يوسف غزاوي: ساندرو بوتيشيللي.. بوهيمي بروح وثّابة

«عودة جوديت» (تمبيرا على خشب ـــ 29.2 * 21.6 سنتم ــ حوالي 1469/ 1470)
«عودة جوديت» (تمبيرا على خشب ـــ 29.2 * 21.6 سنتم ــ حوالي 1469/ 1470)


تُخصّص غاليري «جاكمار- أندريه» في باريس هذه الأيام معرضاً استعادياً للعبقريّ الخلّاق ساندرو بوتيشيللي ولنشاط محترفه، عبر تقديم أربعين لوحة لهذا الفنان المُرهف، مُرفقة ببعض اللوحات لمعاصريه الفلورنسيّين الذين ترك بوتيشيللي تأثيراً خاصّاً عليهم.

مسيرة فنان عصر النهضة الإيطاليّ، وأحد أبرز كبار فناني فلورنسا، تشهد على الشعاع والتغيّرات العميقة التي حوّلت وجه المدينة تحت سلطة عائلة ميدتشي.

لا شك في أنّ بوتيشيللي يعتبر الفنان الأكثر شهرةً في عصر النهضة الإيطاليّة بالرّغم من الجزء السرّي الذي أحاط حياته ونشاط محترفه. داوم الفنان على عطائه الفريد وإنتاجه عبر سلسلة أتمّها عدد من مساعديه من الفنانين. يُبيّن المعرض أهمّيّة عرض النشاط العمليّ لمحترفه كمختبر يشعّ بالأفكار والتشكّل، ممثّلاً نمط النهضة الإيطاليّة وهذا الفنان في دوره الخلّاق، ولكن أيضاً الفنان المُلتزم والمُصمّم المُبدع.

تبعاً لمسار زمنيّ وموضوعيّ، فإنّ المعرض يُقدّم التطوّر الأسلوبيّ الشخصيّ لبوتيشيللي والعلاقة بين عمله وثقافة زمنه، وكذلك الأثر الذي تركه على فنّاني فلورنسا في القرن الخامس عشر. استعارت الغاليري الباريسيّة أعمال بوتيشيللي من أمكنة عدّة، من مؤسّسات مشهورة ومعروفة، كمتحف «اللوفر»، ومن صالات في هولندا وفرانكفورت وفلورنسا وهولندا ولندن، ومن متحف الفاتيكان.

ينتمي بوتيشيللي إلى عصر النهضة الإيطاليّ الذي امتاز عن غيره من العصور السابقة بقفزاته الفكريّة والفنيّة الرائدة والمؤثّرة على الحركة الفنّيّة العالميّة في ما بعد. الواقع أنّ أبرز سمات فن القرن الخامس عشر (Quattrocento)، في مقابل فن العصور الوسطى وأوروبا الشمالية، هي تلك الحريّة والتلقائيّة غير المألوفة في التعبير، وتلك الرشاقة والأناقة والثقل المتناسق، وخطوط قوالبه الهائلة المندفعة.

بخلاف الفن القوطي، السابق عليه، الذي يؤدي إلى إغراق المشاهد في التفاصيل، فإنّ عصر النهضة لا يترك للمشاهد فرصة التوقف عند أي تفصيل، أو فصل أي عنصر منفرد عن التأليف الكامل، بل يدفعه إلى إدراك الأجزاء كلها في وقت واحد.

إنّ المرحلة المتقدّمة من عصر النهضة هي في الأساس، حركة إيطالية، في مقابل المرحلة الوسطى من عصر النهضة وحركة «المانيرزم» اللتين كانتا حركتين أوروبيتين شاملتين. فالثقافة الفنية الجديدة ظهرت على المسرح للمرة الأولى في إيطاليا، لأنّ هذا البلد كان يسبق الغرب في النواحي الاقتصادية والاجتماعية، ولأنّ التسهيلات في الميدان المالي وميدان النقل، التي اقتضتها الحروب الصليبية قد نُظمت في إيطاليا، ولأنّ المنافسة الحرّة ازدهرت فيها للمرة الأولى. كما أنّ أوّل نظام مصرفي أوروبي قد ظهر فيها.

اسمه الحقيقيّ أليساندرو فيلبي. بدأ عمله صائغاً. تعدّدت المصادر حول سنة ولادته. منهم من ذكر عام 1445، ومصادر أخرى ذكرت عام 1447، وتوفي عام 1535. والده دبّاغ جلود، ألحق ابنه بمرسم ليبي الأب (تلميذ فيليبو ليبي). في عصره، فُصل الفنّ عن الدين، فقد كانت الكنيسة راعية للفنون في القرون الوسطى وبداية النهضة، فكان الفنانون والمعماريون يعملون لها، ولكنّ القرن الخامس عشر كان يتّسم بالتجديد، حيث ظهر رعاة آخرون للفنون غير الكنيسة، ممّا أدى إلى قفزات نوعيّة في فكر وتطوّر العمل الفنّي حينها وبعدها.

كان هؤلاء الرعاة لا يُبالون بالدين، ولا يكلّفون الرسامين لزوم القصص التوراتيّة أو الإنجيليّة. ولذلك، فإننا نجد بوتيشيللي يرسم صوراً تمثل القصص الإغريقيّة القديمة، مثل لوحته «الربيع»، حيث نرى في الوسط «الزهرة» ربّة الحبّ تنتظر قدوم الربيع الذي يحوم فوق «كيوبيد» الربيب الصغير الذي يقنص القلوب، ويوقعها في شباك الغرام. وإلى يمينها الفتيات الثلاث وعطارد رسول الآلهة، وإلى يسارها يتقدّم الربيع تدفعه إلى الأمام بلطف «فلورا» ربّة الزهر، ويحذوه «زفير» الذي يمثّل النسيم. وأينما تطأ قدماها تظهر الأزهار، وهذه اللوحة تدلّ على الجرأة التي اتسم بها ذلك الزمان والتجديد في اللوحة ومحتواها (مضموناً وأسلوباً وتأليفاً).

التأليف الذي يرأس التمثيل المجازيّ للوحة «الربيع» (نفّذها حوالي عام 1478) هو أكثر تعقيداً وفي الوقت نفسه أكثر حضوراً ووضوحاً. اختفت فسحة العمل في الأشجار المظلّلة على سماء تبدو واضحة إلى حدّ ما، ومزدانة بثمار مُعلّقة كقناديل فلورنسيّة تبدو مكاناً للحظة سرور وثنية خارج الزمن. الشخص الأنثويّ الذي يدفعه الملاك بقوّة من اللوحة، انزاح بشكل خفيف قياساً لمحور الحكاية الطريفة، يبدو أنّه يخدم ويوجّه مجموع العمليّات في اللوحة. شخص أنثويّ آخر، مدفوع أيضاً من قبل الملاك، يصل إلى يمينها، في حين أنّ الفتيات إلى يسارها يرقصن وهنّ مرتديات أنسجة رهيفة، ويمسكن أيدي بعضهنّ. أرجلهنّ بالكاد تلامس الأرض، ووجوهنّ المائلة تُعبّر عن ائتلاف جدّي كامل مع ثقل الجوّ.

«فينوس خارجة من الموجة» هو عمل لاحق، نُفّذ حوالي عام 1485، يدلّ على ذكاء مدفوع إلى حدود المبالغة. السماء والبحر سابحان في ضوء اصطناعيّ، يخدمان خلفيّة اللوحة بقوسين رمزيّين يُشكّلان من جهة يسار اللوحة آلهة البحر، وفي اليمين طيران المعطف المقدّم للآلهة العارية، المنبثقة من صَدَفة، من خلال صبيّة مرتدية زيّاً جميلاً. فينوس، بحد ذاتها، التي تُمثّل الطراوة والأناقة، بدت ضائعة داخل حلم سوداويّ.

مهما يكن من أمر، فإنّ ألوانها اللاواقعيّة والضوء التجريديّ الذي تغرق فيه يصنعان من عمل فينوس الخارجة من الموجة تحفة فنيّة بمواجهة كلّ التقليد التصويريّ للقرن الخامس عشر.

أيضاً، تبيّن لوحته «عودة جوديت» درجة تحسّن الأشكال الأنثويّة الرقيقة الناعمة والخفيفة في أعماله الأولى: أشخاصه الأنثويّة تتمتّع بخطّيّة أنيقة، بكتل موزّعة بشكل ملحوظ، تحمل أنسجة مزيّنة بورود وأردية مليئة بالإيقاع، وتُسجّل وجوهها داخل طبقة حقيقيّة من الحلقات الشقراء. المنظر الطبيعيّ يغور في خلفيّة اللوحة، وكتلة الشجرة الثابتة التي تظهر إلى يمين القماشة تُهيمن وتُعطي قيمة للفتاتين اللتين هما في صدد نقل حملهما الثقيل.

في عام 1470، أصبح بوتيشيللي فنان عائلة Médicis الحاكمة (كما جرت العادة مع فناني تلك الفترة التاريخيّة في أكثر من مكان وزمان). عمله «عبادة المجوس»، الموجود في «متحف الأوفيس» الفلورنسيّ، يمثّل أشخاصُه أعضاء عائلة فلورنسا الأولى، ورسم نفسه في اللوحة. تكشف اللوحة معنى التأليف الذي سيبلغ قمّته مع أعمال أخرى تالية.

عندما ذاعت شهرة الفنان في فلورنسا، استدعاه البابا إلى روما حيث رسم فصولاً من تاريخ موسى. وبعد سنتين عاد إلى فلورنسا. هناك وجد الراهب سافونا رولا، كما الحوادث التي حصلت في مدينته فلورنسا، فحزن، وخصوصاً عندما رأى الأسرة التي كانت ترعاه قد انهزمت ونُفيت من المدينة، وهي أسرة «ميدتشي»، ورأى أخاه يتلف رسومه السابقة بيده لإشاراتها الوثنية التي حوتها.

يناقض فن بوتيشيللي فن دولا فرانشيسكا، أحد أعلام الفنّ في وسط إيطاليا، الذي ترك أعمالاً جداريّة كثيرة وملفتة (تلميذ ماساتشيو)، فعملُ فرانشيسكا امتاز بالخطوط الدقيقة والألوان الشفافة. كان مثالاً للرصانة والجلال والاتزان والتناسب والحركة الوئيدة. أما عند بوتيشيللي، فقد كان إيقاعاً لطيفاً ينساب في أرجاء اللوحة كاللحن الشجيّ، كما كتب أحدهم. كان فن دولا فرانشيسكا «تعبيراً عن الحكمة العارفة وصفاء الوعي الذي يرتفع فوق الأحداث والعواطف، في حين أنّ عمل بوتيشيللي يذوب في المشاعر الرقيقة ويستسلم لنوع من الأسى الدفين».

تأثر بوتيشيللي بالنزعة الأفلاطونية الجديدة التي سادت في أواخر القرن الخامس عشر. كما تأثّر في أواخر حياته بمواعظ الراهب سافونا رولا الذي أنذر قومه بالويل والثبور وعظائم الأمور بسبب الانغماس في ملذات الحياة، فأحرق كتبه وعدداً من لوحاته. وفي أعماله اللاحقة، نلاحظ انصرافاً عن الأساطير الوثنية ووحدة في الخطوط وتجسيماً للألم، كأنه السبيل الوحيد للخلاص. بسب بعض الأحداث التي حصلت في فلورنسا حينها، توقّف الفنان عن العمل مدّة إثني عشر عاماً متواصلة.

مهّد بوتيشيللي بفنه الإيقاعي لظهور الفنان الكبير والمفكر العظيم ليوناردو دا فينشي صاحب لوحة «الموناليزا»، وآخر من أنجبتهم مدرسة فلورنسا. قال المؤرّخ فازاري عن بوتيشيللي بأنّه مثال الاستبصار لفنان بوهيميّ وروح «مُجدّدة».

* فنان تشكيليّ وباحث

معرض «بوتيشيللي: رسام ومصمّم»: حتى 24 كانون الثاني (يناير) ــ غاليري «جاكمار- أندريه»

تعليقات: