مخيم البرج الشمالي المنتمي لعالم كانَ: فدائيون ومغاور

الغالبية العظمى من سكان المخيم كانت من قرى الجليل
الغالبية العظمى من سكان المخيم كانت من قرى الجليل


هنا، في مخيم البرج الشمالي، يبدو "كان" فعلاً مهيمناً على كل الجمل، ومبتدأ لكل العبارات، وتورية لفعل حاضر ناقص، أو غير موجود. عند ذاك الطريق "كان" بلال الأوسط ومجموعته، يدمّرون دبابات الاحتلال عام 1982. وهناك "كان" الجنود الأسرى برفقة مجموعة فدائية. وهنالك يسكن بلال آخر، الذي "كان" يقاتل أيضاً، وظنت أمّه في الضفة الغربية أنه قد مضى شهيداً، فتسلل بعد عامين إلى منزل أهله في "بيت فجار"، وطرق الباب، وردّت أمّه، وكانت الأغنية الفلسطينية الشهيرة "يا يمّا في دقّة ع بابنا، يا يمّا هَي دقّة حبابنا".


أهل الجليل والملاريا

إنه الهروب من الحاضر إلى "عالم كانَ". فالحاضر قاسٍ، فيه شبه الحصار المفروض منذ مطلع عام 1997، التلاسيميا المنتشرة، الأزقة التي تضيق، والهجرة، والفقر الذي كاد يعلن انتصاره مراراً لولا مبادرات لا تنتهي.

يستوقفك مشهد المغاور في الحي الغربي من المخيم. إنها تختزن بداية الحكاية. مع النكبة عام 1948، اختيرت بلدة البرج الشمالي، التي تبعد 3 كلم عن مدينة صور، و24 كلم عن حدود فلسطين، نقطة تجمع، ومن ثم توزيع للاجئين الفلسطينيين على المخيمات والمناطق اللبنانية الأخرى. وبعضهم كان يُحمل إلى القطار المتجه إلى سوريا، وهناك الكثير من الحكايات عن أناس قفزوا من القطار، أو عادوا مشياً على الأقدام.

الغالبية العظمى من سكان المخيم كانت من قرى الجليل. تُنصب الخيام، بعضهم بقي في المخيم، أمّا الأكثرية فحُملت إلى المخيمات الأخرى. لكن عائلات جاءت إلى فلسطين قبل مائة عام مع عبد القادر الجزائري، وسكنت قريتي ديشوم والحسينية، ترفض المبيت في الخيام لخصال دينية محافظة عُرفت بها. فضّلت المغاور سكناً. لم تنجح محاولات ثنيها عن قرارها وحملها لمكان آخر.

في العام التالي للنكبة، تنتشر الملاريا في مخيمات الجنوب وعلى وجه الخصوص في مخيم البرج الشمالي. يجتمع مدير غرفة رئاسة الجمهورية، والمعني بمتابعة قضايا اللاجئين، جورج حيمري بمحافظي الجنوب والبقاع وممثلي اتحاد جمعيات الصليب الأحمر لهذه الغاية. يُتخذ قرار بنقل سكان مخيم البرج الشمالي إلى المخيمات الأخرى. نُقل كل السكان، ما عدا ساكني المغاور بقوا متشبثين بمسكنهم الجديد، لقربه من وطنهم. تقاطع عناد جزائري ووطنية فلسطينية.


بشاحنات الجيش

لم يغادروا مغاراتهم ليسكنوا مكاناً آخر إلا عام 1955 عندما أُعيد نصب الخيام في المكان المخصص للمخيم وهو 13.6 دونم، ثم استبدال تلك الخيام ببناء جدران من الطوب بعلو متر واحد، وبعد ذلك سقفها بما تبقى من الخيمة، وفي عام 1956 استُبدلت أسقف الخيم هذه بأخرى من ألواح التوتياء المحمولة على ألواح خشبية، قدمتها الأونروا. بعد سنوات ست، تغير سكان المغاور، وحاجتهم إلى السلوى صارت أكبر من أي عائق اجتماعي، وهم بالكاد يقارب عددهم ثلاثين عائلة.

ففي 22 أيلول 1955 أصدرت قيادة الجيش أمراً عسكرياً تمنع سكن وتجول جميع "الغرباء" من المنطقة الواقعة على طول خطوط الحدود، وعلى مسافة عشرة كيلومترات ضمن الأراضي اللبنانية. كان المقصود الفلسطينيين، الذين بقوا في تلك المساحة القريبة من حدود بلادهم، حتى لا تُنهكهم رحلة العودة. بموجب القرار تم نقل 8800 فلسطيني إلى مخيمي تل الزعتر والبرج الشمالي بشكل خاص. نُقلوا جميعاً بشاحنات تابعة للجيش اللبناني. ليُضافوا إلى من أتى من بلدة عنجر البقاعية بعد خلاف بين الفلسطينيين والأرمن هناك، ويصبح عدد سكان مخيم البرج الشمالي حوالى 5000 نسمة.

كان معظم المبعدين من المناطق الحدودية من بلدات منطقة الحولة، وخصوصاً الناعمة والخالصة، وقد عرفوا الجنوب اللبناني وأهله قبل النكبة، ووثّقوا علاقات وصداقات. في يوم الثلاثاء يأتي أهل الجنوب إلى سوق الخالصة. ويوم الخميس يجيء تجار وأهل الجليل إلى سوق بنت جبيل، ثم يجتمع كلهم في سوق صفد يوم الجمعة.

وساعد في اختيار سكان منطقة الحولة لتلك المنطقة الجنوبية أن صداقة موصوفة جمعت بين زعيمهم كامل الحسين والزعيم الجنوبي أحمد الأسعد. سيُغتال كامل الحسين عام 1949، ويُدفن في بلدة الخيام، مع سرّه، من دون إجابة واضحة عن سؤال: عميل باع أراضي للعصابات اليهودية أم وطني حاول إعادة ما استطاع من أهالي الحولة ريثما تتغير موازين القوى كما يقول بعضهم؟


اجتياح 1982

رجع السكان إلى المغارات، لكن هذه المرة لم تكن العودة محصورة بالمغاربة كما يُسمّون. فالكثير من أهالي المخيم أصبح يتخذها ملجأ بدءاً من عام 1974، مع الغارات الإسرائيلية المتكررة. تلك الغارات العنيفة أزالت مخيماً قريباً هو مخيم النبطية، ولجأ بعض سكانه من أهل الحولة إلى مخيم البرج الشمالي في العام المذكور.

في الرابع من حزيران عام 1982، العودة مرة جديدة إلى المغاور، مع قصف إسرائيلي هو الأعنف. وصل الجنود الإسرائيليون إلى مشارف المخيم بعد يومين. نداءات "سلّم تسلم" صدتها بنادق عشرات الفدائيين، يقودهم بلال الأوسط، الذي عُرف بهذا الاسم نسبة للقطاع الأوسط الذي كان يرأسه. حكايات طويلة عن دبابات إسرائيلية دُمّرت، وأربعة جنود أسرى. أقرّ وقتها الصحافي الإسرائيلي الأبرز زئيف شيف أن مخيمي الرشيدية والبرج الشمالي تطلب إخضاعهما فرقة إسرائيلية كاملة (أكثر من عشرة آلاف عنصر).

يشتد القصف الإسرائيلي. القتلى يملأون المغارات، مغارة أبو خنجر، مغارة حي المغاربة وغيرها. رائحة الجثث المتفحمة تنبعث من الملاجئ. 94 جثة لأطفال ونساء في ملجأ نادي الحولة. وجثث أخرى في ملجأ روضة النجدة. يضطر أكثر من مائة مقاتل من أبناء المخيم إلى مغادرته نحو مخيم عين الحلوة من خلال طرق جبلية وعرة. لم يصل كلهم. اختفى بلال، لتُحاك حوله الأساطير لفترة طويلة، حول مقاومة يخوضها خلف خطوط العدو.


التجنيس ونادي الحولة

انتهى الاجتياح، واقتيد مئات من شباب المخيم إلى معسكر أنصار. تجربة سيعيشها هؤلاء الشباب بعد خمس سنوات، خلال حروب لبنان. تنتهي الحرب الأهلية، ويصدر قرار التجنيس عام 1994 شاملاً حوالى 3000 فلسطيني من سكان المخيم، تعود أصولهم إلى منطقة الحولة القريبة من الحدود اللبنانية. يقارب عددهم اليوم 5000. يقول رئيس جمعية نادي الحولة محمود جمعة لـ"المدن" إن التجنيس ساهم في تحسين ولو جزئي في حياة هؤلاء "تغلّبوا من خلاله على عوائق قانون منع التملك. وحصلوا على بعض الوظائف التي يُمنع إشغالها من قبل الفلسطيني. وساهموا بتوطيد العلاقة مع الجوار، إضافة إلى تحصيل بعض الخدمات، مثل تأمين مقبرة للمخيم، وبعض محولات الكهرباء"، التي لم تصل إلى المخيم إلا عام 1970.

نادي الحولة الذي أطلق عام 1973 إضراباً طويلاً ضد تراجع خدمات الأونروا، ما لبث أن شمل مخيمات أخرى، وقاد إلى تغييرات جوهرية بنوعية الخدمات المقدمة، يقوم اليوم بدور في المجال التنموي من خلال أنشطة عديدة تشمل مكتبة عامّة، ونادياً فيه العديد من الأنشطة والألعاب، وكشافة، وموسيقى. ويقول جمعة "إن الحصول على الجنسية اللبنانية لم يُنسنا قضيتنا فلسطين، كما أي فلسطيني يحصل على جنسية أخرى. فخلال الفترة الماضية أطلقنا مشروعاً للتسجيل الشفوي لكبار السن، وتدوين الذاكرة، قاد إلى إصدار مجموعة كبير من الكتب كان منها: شعَب، الناعمة، لوبية وغيرها. كما أنه من خلال لجنة المرأة أطلقنا مشروعاً للحفاظ على المأكولات الشعبية الفلسطينية".

اللافت أن نادي الحولة يجري انتخاباته الداخلية منذ تأسيسه قبل خمسة عقود من دون عوائق أو انقسامات، كما هي حال نادي النهضة، الذي تأسس عام 1987، ورغم لعب الكثير من أعضاء "النهضة" في الدوري اللبناني أبرزهم وسيم عبد الهادي الذي لعب لصالح أندية لبنانية عديدة، إلا أنهم حريصون على البقاء في نادي النهضة. ويضم النادي أكثر من 120 لاعباً بمختلف الألعاب والفئات، إضافة إلى دوره الثقافي من خلال المكتبة العامة وقاعة المحاضرات ودورات الدعم الدراسي.


"يا يمّا في دقّة ع بابنا"

الهجرة من المخيم إلى خارج لبنان، ترفد المخيم ومؤسساته بمبالغ ومشاريع تمنع الانفجار الاجتماعي. هذه الهجرة التي بدأت في السبعينيات، ازدادت في العقد التالي، وتضاعفت في التسعينات، خصوصا ًإلى ألمانيا والدنمارك وبريطانيا. ورغم ذلك، فقد يكون مخيم البرج الشمالي من أشد المخيمات الفلسطينية فقراً في لبنان، ويشتغل معظم العمال في الحمضيات والبناء، لكن نسبة البطالة تبقى عالية، رغم الزيادة الملحوظة في أعداد المتعلمين بالسنوات الأخيرة.

بين سكان مخيم البرج الشمالي العشرين ألفاً يوجد حوالى 1500 فلسطيني ممن قدموا من سوريا بعد عام 2011. ويعاني المخيم بشكل أساسي من شبه حصار فُرض على مخيمات الجنوب منذ 1/1/1997، من خلال إغلاق معظم الطرق المحيطة بالمخيم، ومنع إدخال مواد الإعمار، من دون مبررات مقنعة كما يرى السكان. المعاناة الأخرى تتمثّل بوجود ما يزيد قليلاً عن 210 حالة مصابة بالتلاسيميا في المخيم، الأمر الذي يرهق ذويهم مالياً.

في المخيم الكثير من الحكايا. فهذه حنيفة حسين تحكي قصتها، وكيف كانت طفلة في الحادية عشرة من عمرها حين عبرت الحدود من لبنان لترى جدتها في فلسطين، فتمكث عامين هناك إلى أن تتوفى الجدة. وهذا بلال أبو طارق، يأتي فتى من "بيت فجار" في الضفة الغربية، إلى لبنان، ملتحقاً بالثورة الفلسطينية في بداية السبعينيات. وخلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، يصل خبر وفاته إلى أمّه الوحيدة، فتقيم له عزاء. لكنه يتسلل بعد عام إلى قريته ليلاً. يطرق باب منزل أهله، هامساً لأمه وقد تقدّمت كثيراً في السن، وسكنها المرض "أنا بلال". لم تصدّق وقد تغير صوته "بلال مات". فيحمل أحد الجيران إلى منزله، وتكون فرحتها، وأغنية من أشهر الأغاني الفلسطينية "يا يمّا في دقّة ع بابنا، يا يمّا هَي دقّة حبابنا، يا يمّا هَي دقة قوية، يا يمّا دقّة فدائيِّة". حكايات كثيرة تنتمي إلى "عالم كان"، كبديل عن أسئلة المستقبل.

تعليقات: