يوسف غزاوي: هجرة الفنانين إلى فرنسا: بيكاسو الغريب


نسمع كثيراً ونقرأ عن الفنان الأسطورة بيكاسو، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أثناء حياته في فرنسا، ولمّا يزل يُثير الجدل والاهتمام بعد مماته حتى يومنا هذا. الجديد في الأمر هو المعرض الذي يُقام في باريس، والذي كرّست صحيفة «ليبراسيون» بعض صفحاتها، بدءاً من الصفحة الأولى، لهذا الحدث الاستثنائيّ والمميّز. فماذا يوجد في كواليس هذا المعرض وهذا التوقيت من خلال ما أوردته الصحيفة الفرنسيّة المعارضة لليمين الفرنسيّ؟

صدرت صحيفة «ليبراسيون» بتاريخ الخامس من هذا الشهر (تشرين الثاني) 2021 بعنوان: «بيكاسو غريب كآخرين» Picasso un étranger comme les autres (إرتأينا كلمة غريب بدلاً من أجنبيّ ومهاجر). وعنوان ثانٍ: «خلف نجاح بيكاسو، عدم استقرار الغربة». (يبدأ المعرض في 4 تشرين الثاني 2021 وينتهي في 13 شباط 2022). إذاً، هو تحقيق حول الهويّة الفرنسيّة وبيكاسو.

وراء المآثر وريش التلوين الفنّيّ، هناك الغاليري والإرادة. من خلال محفوظات معيّنة، تُعيد المؤرّخة الفرنسيّة «آني كوهين - سولال» Annie Cohen - Solal في معرض فنّيّ في المُتحف الباريسيّ «تاريخ الهجرة»، رسم المسار المشوّش للفنان الأسبانيّ، الذي، قبل أن يصبح مشهوراً، رُفض وأُهمل من قبل فرنسا مع مثابرة مؤثّرة من قِبله.

عندما نرى صور بيكاسو في منزله في الريف الفرنسيّ نعتقد أنّ بيكاسو كان قد اندمج بشكل كامل، وقُبِل في المجتمع الفرنسيّ، فنحسّ أنّه فرنسيّ أكثر منه أسبانيّ (بلد المنشأ). إنّ الحقيقة، كما تذكر الصحيفة الفرنسيّة كانت شيئاً آخر. فلم يتوقّف أمر اعتبار بيكاسو أجنبيًّا (غريباً) من قِبل الإدارة الفرنسيّة.

عُرِفت هذه الحقيقة وهذا الأمر منذ العام 2000 عندما لملمتْ باريس محفوظات الشرطة الفرنسيّة التي كانت قد اختفت عام 1940 في برلين الألمانيّة ومن ثمّ في موسكو عام 1945!

منذ العام 2004 حاول أحد المؤرّخين نبش هذا الأمر عبر منصّة نُشِرت في صحيفة «ليبراسيون»، لكنّ تفاصيل هذا الرفض وتفاصيل المحفوظات (الأرشيف) لم تُكشف منذ حينها، إلا أنّ هذا الكشف حصل مع معرض «بيكاسو الغريب» Picasso l`étranger، الذي أُفتتح في باريس في «المُتحف الوطنيّ لتاريخ الهجرة». نظّم المعرض وغذّته المؤرّخة الفرنسيّة التي ذكرناها. يكشف هذا المعرض كلّ الوثائق التي تروي رفض السلطات الفرنسيّة طلبات بيكاسو للحصول على الجنسيّة (كان بيكاسو مُجبراً على تجديد إقامته، كأجنبيّ، كلّ سنتين). لا يتعلّق الأمر بشكوى بيكاسو، التي يُمكننا قول الكثير عنها بخصوص علاقاته الإشكاليّة مع النساء (لمن يهمّه الأمر نموذج عنها كتاب فرانسواز جيلو، المترجم إلى العربيّة بعنوان: حياتي مع بيكاسو)، بل بالأحرى إعادة وضع هذا المسار الفوضويّ الأجنبيّ في فرنسا ضمن السياق السياسيّ الحاليّ الذي يرى في الأجنبيّ، أو المهاجر، أو الغريب، خطراً على فرنسا، كما تقول الصحيفة. من خلال هذا العنوان، نجد هذا المعرض ثميناً بشكل غير معقول. يُمكن القول أنّه معرض سياسيّ.

ad

«إلى الفنان الذي، من أجل أن يبنيَ مساره، هو بصدد عبور أفريقيا سيراً على الأقدام، أو البحر المتوسّط على متن قارب من الثروة». من خلال هذا القول بدأت المؤرّخة الفرنسيّة «آن كوهين - سولال» كتابها المطوّل عن بيكاسو كنوع من الرواية الأدبيّة للمعرض الذي يُقام بالموازاة مع مُتحف تاريخ الهجرة في باريس. جاء الكتاب في 728 صفحة بعنوان «أجنبيّ يُدعى بيكاسو» يروي تاريخ إنسان استطاع أن يضع بصماته على القرن العشرين، والذي كان منبوذاً من الإدارة الفرنسيّة حينها. هذا التحقيق، الغائر في خلفيّات مختلفة من الأرشيف الفرنسيّ، يشرح كيف أنّ بيكاسو وصل إلى المراهنة على الأشخاص المناسبين، وخلق شبكات سمحت له بالاندماج في فرنسا (نستحضر هنا كتاب عن بيكاسو، المترجم إلى العربيّة، بعنوان: نجاح بيكاسو وإخفاقه) دون أن يحصل على الجنسيّة الفرنسيّة. الغوص في كتاب «آني كوهين» كالغوص في رواية مليئة بالتفاصيل والقصص الصغيرة والطرفات..

علّق أحدهم في صحيفة «ليبيراسيون» بالقول أنّ عام 2023 سيُمثّل الذكرى الخمسين لوفاة الفنان الذي لا تتوانى المؤسّسات الفرنسيّة عن تكريس المعارض له في السنوات الأخيرة دون توقّف في ظلّ المواهب المعاصرة، هنا وهناك، التي نأمل أن تعرف فرنسا كيفيّة استقبال الأفضل منهم. قال آخر: ما يهمّني هو معرفة سبب عدم استطاعة بيكاسو الحصول على الجنسيّة الفرنسيّة.

تحت عنوان «الفنان والأرشيف» تُضيف الصحيفة أنّ معرض «بيكاسو الغريب» هو بالأحرى معرض محفوظات من الأرشيف، وليس عرض أعمال فنّيّة، هو (المعرض) عبارة عن أوراق مكتوبة عديمة الأهمّيّة، ملاحظات وجزّازات (فيش) إداريّة، تحمل نظرة أخرى عن مسار الفنان بيكاسو.

إذا وجب علينا إيجاد صبغة لونيّة لـ«بيكاسو الغريب» فهذا لن يكون من خلال اللون الزهريّ أو الأزرق (مرحلتان مثّلتا هذين اللونين في مسار بيكاسو الفنّيّ)، هذا يعني أنّ أيّا من هذين اللونين لا يمكن لتاريخ الفنّ تصنيف المرحلتين للفن الشاب، بل هو اللون الرماديّ، لون الإرادة، للأوراق المكتوبة عديمة القيمة، والجزازات التي أخرجها المعرض من محفوظات مركز الشرطة في باريس، للتلميح لنظرة أخرى لمسار وحياة الفنان، ولصناعة واستقبال عمله.

بشكل آخر، نقول أنّ المعرض لا يضيء على الأساليب الفنّيّة (التكعيبيّة، الكلاسيكيّة الجديدة، التعبيريّة...) التي تستخدم شبكات قراءة لتصنيف هذا العمل الهائل.

يتقدّم المعرض على خيط متسلسل زمنيًّا، أعمال ووثائق دون تدرّج زمنيّ. ليس فقط لوحات المعلّم (إحداها عبارة عن الأصليّة بسبب عدم التمكّن من استعارتها)، رسوم، دفاتر ملاحظات، سيراميك، منحوتات، ولكن أيضاً (وخاصّة) رسائل صغيرة، أفلام عن الحدث، الخ..

إنّ عقدة المعرض، والأهمّ فيه، بحسب الصحيفة، يبقى طلب بيكاسو المرفوض من قِبل السلطات الفرنسيّة للحصول على الجنسيّة عام 1940 والقلق الذي نخره، والذي سيظهر بشكل خطير في البورتريه الذي يغلب عليه طابع العزلة والمتاهة... يبدو بهيئة جامدة مذهولة، يده في جيبه، نظرة خطيرة. وهناك اللوحة القاسية لهرّة تمسك عصفوراً (1939) وُصِفت بطريقة منزاحة لكن عنيفة المصير المُخصّص لطليعيّ تلك المرحلة.

على محطّة CNews توجّه الإعلاميّ بقوله: «بابلو، لتنجحَ عليكَ تغيير اسمك»... «ستُصبح على كلّ حال تاجر مخدّرات، كما يحصل مع 90 بالمئة من الأجانب في فرنسا». «لقد شاهدتُ هذا العمل، هو لا قيمة ثقافيّة له من الأبجديّة». «نعم، غرنيكا هي من دون شكّ عمل خاطئ، لكنّ فرانكو قام أيضاً بأشياء جميلة لم تذكرها»... هذه فرنسا آنذاك ضيّقة الخلق وعنصريّة بإرادتها، التي ستلتقي الفنان الشاب الأندلسيّ عند وصوله إلى باريس عام 1900. فعلت الإدارة الفرنسيّة ما بوسعها لتحقيره لأنّه «ليس فرنسيّاً بشكل كافٍ». حسب قول الـ «ليبراسيون»، التي تضيف قولها أنّ كتاب آني كوهين - سولال، الذي حصل على إحدى الجوائز، يُقرأ في فصوله المتعدّدة ككابوس... تُنهي الصحيفة قولها أنّ المعرض الذي يرافقه هذا الكتاب هو في منتهى السياسة؛ أكثر منه اكتشافاً، هو يقرع كتحذير..

إنّ قضيّة الهجرة الفنّيّة إلى حضن فرنسا لا تقتصر بطبيعة الأمر على بيكاسو، فثمّة فنانون آخرون ملأوا هذا البلد الجميل بحضورهم وأعمالهم، كأن نذكر «مدرسة باريس» الفنّيّة، على سبيل المثال، التي تألّفت من فنانين لا يوجد بينهم فرنسيّ واحد! وهل نذكر سلفادور دالي أم فاسيلي كاندنسكي، والكثير غيرهم. هل خدم هؤلاء فرنسا أم حملوا إليها الهمّ والوجع وتغيير الهويّة؟ يأتي هذا المعرض في هذا الوقت الغارق في متاهة الدعوات العنصريّة على باب الانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة بعد أشهر قليلة. العالم يتغيّر، فهل يتغيّر وجه فرنسا التي نعشقها؟

------------

* د. يوسف غزاوي (فنان تشكيليّ وباحث)

تعليقات: