لما الفقر يفوت من الباب.. الحب بيطلع من الشباك
نشب صراع لامتناه بين المستأجرين ومُلاّك الشقق السكنيّة في الضاحيّة الجنوبيّة بسبب الأزمة الماليّة، بعد أن لامس الدولارالواحد عتبة 23 ألف ليرة لبنانيّة. فمن جهتهم، طالب مُلّاك الشقق برفع إيجارات بيوتهم مرتين، ومن جهة أخرى علت صرخات المستأجرين معلنين عجزهم عن دفع إيجار يفوق رواتبهم الشهريّة بأضعاف.
عام 2019 تراوحت إيجارات الشقق في الضاحية الجنوبية بين 400$ و500$ شهرياً، أي ما كان يعادل 600 و750 ألف ليرة لبنانية، وارتفعت تدريجياً مع بداية صعود سعر الدولار الأميركي، لتصل اليوم إلى مليون ونصف المليون أو مليونين ليرة شهرياً، على الأقل.
من منطقة سكنيّة راقيّة إلى أحياء شعبيّة
يروي أحمد لـ"المدن" مرحلة انتقاله من منطقة "حارة حريك" نحو منطقة "حي السلّم"، بسبب مطالبة صاحب الشقة بإيجار يفوق قدرته الماديّة بنسبة كبيرة. وهو متزوج وأب لطفلين، يعمل في معمل لتجهيز المفروشات في منطقة الشويفات، ويتقاضى شهرياً 3 ملايين ليرة لبنانيّة. استطاع منذ بداية زواجه عام 2018 أن يستقر في شقة سكنية كبيرة مؤلفة من 5 غرف في حارة حريك بـ500$ شهرياً، أي 750 ألف ليرة، ومن ثم بدأ صاحب المُلك المطالبة بإيجار أعلى، معتبراً أن حارة حريك منطقة راقية و750 ألفاً باتت بلا قيمة، في ظل ارتفاع الدولار، فطلب منه رفع الإيجار إلى مليوني ليرة لبنانيّة. واستطاع أحمد إقناعه بمبلغ يناسب الطرفين، وهو مليون ونصف المليون لعدة أشهر، وبعد أن وصل الدولار لعتبة 20 ألف ليرة، أصرّ المالك على إيجار قدره 150$ "فريش"، وإلاّ الخروج من الشقة.
يشرح أحمد عن تكاليفه الشهريّة التي تحدّ من قدرته عن تأمين مليوني ليرة لإيجار المنزل فقط. فزوجته ربة منزل لا تعمل، ويقوم بدفع مليون ونصف المليون ليرة شهرياً لصاحب المولد الكهربائي، إضافة إلى مليون ونصف المليون لصاحب الشقة فينتهي راتبه الشهري. وبالتالي، يقوم أخوه المقيم في دبي بإرسال 150$ شهرياً لدفع قسط المدرسة الشهري وتكاليف الطعام والطبابة وما إلى هنالك. وإثر ممارسة الضغوط عليه قرّر الانتقال إلى منزل أصغر وتغيير منطقته السكنيّة سعياً للتخفيف من الأعباء الماليّة. هكذا استقر في منزل من ثلاث غرف في أحياء حي السلّم بمليون ليرة..
الحماة والكنّة ببيت واحد
انتقل محمد وزوجته وطفله الذي لم يبلغ عامه الأول من منزله في حي الأبيض للعيش مع أهله، بعد أن عجز عن دفع إيجار منزله الذي وصل إلى مليون وثلاثمئة ألف ليرة. وهو يعمل في مطعم ويتقاضى مليوني ليرة شهرياً. أما زوجته فتقوم بتعليم أجندة يومية لطالبين مقابل 800 ألف ليرة لبنانية. ويعاني محمد منذ ولادة طفله من تكاليف باهظة لتأمين الحليب له بعد ارتفاع سعره. إذ لم يكن بإمكان والدته إرضاعه طبيعياً لأسباب صحية. وهو بحاجة لأكثر من 600 ألف ليرة شهرياً لشراء الحليب فقط، ناهيك عن باقي احتياجاته من ملابس وأدوية وحفاضات وغيرها. منذ بداية الأزمة المالية طالب صاحب الشقة بزيادة كلفة الإيجار لتصبح مليوني ليرة، بعد أن كانت 650 ألف ليرة سابقاً. وبعد أن طالبه صاحب مولد الكهرباء بمليون ومئة ألف ليرة، وجد نفسه محمد عاجزاً عن تأمين مستلزمات عائلته الصغيرة. فما يتقاضاه وزوجته لا يكفي إلا لتأمين مسكن مع إنارة.
هكذا تخلى محمد عن الاستقلالية، مجبراً على الرضوخ للحياة التشاركية مع أهله. كما أنه منذ أن قام بتسليم منزله وهو يعاني من مشاجرات مستمرة مع زوجته، تارة بسبب الوضع الإقتصادي، وطوراً بسبب عدم رغبتها في المكوث مع والدته تحت سقف واحد. وقد وصل لقرار الطلاق مراراً بسبب استمرار هذه المشاكل اليومية.
ويقول: "لما الفقر يفوت من الباب.. الحب بيطلع من الشباك". موضحاً أنه ما إن يصل إلى البيت حتى تبدأ زوجته بإخباره عن المشاجرة التي حصلت مع والدته أو مع شقيقته بسبب اختيار الطعام، أو تربية طفلها الصغير، أو تنظيف المنزل. وبدورها تقوم والدته بتبرئة نفسها وشرح المشكلة من جديد. وسعياً منه لحل هذا النزاع يقوم بمواساة الطرفين. يعاني اليوم محمد من ضغط نفسي كبير فهو من جهة يحارب الظروف ليؤمن حياة شبه كريمة لعائلته ومن جهة أخرى يسعى لإيجاد وظيفة أخرى تسمح له بالانتقال لمنزل مستقل عن والدته وشقيقته، حتى لا ينفصل عن زوجته ويضيع طفله الصغير بين زوايا المحاكم!
قلق المستأجرين
وفي حديث مع أحمد ضاهر، المعروف بـ"أبو طارق"، وهو صاحب مكتب عقاري في حي الأبيض، يوضح لـ"المدن" بأن وظيفتهم اليوم باتت لحل النزاعات القائمة بين المستأجرين ومالكي الشقق السكنية. فالعديد من أصحاب الشقق السكنية المغتربين يرفضون تأجير شققهم بسبب انهيار العملة الوطنية. فبعد أن كانوا يستلمون ما يقارب 6000$ سنوياً بدلاً عن إيجار منازلهم، اليوم يستلمون 600$ سنوياً. وبالتالي، فقد قرروا إخراج المستأجرين وإقفال الشقة. وهذا هو السبب الرئيسي وراء النقص الحاصل في الشقق السكنية والطلب المتزايد.
ويروي أحمد عن الإجراءات التي يقوم بها المستأجرون. فمنهم من ينتقل للعيش من المدينة نحو الريف. ولكنه يفاجأ بالغلاء المعيشي. ومنهم من ينتقل للسكن عند أهله سعياً لتوفير بعض المال. وهناك قسم آخر بات يطلب مساعدات من أقاربه المقيمين خارج لبنان لتزويده بالعملة الصعبة. ولا ينكر أحمد بأن العديد من زبائنه انفصلوا عن أزواجهم بسبب الغلاء المعيشي. لكن قسماً آخر -وبعد ارتفاع سعر الدولار- بات بمقدوره الاستقرار في شقة مثالية وفي منطقة راقية، وهم أمثال شباب حزب الله الذين يتقاضون بالدولار الأميركي، ويستأجرون شققاً في السان تيريز ومحيطها بـ250$ شهرياً.
تعليقات: