ابراهيم الأمين: عن حركة «أمل»


يروي أحد الخبثاء أنه في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، زار وليد جنبلاط نبيه بري في عين التينة. كان رئيس المجلس جالساً على الكرسيّ الشهير الخاص به، فقام مرحّباً بصديقه الذي قامت بينهما علاقة خاصة، لا أعرف من يمكن أن يكتب قصتها الكاملة يوماً ماً. جلس جنبلاط وتوجّه إلى بري: نبيه، أنت اليوم لم تعد رئيساً لحركة أمل فقط. أنت رئيس المجلس النيابي، وأقوى رجالات حافظ الأسد في لبنان، ولديك موقعك المرجعيّ الاستثنائي بين الشيعة في لبنان وربما أكثر. ولديك حضورك الوطني حتى عند من يكرهون ما وصلت إليه البلاد. أرى أنه حان الوقت لأن تخرج إلى العالم. أن تسافر وتزور العواصم وتتفقّد الأمكنة وتلتقي الناس الكبار هناك. لا أدعوك إلى ترك موقعك، بل إلى ما هو أكبر من هذا الكرسي!


الخبيث المحلف يروي أن بري وقف وابتعد قليلاً، فرك أصابع كفّيه، وقال لجنبلاط: وليد يا صديقي، أنا خبرت علاقاتك مباشرة، وشخصياً، مع الدروز طوال السنوات السابقة، خلال الحرب وبعدها. هل تعرف الفرق بيني وبينك؟ أنت يمكن أن تسافر مئة عام وتعود لتجدهم في انتظارك. أما أنا، فإن غادرت لأيام، سيتقاتل كثيرون على انتزاع هذا المقعد!

لم يكن نبيه بري في تلك اللحظة المتخيّلة يخشى منافساً له. كان يعرف جيداً أن قرار التحالف السعودي - السوري - الأميركي قضى بتركيبة أطاحت بحسين الحسيني. وقال غازي كنعان، يومها، إن نتائج الانتخابات النيابية سهّلت علينا مهمة إبعاد الحسيني عن رئاسة المجلس النيابي. ولم يكن في لبنان من يفكر، عن صواب أو خطأ، بأنه قادر على منافسة بري على الموقع. والمقاومة التي كانت منشغلة بمواجهة الاحتلال، لم تكن مهتمّة بغير تثبيت المصالحة الأهلية والسياسية مع حركة أمل بعد صراع الثمانينيات. أضف إلى أنه، أساساً، لم يكن في بال المقاومة منافسة بري، لا على رئاسة المجلس، ولا على حاجب أو مأمور أحراج. ووصل بها الأمر إلى حدّ اعتبار دخول الدولة نوعاً من «الحرام». ولم يكن ذلك يستند إلى «فتوى شرعية» كما روّج كثيرون، بل لأن حزب الله يعي جيداً أن واحداً من أهم شروط حماية ظهر المقاومة هو التسوية (بمعزل عن طبيعتها) مع كل مَن في السلطة، وأساساً مع الرئيس بري.

خلال 15 عاماً من أول حكومة شارك فيها نبيه بري، بعد انتفاضة 6 شباط 1984، وحتى نهاية التسعينيات، كانت حركة أمل تقود معركة الحصاد على مستوى التمثيل الشيعي في الدولة. صحيح أنه لم تتم الإطاحة بالموظفين الشيعة الذين عُيّنوا في عهود القيادات الشيعية السابقة. لكنّ بري ثبّت معادلةً، منع بموجبها أي جهة لبنانية من التدخّل في اختيار أيّ موظّف شيعي. وحتى عندما سعى رفيق الحريري إلى تعيين نواب وموظفين شيعة في الإدارة العامة، كان عليه دفع المقابل على شكل مقاعد سُنية ومواقع مسيحية في الدولة يختارها بري بنفسه. وبالطبع، لم يكن جنبلاط في وارد التدخل في الأمر، كما أن القيادات المسيحية التي نشطت حينها، عملت بغالبيتها - حتى لا يُظلم البعض - بمبدأ «التقية»، ربطاً بأن ما يجري في إدارة السلطة ليس سوى نتيجة خسارتهم تلك الجولة من الحرب الأهلية المفتوحة على الدوام!

مضت السنوات، وكان الرئيس بري يعتنق مفهوماً خاصاً لنيل الحقوق من كعكة النظام. تصرّف على أساس أن التوازن إنما يحصل من خلال اكتساب مواقع رئيسية في الدولة، وضمان الموازنات السنوية لمجلس الجنوب، وتوسيع دائرة العمل في البنى التحتية في مناطق كانت الطرقات غير موجودة فيها أصلاً. وعمل على إقامة شبكة واسعة من المدارس الرسمية والمستشفيات الحكومية وافتتاح فروع للمؤسسات الوطنية في الجنوب والبقاع، وتوظيف الآلاف من أنصاره أو من قبلوا بمرجعيّته في مواقع مختلفة داخل الإدارة العامة، من أعلى السلم الوظيفي إلى أدناه. وحافظ على هامش المناورة واسعاً في إدارته لرئاسة المجلس النيابي، من سرية الحرس التي لها نظام عملها الخاص بحيث لا يجرؤ أي مدير عام لقوى الأمن الداخلي على سؤالها عن العديد وآلية التوظيف والتسريح وخلافه، إلى الأمانة العامة للمجلس وإدارة عمل اللجان النيابية. وكان بري أكثر السياسيين في لبنان صراحة عندما تصرّف على قاعدة أن إدارة المجلس لا تعني التخلّي عن الشراكة الكاملة في عمل الحكومة، فخاض معارك كبيرة مع الياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان وميشال عون، ومع سليم الحص وعمر كرامي ورفيق الحريري ونجيب ميقاتي وتمام سلام وفؤاد السنيورة وحتى مع حسان دياب... ولم يكن بري يسمح لأحد بـ«الدعس» على ما وصفه ذات يوم بـ«طرف الدائرة التي تخصّ حصة الشيعة في هذا النظام، وطالما يريدون نظاماً طائفياً موزّعاً حصصاً على الجماعات، فأنا بما أمثّل أريد حصتي ونقطة على السطر»!

ظلّ الأمر على هذا النحو حتى عام 2000، عندما تبدّلت إدارة الحكم في سوريا. لاحظ الجميع أن علاقة بري بالرئيس بشار الأسد لا تشبه علاقته بوالده. وأدرك الجميع في بيروت أن هناك تحالفاً يجمع بري والحريري وجنبلاط وآخرين لا يجمعهم ودّ مع الأسد الابن. ولم يكن عبد الحليم خدام في وضع أفضل داخل سوريا لكي يعينهم. ولم يمض وقت قليل، حتى تبدّلت الإدارة العسكرية والأمنية السورية في لبنان، وبرز دور للمجموعة المعارضة لهذا التحالف، عنوانها الأبرز الرئيس إميل لحود وفريقه.

لكنّ بري لم يكن كثير القلق لسبب رئيسي وهو أن حزب الله، الطرف الوحيد الذي يمكن أن يتسبّب له بمتاعب، ليس في وارد أي إشكال مع حركة أمل، من رئيسها إلى آخر عنصر فيها. كان بري يعرف هذا الأمر جيداً، ليس على مستوى إدارة البلاد من فوق فقط، بل من خلال العمل على الأرض، خصوصاً بعدما ردعت سوريا الحزب، ومنعته من انتزاع هامش في الانتخابات البلدية، فقرّر حزب الله، بعدها، أنه لا يريد مشكلة حتى في العمل البلدي. وفي كل الاستحقاقات التي تلت، كانت التسويات الضمنية تحكم أي منافسة بين قواعد الطرفين. وحتى بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ودخول حزب الله إلى قلب المشهد السياسي الداخلي، بقي حريصاً على عدم إزعاج حركة أمل، ورئيسها على وجه الخصوص. فكان شديداً في التعامل مع خصوم الحركة بين الشيعة. لم يكن يرفض الكلام مع المطرودين من الحركة، لكنّه منعهم من تشكيل إطار انشقاقي، ولم يعطهم يوماً موقعاً يسمح لهم بادّعاء أن الحزب يريدهم بديلاً منافساً على قيادة الحركة، وهو أمر يعرفه بري أكثر من أي قياديّ آخر في الحركة.


يواجه بري تحدّي تجديد التنظيم، سياسات وهيكلة ووجوهاً

لكن، ثمة ما تبدّل في السنوات الأربع الأخيرة. كانت نتائج الانتخابات النيابية في عام 2018، أول المؤشرات على وجود مشكلة جدية داخل حركة أمل نفسها، وأن المشكلة ليست في منافسة خصومها، أو في تحريض حزبي عليها. المشكلة في قلب التنظيم نفسه: في هيكليّته وإدارته وطريقة عمل قياداته في المركز والمناطق، خصوصاً بعدما استهلكت حصة الشيعة من كعكة النظام، ولم يعد بالإمكان استرضاء احد. وضاق الحال أكثر مع تراجع دور الدولة ومؤسساتها، وتحوّل قيادات في الحركة إلى أشخاص يشبهون بقية السياسيين الذين عانى «شيعة الحركة» منهم قبل عقود. وتكاد لا تخلو جلسة لرجال أعمال أو أصحاب أموال، من الاغتراب أو الداخل، من حكايات عن عراقيل جدية نصبها أمام أعمالهم نافذون في الحركة. وأعرف، شخصياً، حالات كثيرة لم يكن بري يعلم بها على الإطلاق. لكنّ الترهّل الذي أصاب التنظيم تسبّب بكوارث لصورة الحركة عند الناس، وتحديداً ناسها. وعندما أظهرت نتائج الانتخابات أن القوة الفعلية الخاصة للحركة أقل بكثير مما قدّر المشرفون على الماكينة الانتخابية، تعرّف بري شخصياً إلى المشكلة عن كثب. لم يكن أحد من مسؤولي الحركة قادراً على ادّعاء وجود أسباب «قهرية» لما حصل. صحيح أن بعض القيادات قالت لاحقاً إنها سبق أن حذّرت من وجود مشكلة، وإن أحداً لم يصغِ إليها، لكن المؤكد أن بري أصيب بخيبة. وهو لم يكن يوماً ليحمل على الناس العاديين إن هم ابتعدوا عنه، لذلك كان واضحاً في القول: المشكلة عندنا نحن!

عندما اندلع حراك 17 تشرين، عبّرت المشاركة الشيعية الواسعة في التجمّعات الكبيرة، في الأيام الأولى، عن ضيق كبير لدى هؤلاء من الوضع السياسي. وكان واضحاً أن هؤلاء يحتجّون، خصوصاً، على أداء من يمثّلهم في الدولة. وعندما طلب حزب الله من أنصار المقاومة الخروج من الساحات، بدا وكأن الشيعة الذين شاركوا في الاحتجاجات هم من أنصار حزب الله. وهو أمر مفهوم، لأن غالبية الجمهور المؤيّد للمقاومة غير موافقة على أداء الدولة، ولا على أداء الحكومات والمسؤولين، وغير راضية بالتحديد عن أداء حركة أمل، ولديها ملاحظاتها على أداء نواب حزب الله وعلى أداء بلدياته. لكن ما وقع من أحداث في مناطق صور وبنت جبيل والنبطية وبيروت والبقاع، أعطى إشارة سلبية تجاه حركة أمل على وجه الخصوص.

بعد تلك الأحداث، صارت البلاد تضجّ بأخبار عن الوضع الداخلي للتنظيم الشيعي الأقرب إلى روح نظام اتفاق الطائف. وبدأ تداول أخبار عن خلافات بين قيادات الحركة وبين أعضاء الحلقة القريبة من رئيسها. لكنّ الأمر ما كان ليتفاقم لولا عدم قدرة الحركة على ابتداع وضعية سياسية وتنظيمية جديدة، ما جعل الأمر يتجه صوب لامركزية فعلية، ولو أن زعماء هذه المجموعات، جميعاً، يدينون فعلاً بالولاء للرئيس بري، وليس بينهم، على الإطلاق، من يزعم أو يدّعي قدرة على التصرف خارج قرار عين التينة. لكن ذلك لا يكفي لمعالجة المشكلة الأصلية المتعلقة بالدور الراهن أو المستقبلي للحركة في مواجهة التحديات التي تواجه البلاد الآن، وفي المستقبل القريب.

اليوم، وخلافاً لكل الآراء السلبية التي يمكن جمعها في مجلّدات، فإن الاستحقاق الذي يواجه حركة أمل يمثل تحدياً لكل من يخشى على التركيبة الأهلية العامة في البلاد. وهي تركيبة مؤهّلة للسقوط إن لم يبادر مَن بيده الأمر إلى مراجعة نقدية تستهدف ليس التعرّف إلى أسباب المشكلة، بل تحميل المسؤوليات والمحاسبة من فوق. وهي مراجعة تحتاج إلى شجاعة الإقرار بالحاجة إلى تبديل حقيقي على صعيد السياسات وطريقة اختيار الشخصيات المرشّحة لأدوار نيابية أو إدارية أو وزارية، لأن البديل سيكون على شكل تصويت أكثر سلبية في الانتخابات المقبلة، ولن يتمكّن حزب الله من سدّ الفجوة مهما فعل!


الانتخابات الماضية وحراك 17 تشرين كشفا أزمة العلاقة بين قيادات الحركة وجمهورها

حال حركة أمل هي حال آخرين أيضاً. يمكن لوليد جنبلاط التغنّي بزعامة لا تخشى على نفسها من أهلها. لكنه يعرف جيداً أن النوم هو «سمة» من يلحق به ويواليه ولا يساجله أو يناقشه. هو نوم بلا حياة. والأمر نفسه ينطبق على حال الكسل والانتظار التي تسود قواعد التيار الأزرق الذي «اختفت» قيادته، وتحوّل إلى جزء من إرث ضاع بعد رفيق الحريري. وكذلك على حال جمهور هائج خلف زعيم يطعمه الخوف ليلَ نهارَ، ويدعوه إلى الاستعداد لمنازلة القرن، كما يفعل سمير جعجع مع قواعد القوات اللبنانية. والتحدي نفسه يواجهه ميشال عون مع جمهور بقي وفياً طيلة ثلاثة عقود، لكنّ خبز «الحقوق المسيحية» لم يعد يُسمن أو يُغني عن جوع إلى دولة حقيقية... وبالطبع، هي أيضاً حال المقاومة مع جمهور كبير من داعميها، ممن يعرفون أن قيادتها تدرك أيضاً أن بناء الدولة العادلة صار شرطاً ملازماً لبناء الدولة القادرة على مواجهة الاستعمار...

اليوم، يقف لبنانيون كثر على هامش المشهد. بعضهم تعب من التجارب ولا حول له ولا قوة. لكنّ بينهم حشداً من «صيصان السفارات» الذين يفترشون الساحات، رافعين الأيدي إلى السماء داعين: اللهم اجعلنا دِيَكة على مزابل لبنان!

تعليقات: