عندما اعتقل الأسير سمير القنطار لدى الاحتلال الإسرائيلي في 22 نيسان من 1979، كان لا يزال فتياً في عمر الـ16 عاماً عند تنفيذ عملية نهاريا مع رفاقه. الشاب الصغير الذي يعود في الأيام المقبلة رجلاً في السادسة والأربعين من العمر، سيرى وطنه بعد ثلاثين عاماً بكل التغييرات التي طرأت، وكأنه يراه للمرة الأولى.
سمير كمثل الكثيرين من الشباب اللبناني آمن بقضية الشعب الفلسطيني وحقه في العودة وتقرير مصيره، وجد في الحرب الأهلية الدائرة في لبنان، في تلك الأعوام ابتعاداً عن القضية الحقيقية، فتوجه صوب الجنوب، ومن هناك انطلق في رحلة امتدت عبر أجيال قضاها متنقلاً في سجون العدو.
قصة سمير القنطار تختلف كثيراً عن قصص غيره من الشبان المعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، فهو يعرفهم جميعاً، وتعرف إليهم اثناء تنقلهم في المعتقلات، وظل طوال هذا العمر عميدهم في الفترة الزمنية وفي النضال مع رفاقه السجناء الفلسطينيين.
القصة الطويلة للشاب اللبناني المولود في العام 1962 بدأت فعلياً في العام 1994 حين راح أخوته يطالبون بإطلاق سراحه من سجون العدو. ففي تلك المرحلة وبعد نهاية الحرب الأهلية كان الكثير من اللبنانيين نسوا ان هناك شاباً حكم عليه لدى العدو الإسرائيلي بخمس مؤبدات بالإضافة إلى 47 عاماً. الرقم الأخير هو الأقرب لعمره الحالي، في صدفة أعطت الحظ للمناضل الشجاع في وجه السجانين.
مرّت قضية سمير في العديد من المراحل، بداية مع الاعتصامات التي كان يشارك فيها الأهل بالإضافة إلى الرسائل التي كانت ترسل إلى المحافل الدولية وتحديداً المؤسسات الانسانية مثل الصليب الأحمر الدولي ومنظمة العفو الدولية وغيرها. كانت عائلة سمير تعمل في البداية وكأن ابنها أسر قبل فترة بسيطة فيما ان الرقم الفعلي لغيابه كان أكثر من 15 عاماً في سجون العدو الإسرائيلي.
التوجه إلى المؤسسات الرسمية اللبنانية ومن بعدها الحصول على فرصة طرح قضية المعتقلين اللبنانيين لدى العدو الإسرائيلي في الأمم المتحدة وتحديداً قضية سمير لم يكن بالأمر السهل. عوامل عديدة صعبة عرقلت الطريق، لكن التاريخ الطويل الذي قضاه سمير في معتقله جعل الكثير من اللبنانيين يعملون لانجاح صوت قضيته ويذللون العقبات، ليكون في هذه اللحظة من أشهر المعتقلين السياسيين في العالم، وهو ثمن صعب دفعه الرجل الذي ما زال طفلاً بالنسبة لأحبته ورفاقه.
تنقسم المطالبة بإطلاق سمير إلى ثلاث مراحل، على ما يقول شقيقه بسام القنطار، المرحلة الأولى وتمتد من العام 1994 وصولاً إلى العام 2000، ففي هذه المرحلة كان بسام الشاب الذي ولد قبل أسر شقيقه بعام واحد، يتعرف إلى قضية المعتقلين اللبنانيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي. فهو علم ان مجموعة كبيرة من اللبنانيين ما زالوا معتقلين في سجون الاحتلال داخل فلسطين إضافة إلى المئات من اللبنانيين المعتقلين في سجن الخيام.
بدأ بسام نشاطاته في الوقت الذي صارت المراسلات مع شقيقه سمير لا تتوقف، اذ كان لسمير قدرة المشاركة عبر الكتابة من داخل السجن في كل الأحداث التي مرّت خلال الأعوام.
فهو في الانتفاضة الأولى في فلسطين شارك مع الأسرى الفلسطينيين القدامى في تنظيم الشبان الجدد الذين يتم اعتقالهم إدارياً لفترات محددة ويطلق سراحهم بعد أشهر، ليعودوا إلى الشارع ويستمروا بانتفاضة الحجارة متماسكين أكثر من الماضي.
وكذلك في الانتفاضة الثانية كان يشارك مع الفلسطينيين واللبنانيين المعتقلين لهمجية سجاني الاحتلال، يواجهون في السياسة، وفي مطالب يومية ساهمت في تحسين عيشهم بعدما كانت السجون تفتقد لأدنى مقومات العيش.
في تلك المرحلة كان سمير يتعلم اللغة العبرية ليستطيع مواجهة قائد السجن بلغته. ويقول عنه رفاقه المعتقلون انه يعرف تفاصيل في العبرية لا يمكن لأي شخص عادي أن يتعلمها بسهولة. ولضرورة ملاحقة أوضاع الأسرى في سجون العدو والحصول لهم على ما يفرضه القانون الدولي ومنع السجانين من سرقة أموال المعتقلين التي كانت ترسلها وزارة الأسرى في السلطة الفلسطينية، كان سمير هو المفاوض الأول. فهو وبسبب علاقته مع أقدم السجناء الفلسطينيين تحوّل إلي مالك لتقنيات التفاوض وإدارة العمل الجماهيري، خصوصاً في التناقض الحزبي الذي تشهده فلسطين والذي يؤثر تلقائياً في المعتقلين لدى الاحتلال. وهو الذي يعرف مسالك اللغة فينجح كما عادته في إعادة حقوق رفاقه من إدارة السجن.
وفي تلك المرحلة ايضاً درس سمير في إحدى الجامعات الإسرائيلية مادة العلوم الإنسانية والاجتماعية، ونجح بجدارة وبأرقام عالية بعد دراسته في زنزانته وتحضيره ورقتين قدمتا للمناقشة، احداها عن الديموقراطية والأمن القومي في إسرائيل. وفي هذه الورقة عمل على إبراز التناقض بين الفكرتين من دخول أي انسان إلى "الدولة" وصولاً إلى الحصول على كتاب منشور، حيث مُنع الكثير من الكتب الموجودة في مكتبة الجامعة عنه "لارتباطها بأمن الدولة" على ما كان يقول الرقيب الإسرائيلي لإدارة الجامعة.
ارتباط سمير بالعلم أتى مبكراً، فهو حين حمل السلاح باكراً كان والده يردّد على مسامعه ان العلم هو الذي يحقّق الأحلام وليس حمل السلاح، ولذلك لم يترك هذه الفترة الطويلة تمر من دون إكمال تعليمه، وتحضير نفسه للخروج من السجن، وظلّ مصراً على إمكانية الخروج، ليثبت ذلك بعد هذه الأعوام كلها.
يروي بسام ان معرفته الأولى الفعلية بسمير كانت في الرسائل التي تصلهم مع الصليب الأحمر، ولذلك فهو كلما رأى سيارة للصليب الأحمر تسير في الطريق يحضر في باله أولاً رسائل شقيقه. وهو أحب الكتابة لأنها كانت المعبر الفعلي الوحيد بين العائلة وابنها في معتقلات الرملة ونفحة وهداريم.
..الثانية
المرحلة الثانية التي مرّت فيها قضية سمير كانت من العام 2000 إلى العام 2004، أتى الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية تطبيقاً للقرار 425 ولنضالات المقاومين اللبنانيين، وبقي في سجون الاحتلال الإسرائيلي 21 أسيراً لبنانياً.اعتبر الإسرائيليون ان الأسرى اللبنانيين غير مرتبطين بالقرار 425، وبدأت عائلة سمير ورفاقه العمل على إثبات أحقية اللبنانيين في الخروج من المعتقلات الإسرائيلية، ولذلك كانت الجولات على المؤسسات الدولية وتفعيل القضية داخلياً عبر طلاب الجامعات، ومؤسسات المجتمع المدني.
في أوائل العام 2004 أطلق العديد من الأسرى اللبنانيين من سجون الاحتلال وبقي الأسير سمير القنطار كواحدة من القضايا الشائكة التي لم يوافق الاحتلال الإسرائيلي على إنهائها. كان اطلاق الأسرى اللبنانيين في تلك المرحلة نتيجة جهد لبناني انطلق على الأصعدة كافة، فكانت المطالبة المستمرة لأهالي المعتقلين وعملية استدراج أحد الإسرائيليين إلى بيروت التي قامت بها المقاومة من جهة، والمفاوضات الطويلة والاتصالات الدولية التي قامت فيها الحكومة اللبنانية وخصوصاً تحركات الرئيس الشهيد رفيق الحريري على العديد من المراجع الدولية لاقفال هذا الملف من جهة ثانية.
..والثالثة
المرحلة الثالثة وكان عنوانها سمير القنطار، وهي من العام 2004 إلى اليوم. في هذه المرحلة ظهرت قضية الأسير نسيم نسر لتضاف إلى قضية سمير إضافة إلى مطالبة أهل الشهيد يحيى سكاف بمعرفة مصير ابنهم المفقود في الفترة الزمنية نفسها التي أسر فيها القنطار.
هذه المرحلة شهدت عملاً مكثفاً لاطلاق سراح سمير. فبعد استشهاد الرئيس الحريري ونجاح انتفاضة الاستقلال، في إيصال الحكومة الأولى للرئيس فؤاد السنيورة، حصل أهالي المعتقلين والمفقودين في السجون الإسرائيلية على موافقة رئيس الحكومة بلقاء أي مندوب دولي يزور لبنان، إضافة إلى كل ما هو فوق صفة سفير من أي دولة أجنبية.
ناضل اللبنانيون طويلاً لاطلاق معتقليهم من سجون الاحتلال الإسرائيلي، كانت حركة المطالبة تكبر كل يوم من الأهالي إلى مؤسسات المجتمع المدني ومنها لجنة المتابعة لدعم قضية المعتقلين في السجون الإسرائيلية التي عملت طويلاً لرفد قضية المعتقلين برسم خرائط طرق توصل إلى الحرية.
يقول بسام القنطار ان العائلة طلبت من الرئيس فؤاد السنيورة في العام 2005، وضع وصلة بين مواقع الانترنت التابعة للوزارات اللبنانية كافة وموقع الأسير سمير القنطار إضافة إلى الطلب من وزارة الخارجية وضع تصور قانوني ديبلوماسي لحل قضية سمير، وهو ما وافق عليه السنيورة وحقق أجزاء كبيرة منه.
يتحضر اليوم سمير للعودة إلى وطنه. هو جهّز نفسه خلال سنوات سجنه لهذا اليوم، فهو يؤمن بانتصار الحق العربي في قضية فلسطين، وهو يتهيأ منذ زمن للانخراط في الحياة اليومية، وكذلك يدرك الاشكالات اللبنانية ويتابعها ويشارك في بعضها، وهو الذي ذهب للنضال قبل ثلاثين عاماً في فلسطين رفضاً للحرب الداخلية باعتبار ان الصراع هو مع العدو فقط.
في سيرة سمير القنطار في سجنه انه حافظ على معنوياته كيوم دخوله السجن شاباً صغيراً، وهو نجح في تحويل السجن من حيز إقصائي إلى حيز حياتي، حيث استطاع مع غيره من الفلسطينيين واللبنانيين والعرب الأسرى كسر صعوبة العيش وتحويلها إلى عجين رسموا به الأمل بتحرير كل الأسرى والمعتقلين السياسيين في سجون الأرض كلها.
تعليقات: