خراب وهجرات دورية: لبنان يخسر أفضل كفاءاته الشابة

هجرة الكفاءات تؤدي إلى تغيير ديموغرافي وصعوبة استعادة النشاط الاقتصادي (مصطفى جمال الدين)
هجرة الكفاءات تؤدي إلى تغيير ديموغرافي وصعوبة استعادة النشاط الاقتصادي (مصطفى جمال الدين)


بحزم وإصرار، قرر بلال دندش إقفال مؤسسته التجارية التي أسسها عام 2005، والانتقال إلى تركيا ليبدأ بتأسيس عمل جديد. ويعمل دندش في مجال استيراد السلع الغذائية الأوروبية والأميركية، ويمتلك محلات ثلاثة يديرها وأخوته في بيروت والبقاع. وهو يقول "لم أعد أتمكن من شراء البضائع للمحال التجارية. فالخسائر زادت منذ بداية العام الحالي، فقررت إقفال المؤسسة، والبحث عن فرصة جديدة في مكان أخر".


لبنان - تركيا

وكانت تركيا الملاذ الآمن لدندش، نظراً لسهولة الأعمال، وانخفاض الكلفة المعيشية، والحصول على إقامة، تمكنه من نقل عائلته إليها. وافتتح دندش مزرعة لتربية الدواجن في ضواحي اسطنبول، بمبلغ لا يتعدى 13 ألف دولار تقريباً، وبعائد استثماري يصل إلى 25 في المئة. وهذا يمكنه من تأمين معيشة عائلته والاستقرار نهائياً في تركيا.

"لا مستقبل في لبنان لتأمين عيش كريم لأبنائي. حتى أن العام الدراسي لا يزال مصيره مجهولاً في ظل غياب التيار الكهربائي، ورفض الأستاذة، التعليم بالرواتب المتدنية"، يقول دندش. ويضيف: "تمكنت من تسجيل أبني في مدرسة دولية في اسطنبول بقسط سنوي لا يتعدى ألفا دولار فقط، ما يعادل قسط فصل واحد في مدارس لبنان".

مع اشتداد الأزمة الاقتصادية في لبنان، وانخفاض قيمة العملة الوطنية وفقدانها أكثر من 80 في المئة من قيمتها، لم يعد أمام اللبنانيين خيارات سوى الهجرة، والبدء بتأسيس أعمال في الخارج. وتعد تركيا وقبرص ودول الخليج، وحتى أفريقيا، من أكثر الوجهات استقطاباً للبنانيين، لكن تركيا قد تكون الخيار الأفضل لصغار التجار.

وحسب دائرة الإحصاء التركية، فإن اللبنانيين دخلوا قائمة الجنسيات الأكثر شراء للعقارات بين العامين 2018 و 2019، وباتوا في المركز 16 في العام 2020، بعدما بلغ عدد العقارات التي سُجلت هناك بأسماء لبنانيين نحو 771 عقاراً. وذكرت وزارة التجارة التركية أن عدد الشركات التي أسسها لبنانيون في العام 2020 بلغ 987 مؤسسة. وهذا مؤشر هام يكشف حجم هجرة اللبنانيين الكثيفة إلى دول مجاورة مستقرة.


قبرص بوابة أوروبية

وتركيا ليست الملاذ الأمن الوحيد للبنانيين. وجاءت قبرص في مقدمة الوجهات الرئيسية للبنانيين في الفترة الماضية. وتقول كارلا رياشي، وهي مهندسة ديكور داخلي، إنها قررت مجبرة على ترك أهلها وأصدقائها، والانتقال إلى قبرص، بهدف تأسيس مكتب للتصاميم الداخلية. ورياشي لا تمتلك مبلغاً مالياً لتأسيس شركة كبيرة، لكنها تراهن على مساعدة أصدقائها اللبنانيين المقيمين في قبرص والوافدين مثلها إليها، لتتمكن من مباشرة أعمالها في الجزيرة القريبة. وتقول: "كثرة من الشركات العقارية اللبنانية انتقلت إلى لارنكا ونيقوسيا في السنوات الماضية، بعد التسهيلات التي قدمتها السلطات القبرصية، ومنها خفض قيمة الضرائب على الأعمال إلى 12 في المئة، وهي نسبة مشجعة جداً للمستثمرين". وتعتبر قبرص للبنانيين بوابة لأوروبا.

ولا يتفاجئ الخبير الاقتصادي لويس حبيقة، بارتفاع ظاهرة هجرة الشبان/ات من لبنان: "فالطالما كانت السياسة الاقتصادية في لبنان قائمة على أساس طرد الطاقات الشابة. ومع اشتداد الأزمة من المنطقي خروج هذه الطاقات"، يقول حبيقة. ويضيف أن: "غياب فرص العمل، إضافة إلى تكاثر عمليات تسريح الموظفين من القطاع الخاص، ساهما في إقبال الشباب على الهجرة، ومن المرجح استمرارها في الحقبة المقبلة، حتى ولو تحسنت الأوضاع السياسية. فالاقتصاد اللبناني يحتاج إلى أكثر من 10 سنوات لاستعادة ما كان عليه قبل العام 2019".

ويقدر البنك الدولي أن شخصاً من كل خمسة أشخاص فقد وظيفته في لبنان منذ خريف 2019. وأن 61 في المئة من الشركات في لبنان قلصت موظفيها الثابتين بمعدل 43 في المئة.

وحسب حبيقة، فإن هجرة الكفاءات المهنية الكثيفة قد يكون لها التأثير الأكثر ضرراً، سواء لناحية تغيير التركيبة الديموغرافية للبنان، أو لناحية صعوبة استعادته النشاط الاقتصادي مستقبلاً.


الإمارات: تكنولوجيا ومطاعم

وبدأت الإمارات العربية بدورها استقطاب الطاقات الشابة من لبنان. فمؤخراً انتقلت شركات أربع متخصصة بالتكنولوجيا إلى العاصمة أبوظبي، حسب تقرير صادر عن منظمة Arabtec. ومنذ بداية العام الحالي تجري الإمارات تعديلات في قوانيها بهدف تسهيل انتقال المستثمرين، وجذب الطاقات الشابة اللبنانية الكفوءة تحديداً.

ويروي أحمد شعيب، وهو مطور تكنولوجي، أنه قرر نقل شركته الصغيرة المتخصصة بـ "الرسوم المتحركة" وصناعة الأفلام الكرتونية التي أسسها في بيروت قبل 10 سنوات، إلى الإمارات. ويقول شعيب إن تكاليف تأسيس الشركة ليست بسيطة في الإمارات، لكنه يراهن على إمكان الوصول من هناك إلى الأسواق العالمية، خصوصاً بعد إفتتاح معرض أكسبو 2020 في الإمارات.

والشركات التكنولوجية اللبنانية ليست الوحيدة التي تركت السوق اللبناني. فقطاع المطاعم والمقاهي كان حضوره مميزاً في لبنان وانتكس بشكل كبير، فصارت الإمارات بعد إقفال سلسلة من مطاعم ومقاهي في بيروت وجهة استثمارية ملائمة.

فزياد الصفدي أسس هناك مطعمه بعد فشل تجربته في لبنان. فقد أسس في العام 2017 مطعماً في بيروت لبيع المأكولات السريعة. مستخدماً خبرة أكثر من عشرين عام قضاها في عالم المأكولات. لكن الأوضاع السياسية والاقتصادية في لبنان لم تساعده في نجاح مشروعه. لذا قرر في العام 2020 نقل التجربة إلى الإمارات. وهو اليوم بصدد افتتاح المطعم قرب إحدى الواجهات المائية في إمارة دبي.

ويؤكد الصفدي، أن تكاليف تأسيس المطعم في الإمارات ليست سهلة، لكنه يسعى إلى البحث عن مكان أمن لحياة كريمة له ولأسرته.


الخراب الدوري

في هذا الإقبال الكثيف على الهجرة من لبنان، والذي تتسع موجاته لتشمل فئات مهنية وخبرات متنوعة، منها أيضاً الطلاب والجامعيون، تخسر البلاد معظم ما وفرته من كفاءات بعد توقف الحرب الأهلية في العام 1990. وهي الحرب التي كانت قد استنزفت الطاقات والجهود اللبنانية الجديدة الناهضة منذ خمسينات القرن العشرين. كأنما هكذا هو لبنان: منذور للانهيار الدوري كل 15 - 20 سنة، ليصدر أفضل ما أنتجه إلى الخارج.

تعليقات: