من تحرّكات اتحادات النقل البري (حسن عسل)
ليس على الفقير حرج، لأن معاناة الطبقة الكادحة في لبنان اليوم تفوق التصوّر. ولا يُمكن لعاقل أن يستوعب حجم المشكلات التي تواجهها النسبة الكبرى من اللبنانيين الذين تدنّى مستوى معيشتهم وبات تصنيفهم في عداد الطبقة الفقيرة.
العمّال هم الفئة الأكثر تضرّراً من الانهيار الاقتصادي غير المسبوق الذي يشهده لبنان منذ سنتين تقريباً، وصولاً إلى الأشهر الأخيرة التي كَوَتْهم بأسعار المحروقات وسعر صرف الدولار المجنون، ما أدخل العاملين في قطاع #النقل البريّ تحديداً في نفق مظلم، يصعب الخروج منه، إذا لم يتحرّك المعنيّون في #الحكومة للتخفيف من معاناتهم.
لذلك، أصبح الشّارع لدى السّائقين وسيلةً مفضّلةً للتنفيس عن قهرهم ووجعهم، وشكلاً من أشكال التحدّي للسّلطة اللاهية إلا عن منافعها الخاصّة؛ فهي لم تستجب لحَراكهم التصاعديّ منذ بداية الشهر الحالي، بل أصرّت على الإخلال بالتزاماتها السّابقة، والتي كان من المتفق أن يبدأ تنفيذها مطلع شهر كانون الأول. فمن شأن الالتزامات الحكومية لو نُفّذت أن تؤمّن للسائقين نوعاً من الدّعم، يتمثّل بعدد محدّد من صفائح البنزين شهرياً، بالإضافة إلى منح تعليميّة، مع طموح إلى مكافحة الدخيلين على المهنة ممّن يعملون بطريقة غير قانونيّة أو شرعيّة.
تحرّكات نقابيّة في الشّارع واستهزاء بفشلها
بالأمس، كانت خطوة جديدة لاتحادات ونقابات قطاع النقل البريّ، تمثّلت بالإضراب عن العمل وقطع الطُرق في مختلف المناطق اللبنانية من البقاع إلى الشمال والجنوب.
لكن التحرّك هذا لم يستمرّ إلا لبضع ساعات، ما أثار استغراب النّاس الذين كانوا ينتظرون "يوم غضب" قد يُشعل الشّارع ويهزّ طاولة الحكومة.
ردود فعل كثيرة، ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي، استهزأت بالتحرّك، واعتبرته "فاشوش"، "متل قلّته"، واصفةً إيّاه بـ "الفاشل".
وقد علّق النّاشطون في منشوراتهم على التحرّك بطريقة فكاهيّة، مشدّدين على أنّ من يريد تحقيق مطالبه لا يقوم بخطوات رمزيّة لا تُثمن ولا تُغني من جوع.
اتحادات النقل البريّ ترفض أن تكون مفتاح الفوضى
تعليقات النّاشطين وآراء الناس حول تحرّك الاتحاد يوم أمس وصلت إلى مسامع رئيس اتحادات ونقابات قطاع النّقل البريّ بسّام طليس، الذي ردّ عبر "النهار"، فقال: "إذا كان المطلوب منّا أن نكون سبباً من أسباب الفوضى المنتظرة في لبنان، والتي يُريدها البعض، فهذا لن يحصل. نحن قطاع مهنيّ، ندعو للتظاهر أو التجمع بطريقة سلميّة وديموقراطيّة، لذلك لن نكون مفتاح الفوضى".
إذاً، لماذا لم يكن التحرّك على مستوى التطلّعات؟
يُجيب طليس بأن "عوامل عدّة تقف خلف الأمر، وهي تفوق قدرتي وقدرة الزملاء السّائقين والنقابيّين"، لافتاً إلى تلقّيه عدداً كبيراً من الاتصالات من سائقين أبلغوه بأنهم غير قادرين على تزويد سيّاراتهم بالبنزين للانتقال إلى مراكز التجّمع والإضراب، فيما البعض الآخر عرض حلاً يقضي بأن يمتنعوا عن التحرّك والعمل كوجه من أوجه الاعتراض، وبذلك يوفّرون ما قد يدفعونه ثمناً للبنزين، فيشترون به طعاماً لعائلاتهم".
واقع مؤلم ومحزن وفق ما يعلن طليس بشأن السّائقين العموميّين، الذين كان من المفترض أن يكون تحرّكهم نقطة تحوّل أساسيّة على طريق تحقيق مطالبهم وتأمين أدنى حقوقهم.
وبالرغم من أنّ طليس كان يتحدّث عن سيره باستراتيجية التحرّك التصاعديّ والتدريجيّ قبل الوصول إلى السّقف النهائيّ، الذي يعني شلّ البلد بالكامل، وقد يؤدّي إلى إشكالات بين الفقراء أنفسهم، فإنّه مع انتهاء الاعتصام، تغيّرت نظرته (طليس) إلى الواقع، ما دفعه إلى تغيير رأيه تجاه طريقة التحرّك في المرّة المقبلة، قائلاً لـ"النهار" عن أنّه سيوافق على مطلب السّائقين!
فأيّ مطلب هو؟ سيدعو إلى اجتماع استثنائيّ يوم الأربعاء المقبل، وسيترك على أثره للسّائقين والنقابيّين حريّة اختيار الطريقة التي يريدون التحرّك على أساسها، ولو بقطع الطرق الرئيسيّة والفرعيّة كليّاً، حتى لو أرادوا أيضاً أن يتركوا سيّاراتهم وشاحناتهم وسط الطرق ويذهبوا إلى منازلهم.
لا يوضح طليس كيف اتُّخذ القرار آنفاً، ووفق أيّ الاستراتيجيات الميدانيّة، ما دام يعلم "البير وغطاه"، إلا أنّه يمكثُ اليوم على وعدٍ بأن القرار المقبل قد يُتّخذ بعدما لم يلقَ الاحتجاجُ بهذه الطريقة أيّ آذان صاغية من قبل المعنيّين، ما يعني "أنّهم لن يفهموا إلا بطريقة أخرى".
وسأل: "ماذا ينفع اليومَ انتظارُ أيّ تحرّك من المعنيّين طالما أنهم التزموا في المرة الأولى ولم ينفّذوا وعودهم؟"، مشيراً إلى أن "المطلوب اليوم جوابٌ واضح من الحكومة إيجابيّ أو سلبيّ، لكي تكون الأمور واضحة أمامنا، فالحلّ الوحيد هو تطبيق الاتفاق".
الاتحاد العماليّ العام يسير بين الألغام
في هذا الإطار، لا ينفصل الاتحاد العماليّ العام عن حراك اتحادات النقل التي تعدّ جزءاً لا يتجزّأ من هيكليّته، بالرغم من أن الاتحاد كان غائباً عن التحرّكات الميدانيّة في الفترة الأخيرة على عكس قطاع النّقل.
بشارة الأسمر، رئيس #الاتحاد العمالي العام، يؤكّد في حديث لـ"النهار" أن "الاتحاد لم يغب يوماً عن هموم العمّال، إنّما يعمل في إطار تحرّكات ملموسة. لذلك، كان الاتجاه نحو مفاوضة الحكومة من أجل الزيادات في القطاع العام، وقت تمكّنا من الاتفاق على دفع تعويض النقل ومبلغ مقطوع يُعطى لشهرين. أما على صعيد القطاع الخاصّ، فتمّ الاتفاق على زيادة المنح المدرسية وزيادة بدل النّقل ليُصبح 65 ألف ليرة، بالإضافة إلى مبلغ مقطوع".
وأضاف: "لكن كلّ تلك الاتفاقات اصطدمت بإشكاليّة الصلاحيّات حول مَن يمضي المراسيم؛ هل الوزير المختصّ ورئيسا الحكومة والجمهورية، أم نحتاج إلى اجتماع للحكومة؟ وهذا أدخلنا في متاهة قانونيّة في إطار الصراع السياسيّ العام في البلد".
واعتبر أن "هذا الصّراع ينعكس سلباً على كلّ المستويات، لاسيما على مستوى الاتفاقات التي تصطدم بعدم وجود تمويل أو بالصراع السياسيّ، لأن ما يهمّ الناس النتيجة، ونحن وصلنا إليها لكننا غير قادرين على تنفيذها في القانون، وهذا الأمر كارثيّ".
وحول جديّة التحركات ومستوى ضغطها على الحكومة، أشار الأسمر إلى أنّه "يجب توجيه الإضرابات نحو الأماكن التي تؤدّي إلى نتيجة، أي السّلطة التنفيذيّة، لكنّها مشلولة ولا تجتمع". وقال "لا أحد يسمع صراخ الناس، ففي ظلّ هذه الأزمة يجب أن تكون الحكومة خليّة نحل، بدل أن تكبّل نفسها بالصراعات السياسيّة".
ويعتبر الأسمر أن "الإضرابات باتت تؤذي النّاس أكثر من المسؤولين الذين لا يتجاوبون مع مطالبنا. ومهما فعلنا لن نصل إلى أيّ نتيجة، لأننا نتحرّك وسط حقل من الألغام. لذلك، المواطنون بحاجة إلى حلول لا إلى تأزيم الأوضاع، وهذا ما يدفعنا إلى متابعة التطورات الحاصلة بهدوء، فوضع البلد متّجه نحو المزيد من التعقيد، والشّعب فقد ثقته بكلّ شيء".
حال التخبط هذه يعيشها معظم عمّال لبنان في كلّ القطاعات، بعد أن فقدوا قدرتهم على الاستمرار بسبب هذه الأزمة، فلا قدرة لديهم حتى على المطالبة بحقوقهم، ومن يتلقّى العصي لا كمن يُحصيها.
تعليقات: