيس هنا، عما يحول دون استفادة معدّي برنامج البطاقة التمويلية من تلك المعلومات بدل الانطلاق من النقطة صفر؟

- ترى مصادر مطلعة على طريقة عمل الوزراء أن الطريقة التي أعدت فيها الاستمارة لا يتم من خلالها استقطاب الطبقات الفقيرة أي تلك المستحقة. فالمعايير المعتمدة للتقييم غير موضوعية ولا علمية وسيصل هامش الخطأ فيها إلى ما لا يقل عن 50 في المئة. فتجربة الشؤون تقول إنه رغم الزيارات للعائلات المسجلة ضمن برنامج الأكثر فقراً وصل هامش الخطأ إلى 35 في المئة، فكيف الحال من دون هذه الزيارات وباستمارة استنسابية كالتي وضعها الوزراء؟

بالنتيجة، ووفقاً للمسار الانحداري لجلسات النقاش ومضمونها، كل الكلام عن بطاقة تمويلية لم يرق إلى حدّ الحديث عن «حبر على ورق». ولا شكّ أن العامل السياسي بات عنصراً أساسياً في إطلاقها ويوظف لخدمة مصالح الأحزاب، لا لخدمة الطبقات المهمشة التي تُركت لمواجهة رفع الدعم وجنون الأسعار وارتفاع سعر صرف الدولار من دون أي برنامج اجتماعي أو خطة حماية. ثمة ما يفوق القدرة على تصديقه: وزراء يجتمعون أسبوعياً ويخرجون كما دخلوا من دون أي نتيجة. وزير الشؤون الاجتماعية الذي يفترض أن يكون له الدور الرئيسي في تلك اللجنة منفصل عن الواقع ولا يرغب بممارسة دوره. وزير الاقتصاد يتعامل مع الفقراء كمجرد أرقام أو بأحسن الأحوال كشيكات بلا رصيد. وزير المال لا يجد ما يوجب تمويل البطاقة بالدولار، ولطالما نأى بنفسه منذ اليوم الأول لاجتماعات اللجنة الوزارية الخاصة برفع الدعم والبطاقة التمويلية عن قراراتها. فيما وزيرة الدفاع التي كٌلّفت برئاسة هذه اللجنة، تفاوض من منطلق إعطاء دور أساسي للجيش في جمع الداتا وتوزيع البطاقات تحت حجة «الخروقات الأمنية».

ما سبق يوصل إلى خلاصة واحدة: البطاقة التمويلية لن تصدر حتى لو أعلن عن بدء التسجيل. وفي حال المبالغة في التفاؤل إذا ما تم التوافق على كل التفاصيل والآليات، سيحتاج جمع الداتا والتأكد منها وبدء العمل بشكل فائق السرعة، إلى ما لا يقل عن ستة أشهر لإصدارها. في حين أن رفع الدعم بدأ أو ستظهر مفاعيله نهاية الشهر، فيما سبق رفع الدعم انهيار اقتصادي غير مسبوق تسبب بغلاء في الأسعار منذ نحو عام ونصف عام. ربما يراد للناس أن يصلوا إلى مراكز الاقتراع في أيار من العام المقبل، زحفاً.

تعليقات: