مقاتل رسمي وآخر غير رسمي في كورنيش المزرعة
من القاهرة إلى الدوحة مروراً بجنيف ولوزان والطائف... إبريق الزيت يتنقل..
«شرعنة» سلاح حزب اللّه باتت عنوان المرحلة المقبلة في لبنان. الخلاف حول هذا «السلاح المقاوم» ليس الأول من نوعه، ووجود سلاح خارج عن سلطة الدولة ليس ظاهرة جديدة في لبنان، فالسلاح «غير الرسمي» موجود منذ عام 1958
للوجود المسلّح في بلادنا ظروف ونشأة وسيرورة وهدف، ولكل مرحلة «سلاحيّة» خاصة بها، إلا أن جميع المراحل تتقاطع عند آلية إنهاء الوجود المسلّح عبر عقد اتفاقات بين الأطراف المتصارعين خارج الحدود اللبنانية. وفي هذه الآلية خصوصيات أيضاً، فاليد العربية هي دائماً الراعي، والأطراف اللبنانيون هم دائماً الحمل الوديع الذي يأكل أولاده في أرضه، ليرضخ لتوجيهات أو أوامر خارجية غالباً ما يمكن تحقيقها سيادياً ومن دون تدخلات عربية أو أجنبية.
فمن اتفاق القاهرة والسلاح الفلسطيني، إلى اتفاق الطائف والسلاح الميليشياوي، مروراً باتفاقات جنيف ولوزان والاتفاق الثلاثي، وصولاً إلى اتفاق الدوحة الأخير ومقاربته لسلاح حزب الله، تبدأ الرواية ولا تنتهي. وإن كان «السلم عقدة بين حربين» كما يقول ماو تسي تونغ، فالاتفاقات العربية العابرة للتنظيمات اللبنانية «بنج» بين جرحين، جرح كيان صهيوني ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على لبنان، وجرح ضعف القوى المسلحة اللبنانية التابعة للدولة وما يؤدي إليه ذلك من ولادة تنظيمات مسلحة وطنية وفئوية تعيش هاجس المقاومة من جهة وهاجس الخلاف السياسي حول السيادة من جهة أخرى...
أما الاتفاقات العربية، ورغم السير بها عموماً، فإن بعض الأحزاب أو التيارات المعارضة لهذه الاتفاقات لسان حال طريقها المشي «على مضض». ولاستذكار الاتفاقات العربية الكابحة للانفجار اللبناني الداخلي هدف استقرائي وسؤال كبير، فهل يكون لسلاح حزب الله اتفاقه الخاص؟ ومن سيرعاه؟ ومن هي الأطراف التي ستدخل في مفاوضات نزع السلاح؟ أم أن هذا السلاح سيكسر الجرّة خلف الاتفاقات العربية السابقة ليصبح خارج إطار التفاوض؟ وماذا عن اتفاق الدوحة الأخير؟
■ من هنا تبدأ الرواية
بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 والاجتياح الإسرئيلي عام 1982، عقد مؤتمر لتنظيم السلاح المقاوم والميلشياوي في جنيف يوم 3 تشرين الأول عام 1983، واتخذ طابعاً حوارياً برعاية سوريا والسعودية، وبمشاركة رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل وممثّلي التشكيلات السياسية والمسلحة الرئيسية، وبينهم وليد جنبلاط ونبيه بري. وأكد المشاركون «عروبة لبنان»، وطالبوا بإلغاء اتفاق 17 أيار 1983 الموقّع بين لبنان وإسرائيل برعاية الولايات المتحدة.
إلا أن هذا الاتفاق لم يطبّق، ولحقه اتفاق لوزان في سويسرا أيضاً يوم 12 آذار 1984، وكان المؤتمر الحواري الثاني بعد مؤتمر جنيف والذي شارك فيه الأطراف ذاتهم وتوصلوا إلى اتفاق إطار يعطي الأولوية لوقف إطلاق النار وعودة الجيش إلى ثكناته وتأليف هيئة لمراجعة الدستور. وهو ما لم يُطبّق، كسابقه، وبقيت أزمة السلاح على حالها.
ثم جاء الاتفاق الثلاثي في دمشق بين القوات اللبنانية وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي في كانون الأول 1985، الذي نصّ على إحداث تغييرات بنيويّة في النظام السياسي اللبناني وفي العلاقات اللبنانية ـــــ السورية، ولكنه أُقرّ خارج إطار السلطتين التشريعية (مجلس النواب) والتنفيذية (رئيس الجمهورية والحكومة). وكانت دمشق المحرّك الرئيس له، ومثّل ترجمة عملية للسياسة السورية في لبنان في مرحلة ما بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. إلا أنه لم يرَ النور بسبب الانتفاضة المسلحة الذي قام بها سمير جعجع داخل القوات اللبنانية ضد الفريق الذي أيّد الاتفاق بقيادة إيلي حبيقة المدعوم سورياً.
■ اتفاق الطائف
في السنوات الأخيرة من الحرب الأهلية، توجّت الجهود العربية، ولا سيما الاتفاق السعودي ـــــ السوري، منتجة اتفاقاً في مدينة الطائف السعودية تم التوصل إليه برعاية المملكة في 30 أيلول 1989، وأنهى الحرب الأهلية اللبنانية. حضر المؤتمر 62 نائباً لبنانياً من أصل 73، ثمانية من الغائبين لم يرتبط تغيّبهم بأسباب سياسية، وارتبط اسم 3 نواب بالمقاطعة لأسباب سياسية، وهم ريمون إده وألبير مخيبر وإميل روحانا صقر.
كافأ هذا الاتفاق الفريق المسلم مخصصاً إياه بامتيازات كانت للرئيس الماروني، وذلك ترجمةً لهزيمة القوى المسيحية عسكرياً في الحرب واستكمالها بأخرى سياسية. ذهبت معظم صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، أي عملياً إلى رئيسه، وهو الموقع الذي كان سنّياً بالعرف وتكرّس قانوناً بموجب الطائف. أما بالنسبة إلى السلاح، فقد تضمن الطائف بنداً متعلّقاً بتنظيم سلاح الميليشيات يحوي إعلاناً «عن حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية خلال ستة أشهر تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني، وإقرار الإصلاحات السياسية بصورة دستورية».
رفض العماد عون الاتفاق. وعند سؤاله عن السبب قال إن «الطائف كان يحتاج إلى حكم، وإن قاعدته كانت مكان رأس الهرم ورأسه مكان القاعدة»، مشيراً إلى «أن الطائف يحمل عيوباً كثيرة ولا بد من تطويره». ويصف سليم الحص حوادث تلك المرحلة في كتابه «مدخل إلى الأزمة اللبنانية» بالقول: «إلا أن القوات اللبنانية وافقت عليه، وعندما توصَّل البرلَمانيُّون اللُّبنانيون إلى اتفاقهم في الطائف، غاب العماد ميشال عون عن اللقاء الأَخير. وعندما اندلعت حرب الشرقية في 31 يناير (كانون الثانِي)، بدا واضحاً أنَّ «القوَّات اللبنانية» التي يتزعَّمها الدكتور سَمير جعجع اختارت السَّير في اتفاق الطائف وأنَّ العماد عون يُحاول «معالجة الاختراق». وقد تأكَّد ذلك لاحقاً، فبدأ الحوار بين «القوَّات» ودمشق، ووافقت «القوَّات» على الانسحاب من بيروت الكبرى. وها هي الشرعية اللبنانية تستعدُّ لإشراك قادة الميليشيات الثلاث الكبرى في الحكومة الوفاقية، أو على الأقل من يُمثِّلهم، وقتها صرّح عون: «الطائف مرفوض، وكل من يدخل فيه لا يدخل إلى الحياة بل يذهب إلى الجحيم. لذلك، فحتى لا ينفّذ اتفاق الطائف لن يستطيع أحد أن يؤلف حكومة الاتحاد الوطني التي ستنفذه... فلينفذوه من طرف واحد، والذي يريد الاشتراك في هذه الحكومة إنما يرتكب جريمة أخرى... ولكن لن يكون هناك أي شخص للمشاركة».
عمّر اتفاق الطائف طويلاً قياساً على سابقيه، فقد توالت الأطراف «المتصالحة» على تقاسم السلطة بتوافق في ما بينها ورعاية سورية مباشرة، إلى أن وجّه المشروع الأميركي (الذي نجح في الاستيلاء على العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين) أنظاره إلى لبنان بغية الضغط على سوريا. وبدأت الاضطرابات منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 وشخصيات أخرى من بعده، وخروج الجيش السوري من لبنان، وتفاقمت الأزمة إلى حد المواجهة العسكرية المحدودة أخيراً.
واستدعى هذا الواقع العرب، وتحديداً دولة قطر هذه المرة، إلى التدخل وعقد مؤتمر الدوحة الذي أنتج اتفاقاً توصل إليه الأفرقاء اللبنانيون يوم الأربعاء 21 أيار الماضي يمثل نهاية لـ18 شهراً من الأزمة السياسية شهدت فترات منها حوادث دامية.
والحقيقة أن موجبات انعقاد مؤتمر الدوحة كانت نتيجة تراكمات للأزمة التي لم تعالج بجذرية في الطائف، مما دفع بالرعاية العربية إلى اتفاق جديد أو «تسوية جديدة»، كما سمّاها البعض، تبّرّد أجواء التوتر والأزمة برهة من الزمن.
ونص الدوحة، في ما يتعلق بالسلاح، على أن تتعهد الأطراف الامتناع عن استخدام السلاح أو العنف بهدف تحقيق مكاسب سياسية، كما دعا إلى «إطلاق الحوار حول تعزيز سلطات الدولة اللبنانية على كل أراضيها وعلاقاتها مع مختلف التنظيمات بما يضمن أمن الدولة والمواطنين».
واللافت أن أي اتفاق جديد برعاية عربية لا يتعدى كونه مهرجاناً سياسياً أشبه بالمهرجان الفولكلوري ينهي اهتزازات خطيرة توحي انفجاراً كبيراً تخلّفه مرحلة ليست سوى عَود على بدء، ولا يقدم «الاتفاق الجديد» جواباً عن سؤال قديم قدم نشوء الدولة في لبنان وينطوي على الحل النهائي المنشود...
اتفاق القاهرة: 3 تشرين الثاني 1969
وقّع قائد الجيش إميل بستاني ممثّلاً الرئيس شارل حلو وزعيم المنظمة الفلسطينية ياسر عرفات بإشراف وزير الحرب المصري محمد فوزي في 3 تشرين الثاني 1969 وثيقة سرية عرضت على المجلس النيابي وتضمنت اعترافاً لبنانياً بالوجود السياسي والعسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية وحرية العمل الفدائي انطلاقاً من الأراضي اللبنانية. حمى هذا الاتفاق الفلسطينيين من المحاولات المتعددة لنزع سلاحهم، لكنه لم يدم طويلاً ولم يلبث أن أنتج مواجهات مسلّحة بين الجيش والفلسطينيين.
اتخذ الاتفاق غطاءً مسلماً (تأثراً بالمد الناصري والعروبة) في قمة عرمون عام 1976 حيث اعتبر اللقاء الوطني الإسلامي وقتها الجيش الفلسطيني بمثابة جيش المسلمين، وفي مقابل هذا الدعم الإسلامي تعززت ضد المقاومة الفلسطينية المشاعر السلبية في الشارع المسيحي.
تعليقات: