في مقابلة صحافية تعود الى العام ,2000 يقول عضو المجلس السياسي في «حزب الله» السيد نواف الموسوي: «ينبغي التنبه الى مسألة قد تسبب خطأ في التاريخ إذا لم نتوقف عندها. إذ ينحو البعض، ولأسباب سياسية، الى ربط انطلاقة دور المقاومة الإسلامية بتاريخ الإعلان عن صيغة حزب الله السياسية، في حين ان عمل المقاومة الإسلامية قد بدأ في الايام الاولى للعدوان الاسرائيلي العام .1982 ويبدو أن البعض لا يعرف مثلاً ان ابطال المواجهة التي خيضت في منطقة الأوزاعي ومثلث خلدة، والتي أوقفت الاجتياح الاسرائيلي هم الآن إما شهداء للمقاومة وإما قادة اساسيون»...
ملحمة مثلث خلدة تنسبها قوى مختلفة إليها. لكن الأكيد أن «حزب الله» مارس المقاومة المسلحة سراً حتى أصدر أول بيان موقع بهذا الاسم بتاريخ 6 كانون الثاني .1984 هذا كان قبل أن يعلن عن نفسه صراحة في الرسالة المفتوحة في 16 شباط: «حزب الله، الثورة الاسلامية في لبنان». في تلك الرسالة الصريحة والمباشرة بشدة والتي لم توفر أحداً تقريباً، جاء ان «المقاومة الاسلامية تؤكد على استمرار الجهاد حتى جلاء الصهاينة عن المناطق المحتلة، كمقدمة لإزالتهم من الوجود».
هكذا فعلت، حتى حققت الجزء الأول من هدفها، أي جلاء الاحتلال عن لبنان. حزب الله وجناحه المقاوم توأمان. وكما كانت السرّية ميزة قيام الأول وسبب اشتداد عوده، كذلك كانت السرّية ميزة مقاومته. وبينما أرهقت الأحزاب الأخرى وخبت مقاومتها شيئاً فشيئاً، كانت المقاومة الإسلامية تتقدم باطّراد، حتى صارت بعد الطائف، وحيدة في الميدان، بدعم سوري لا متناه، جعل المقاومة حقاً حصرياً لحزب الله، وحضن ايراني دافئ لمن كان أول من لقن مبادئ ثورة الإمام الخميني، إضافة الى احتضان شيعي كبير لهؤلاء الشبان المهذبين المتواضعين الذين أتوا يقاتلون العدو المتعجرف، ويذلونه، ويؤكدون مرة بعد مرة أن عنادهم لا يعرف حدوداً.
المقاومة تنسب الى رجالها الفضل الكبير في تحقيق الانسحاب الأول سنة .1985 بالطبع، فإن واحدة من اشد الضربات إيلاما للمحتل كانت عملية احمد قصير في 11 تشرين الثاني .1982 اقتحم فتى بسيارة مفخخة مقر الحاكم الاسرائيلي في صور. كانت النتيجة 74 قتيلاً و27 مفقوداً بحسب الاسرائيليين أنفسهم، بعدما حولت المئتا كيلوغرام تي ان تي الطبقات الثماني للمبنى الى ركام.
بعد أقل من عام، ضربت المقاومة ثانية وفي صور ايضاً. لكن حزب الله للمفارقة، لن يلجأ الى هذا النوع من العلميات إلا فيما ندر: ففي سجله العسكري الحافل، قام بـ11 عملية استشهادية أولها عملية قصير وآخرها بعد 13 سنة، وقام بها عمار حسين حمود في 30 كانون الأول .1999
غير أن هذه العمليات ذات الوتيرة السنوية تقريباً كانت ذات «نوعية عسكرية وسياسية ممتازة». يكفي استذكار بعضها لفهم المقصود: عملية ابو زينب (عامر كلاكش) في 11 آذار 1988: ضد قافلة اسرائيلية قرب مستوطنة المطلة. عملية الحر العاملي (عبد الله عطوي): في 19 تشرين الاول 1988: ضد قافلة اسرائيلية بالقرب من بوابة فاطمة. عملية صلاح غندور في 25 نيسان 1995: في مركز الـ17 في بنت جبيل. عملية قمر الاستشهاديين علي اشمر: مثلث العديسة ـ رب تلاتين».
ضربت المقاومة استشهادياً في عمق الشريط المحتل. وضربت ولم تكتف بما استطاعت سبيلاً. بعد الانسحاب الأول، غيّر حزب الله تكتيكه العسكري. لم يعد يلعب لعبة حرب العصابات. صار يواجه ويقتحم المواقع ويحتلها ويزرع رايته ويصور العمليات قبل أن يدمر الموقع.
في العام 1986 اسرت المقاومة جنديين إسرائيليين عند بيت ياحون. بعد اشهر من العام نفسه سيطرت مجموعاتها على موقعين لجيش لحد في جبل الريحان بعد معارك معارك وصلت الى استخدام السلاح الابيض. قتلت مجموعات الحزب كل عناصر الموقع وبقيت فيه طوال ست ساعات.
في 18 نيسان ,1987 هجم نحو 250 مقاتلاً على موقعي الشومرية وعلمان وجابهوا القوات الاسرائيلية واللحدية. سقط للمقاومة في واحدة من اكبر الهجمات ضد القوات الاسرائيلية 19 شهيداً. وقتل 11 اسرائيلي وأربعة لحديين. بعد ستة اسابيع اعادت المقاومة الكرة. مئات العناصر شنت هجوماً على مواقع في تلال جبل صافي ومنطقة جزين وسيطرت على اربعة منها، كما قصفت 12 موقعاً آخر. وعاد المقاومون في ذاك النهار بآلية نصف مجنزرة وأسلحة وذخائر وبحصيلة 11 قتيلاً لحدياً و20 جريحاً بينهم 6 اسرائليين، باعتراف الدولة المحتلة. هذه كانت «عملية بدر الكبرى».
على هذه الوتيرة ظلت المقاومة الاسلامية تضرب المحتلين واللحديين. عام ,1992 وبعد أيام على الغارة التي قتلت الأمين العام لحزب الله السيد عباس الموسوي وزوجته وولده، أطلقت المقاومة صواريخ الكاتيوشا على قوات اسرائيلية وبدأ زمن مختلف لاستخدام الصواريخ التي ستكبر وتطول وتتطور مع الوقت حتى تهدد ما بعد بعد حيفا في حرب تموز الأخيرة.
ظلت المقاومة على عنادها. والتسعينات أتت بمسؤول عسكري سابق في الجنوب الى سدة الأمانة العامة. فيلم من «اخراج حسن نصر الله»، كان تعليقاً خرج به الإسرائيليون على الشرائط المصورة التي يقوم بتسجيلها عناصر الاعلام الحربي، وهؤلاء نادراً ما خرج المقاومون من دونهم. باتت المقاومة معضلة من دون حل. خرجت من حربين كبيرتين أقوى وأكثر اصراراً. في تموز 1993 سقطت الكاتيوشا على المستوطنات بينما اسرائيل تشن طوال سبعة ايام 1124 غارة وترمي 24 الف قذيفة. وانتهت الحرب بتفاهم شفهي يجنب مدنيي الجهتين الاعمال العسكرية. حلم لبناني عتيق تحقق. بعد اسبوع من وقف النار، قتل 11 إسرائيلي وجرح خمسة في انفجار عبوتين في الشريط الحدودي. في السنة نفسها أسرت المقاومة 12 لحدياً في هجوم على موقع طلوسة.
بعد ثلاث سنوات، سيفجر علي اشمر نفسه في دورية اسرائيلية فيقتل نقيباً ويجرح خمسة. من جديد وجدت اسرائيل نفسها في مواجهة كابوسها يضرب في عديسة، على الحدود. عناقيد غضب بيريز ستستمر 17 يوماً هذه المرة، وتنتهي بـ«تفاهم نيسان» الذي اعتبر حينها خسارة إسرائيلية. كم انتظرت المقاومة كي تقوم بعملية جديدة؟ 14 يوماً. أدى كمين المقاومة على طريق سجد الريحان الى سقوط خمسة اسرائيليين.
بعد 16 يوماً، قتلت عبوتان ناسفتان في مرجعيون ثلاثة ضباط ورتيب إسرائيليين...
ستحمل سنة 1997 خبرين يهنئ الناس السيد نصر الله عليهما: الخبر الاول: عملية الأنصارية، الإنزال الذي انتهى فيه 11 ضابطاً ورتيباً أشلاء. الخبر الثاني: استشهاد هادي حسن نصر الله.
مع خروج إسرائيل من الجنوب، كانت المقاومة الاسلامية قد قدمت 1281 شهيداً، وقامت القوات الخاصة فيها بنحو 66 عملية. ونفذت 858 عملية تفجير عبوات. ونصبت 545 كميناً، ونفذت وحدة الاسناد الناري (المدفعية) 571 عملية وقامت بآلاف العمليات. 1800 قتيل هو عدد قتلى الاسرائيليين خلال فترة احتلالهم كلها، وعلى يد كل مَن قاوم. هذا الرقم يعود الى تقديرات المقاومة الاسلامية.
أما العملاء القتلى فبلغ عددهم نحو .800 وبالطبع، فقد قتلت المقاومة في عمليات نوعية أخرى خمسة من كبار ضباط العملاء، حملة الأسماء «اللامعة» في سجل العمالة: عقل هاشم. حسين عبد النبي. عبد النبي بزي (الجلبوط). فوزي عبد الكريم الصغير. جوزف كرم (علوش).
سجلٌ حافل بما لا يقاس. في الايام الاولى على التحرير، كان الواقف عند الشريط الشائك الحدودي في بوابة فاطمة في كفركلا، يقرأ على اسفل حائط الباطون لبرج المراقبة الاسرائيلي هذه العبارة: «وإن عدتم عدنا. المقاومة الاسلامية».
تعليقات: