عبد الوهاب المسيري
قراءة في فكر عبد الوهاب المسيري
تمهيد
قبل الدخول بتفاصيل بحثنا المتركز على إيجاد جواب لسؤال "هل هذا العالم الذي نعيش فيه مكون من مادة فقط (والمقصود بالمادة هنا هو كافة أنواعها المكوَّنة من الذرات وأجزائها أو من الطاقة الناتجة عن تحول تلك المادة أو عن أمواج وأطياف الطاقة التي تنتشر في فضاء العالم الذي نعيش فيه بكافة درجاتها وأنواعها)؟أم أن هناك وجودأً آخر غير المادة سابقة الذكر،مستقل عنها وعن قوانينها الحاكمة لحركتها،وعن كل ما يجري لها من تغير وتحول.بغض النظر عن طبيعة وماهية هذا الوجود الآخر؟"
وإذا سأل سائل "لماذا نتعشم (نتحمل معاناة) البحث والتعمق في مثل هذه الموضوعات رغم صعوبتها وتعقيداتها؟".
سيكون جوابنا لأن المراقب للمسارات التي سلكها الإنسان في هذا الوجود،يصل إلى إستنتاج واضح،بأن ما يصدر عن الإنسان من أفكار وأفعال لا يعدو كونه نتاج كيفية فهمه وإقتناعه بتركيبة ومكونات ومآلات هذا الوجود.وكيفية فهم الإنسان لهذا العالم،ولدوره وموقعه من منظومة الوجود بشكل عام،لأنه بناء على هذا الفهم يقوم الإنسان بترتيبه عناصر الوجود بشكل هرمي بحيث يكون العنصر الواقع في قمة الهرم يمثل محور حياة الإنسان ومرجعيته ومنطلق إهتماماته وسلوكه ومواقفه الكبرى والمصيرية التي يتخذها في حياته وهذا ما يسميه عبد الوهاب المسيري ( المرجعية النهائية أو ميتافيزيقا الوجود التي يتعذر قيام رؤية مستقرة لفهم العالم بدونها ) ، واحياناً يكون هذا المحور والمرجع قابع في عمق وجدان المرء،بحيث يتعذر إكتشافه بوضوح وجلاء إلا في المواقف والتحديات الصعبة التي تجبر الإنسان على إعلان ولاآته وإنتمائه الحقيقي.
لذلك نصادف كثيراً في حياتنا أناس يبدو ظاهرهم بأنهم ماديون في فهمهم وانتمائهم للوجود بينما يكون واقع أمرهم أن الطابع الإنساني غالب على خلفياتهم وأفكارهم وسلوكهم،الأمر الذي يتعذر تفسيره إلا بأن هؤلاء الناس مشتبهون في فهم حقيقة ذواتهم ويعبِّرون عنها (أي ذواتهم) بأسلوب خاطىء ومجافي للحقيقة ، لأنه لو كان إدعاؤهم صادقاً وواقعياً لكانت المادة البحتة والنفعية هي محور حياتهم وليس الإنسانية والمثل والقيم والأخلاق والرحمة والإيثار والإستعداد للتضحية من أجل المبادىء والقناعات.
والعكس هنا أيضا صحيح لاننا نصادف كثيراً في حياتنا اناس يدعون بأنهم روحانيون وغيبيون ومثاليون وأخلاقيون بينما واقع إهتماماتهم وأفكارهم وسلوكهم غارق في المادية والنفعية والأنانية وما شاكل.وتارة يكون الإنسان مدركاً للفروقات الكامنة بين وجوده المدعى وبين وجوده الواقعي ، فيكون لديه معاناة وصراع داخليين وتارة أخرى يكون غير مدرك لهذا التناقض الأمر الذي ينتج عنه صراع وإختلاف في تعامله مع الآخرين.
من هنا نكتشف أن إدراك وفهم حقيقة الطبيعة الإنسانية أمر بالغ التعقيد بسبب وجود صعوبة شديدة في إستيعابنا لبنية وجدانه العميق نتيجة تمايز هذا الوجدان بشكل هائل ونوعي وأشد غموضا وإلتباسا عن بقية التجارب الطبيعية والمادية التي يمكن أن نحيط بها ونتوقعها بيسر حينا وبتعقيدات أحياناً أخرى لدرجة تجعلنا قادرين على إكتشاف الأنظمة والقوانين الحاكمة لحركتها وتحولاتها بناء على تغير الظروف المرافقة لها.وهنا يكمن سر الصعوبة في فهم الطبيعة البشرية وإدراكها وكنهها وتوقع كل ما يمكن أن يصدر عنها في حال إختلاف بيئتها والظروف المحيطة بها.
بين الإنسان ومادة الوجود
ظلت مادة هذا الوجود عبارة عن كائنات صامتةٍ عمياء،خاضعةٍ لقوانين فيزيائيةٍ وكيميائيةٍ صارمة لا تقبل الإستثناء أو التجاوز لها،وبقيت هذه القوانين حاكمة لكل الموجودات بشكل مغلق غير قابل لأي خرق،في تلك المرحلة كان سلوك الكائنات قابل للتوقع في حال تكرار الظروف التي أنتجت هذا السلوك،حتى حضر عقل الإنسان في هذا العالم متوجا عالم الوجود بمجموعةِ ظواهر وقدرات وصفات ومهارات وسلوك بدت جديدةً من حيث النوع وخارقةً للقوانين الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية الحاكمة،وبدى واضحا أن العقل الإنساني يمتلك فروقات نوعية واضحة المعالم والآثار عن كل ما عداه من جماد ومن نبات أو حيوان ، الأمر الذي مكَّنه(أي الإنسان)من لعِبِ دورِ زعيم الوجود المادي في هذا العالم وبذلك إستطاع التحكم في إدارة شؤون الكائنات بأنواعها حيث وصلت يده،وحيث وصل فكره ووعيه وتأثيره في موجودات هذا العالم وفي القوانين الحاكمة لها.
نظراً للتداخل العميق بين عقل الإنسان ومادة هذا العالم إلتبس على الإنسان تفسير وفهم تركيبة هذا الوجود. ووقف حائرا مدهوشاً أمام هذا السؤال "
هل الوجود عبارة عن مادة بحتة؟ أم أن هناك مكون آخر موجود فيه ساهم في إبداع عقل الإنسان حتى ظهر منه كل هذا التمايز والتفوق والتمرد على الأنظمة الحاكمة لبقية الكائنات؟" وبقي هذا السؤال يفرز إجابات وإجابات تبدأ ولا تنتهي,على إمتداد تجربة الإنسان العقلية والفكرية والفلسفية وعلى إمتداد قدراته التحليلية والإستنتاجية عبر تاريخه المدوَّن الذي وصل إلينا. وهكذا راح الإنسان في مسيرة بحثه لفهم حقيقة هذا الوجود ينتج مدارس فكرية تعددت وتشعبت بتعدد وتباين خلفية وبيئة الشعوب التي أنتجتها ويمكن إختصار الخلاصات التي وصل إليها عقل الإنسان ووعيه بمدرستين أساسيتين هما المدرسة المادية التي يؤمن أتباعها بانه ليس في هذا الوجود غير المادة وقوانينها الحاكمة،والإنسان كائن مادي صرف وكل ما يصدر عنه من سلوك ووعي ومعرفة ومشاعر واخلاق وعواطف وإيثار لا يتجاوز المادة وقوانينها بأي شكل من الأشكال،ولا يعدو الإنسان أن يكون حيواناً متقدماً في مملكة الحيوان الكبرى.وهناك مدرسة ثانية هي مدرسة الوجود المتنوع التي يؤمن أتباعها بوجود كائن مفارق للمادة في هذا الكون الرحب مختلف عنها من حيث السنخية والطبيعة،كما يؤمن هؤلاء الأتباع بأن وعي الإنسان وعقله وكل ما يميزه عن بقية الكائنات ناتج عن المكوِّن الآخَر للوجود والمغايِرِ للمادة بغض النظر عن كيفية فهم أتباع هذه المدرسة لطبيعة وماهية هذا المكوِّن المغاير للمادة.
الإنسان أمام الأسئلة الوجودية الكبرى
كانت قفزة الإنسان الوجودية الأولى هي وعيه بذاته وبالعالم المحيط به،إضافة لوعيه حركة الزمان وعلاقتها بحركة المكان وإستيعاب مفاهيم التاريخ والحاضر والمستقبل،وقد أنتج هذا الوعي والإدراك نشوء حوار داخلي لدى الإنسان كفرد،مكَّنه بمرور الزمن وتراكم التجربة من إبداع اللغة التي أنتجت قفزته الثانية العملاقة المتمثلة بإبداعه آلية تفاهم وتنظيم علاقات إجتماعية بينه وبين بني جنسه،ومع إبداع الإنسان للكتابة بدأ التاريخ البشري المدوَّن وبدأ تراكم المعرفة وتلاقح الأفكار وتدوين نقاط الإلتقاء ونقاط الإفتراق بين بني البشر أفراداً وجماعات إضافة لإنتاج الإنسان أنواع العلوم والمدارس الفكرية والفلسفية.
وفي مراحل وعيه الأولى لاحظ الإنسان فروقات واضحة بينه وبين هذا الوجود المادي الذي يعيش فيه فهو مع بني جنسه يتمتع بحس أخلاقي وحس جمالي ووعي بذاته وبالمحيط،ولديه صوت داخلي فعَّال أسماه الضمير،يرشده إلى حب العدل والإحسان والتعاطف مع المظلوم ونبذ الحقد والتعدي والظلم.وهو دائم البحث عن أسباب وعلل الأشياء،كما يلازمه همُّ معرفة مصير الكائنات ومصيره الشخصي والجماعي،وقد لاحظ هذا الإنسان أنه يحب ويشتاق ويتعلق بمن ينسجم معهم وقد يصل مقدار تضحيته من أجلهم أن يضحي بنفسه وبكل ما يملك للحفاظ عليهم وهنا يكمن التجلي الأكبر لضعف التأثير المادي البحت على إنتاج فكر وسلوك الإنسان وتظهر بجلاء أيضاً تأثيرات القيم والأخلاق ومحورية الإنسان ككائن عصي على تطويع المادة له ولإرادته ولِقِيَمِه.كما لاحظ الإنسان أنه صاحب إرادة تمكِّنه من رفض الواقع والتمرد عليه والسعي لتغييره وإخضاعه لقناعاته وميوله. لذلك وقف حائرا أمام هذه الإختلافات الجوهرية بينه وبين المادة الصامتة الخاضعة لقوانين صارمة قابلة للتوقع في حال تكرار الظروف التي أنتجتها.
نتيجة كل ما سبق وجد الإنسان نفسه أمام مجموعة أسئلة كبرى تلح عليه وهو ملزم بالبحث عن أجوبة لها علَّ هذه الأجوبة تروي ضمأً روحيا عميقا داخل وجدانه وعلَّها تهدىء إضطرابا وقلقا وجوديا لا يهدأ حتى تصبح الحقيقة كاملة في قبضته.ومن هذه الأسئلة:(من أنا ؟ وما هي أوجه الشبه والتباين بيني وبين مادة هذا العالم؟ وما هو سبب هذا التباين؟)
المدرسة المادية
لأن هذه المدرسة ألزمت نفسها بإستنتاج أنه لا يوجد في هذا العالم غير المادة صار متوجب عليها التعامل مع ضاهرة الإنسان وكل ما يميزه عن المادة بأنه ضاهرة مادية بحتة.وأمام هذا الإستنتاج صارت المدرسة المادية مطالبة بتوضيح وتفسير وتشريح وتبسيط الإنسان المادي لتكون قادرة على إستيعاب حقيقة وعلى إستيعاب كيفية أنتاج المادة لهذا الكائن الإنساني المعقد والمختلف والعاقل والواعي.وهنا بدأت صياغة سيناريو التفسير بوضع مجموعة استنتاجات كمسلمات وهي التالي:
1 - إن الواقع الموضوعي المادي قائم على قوانين منتظمة تحكم كافة مكوناته المترابطة فيما بينها بموجب هذه القوانين التي يمتلك عقل الإنسان القدرة على فهمها واستيعابها وتبسيطها.ولا يوجد في هذا العالم إستثناء عن هذه القاعدة. وعقل الإنسان قادر على التعامل مع الجزئيات وفهم طبيعتها والقوانين الحاكمة لها كما أنه قادر على إدراك الواقع ككل متماسك متجاوز للأجزاء المكونة له والتي (أي هذه الأجزاء) لها أيضاً عالمها وقوانينها الخاصة التي تخدم الواقع الكلي وتنسجم وتتكامل معه.(الذرات قد تكون موجودة بمفردها وقد تجتمع فتنتج موادا (غازية أو سائلة أو جماد) وهذه المواد قد تجتمع فتنتج(كواكب أو نبات أو حيوان أو إنسان).وكلُّ واحدٍ من هذه النتاجات له أنظمته المنطقية التي تحكم نموه وحركته ومساراته بكل دقة وصرامة بمافي ذلك عقل وسلوك الإنسان).
2 - إن عقل الإنسان نمى وتطور وارتقى بالتدريج في هذا الوجود من تفاعلات مادية بحتة أوصلته إلى مرحلة صار فيها مستقلا بذاته وقادراً على التفاعل مع مادةِ هذا الوجود لدرجة أنه بات قادر على الوصول إلى فهم واستيعاب القوانين الكامنة خلفها وتحويلها إلى أنظمة وقواعد حسابية تمكنه من التحكم بمساراتها وتوظيفها لخدمة أهداف يضعها لها وتخدم مآربه.
3 - إن مادة هذا العالم سابقة لوعي الإنسان وبدونها كان هذا الوعي متعذر الوجود لذلك فإن المادة هي الأصل،والوعي والعقل من نتاجها ومن آثارها ، وهي (أي المادة) هي سبب وعلة وجود العقل ، ومن هذا المبدأ نشأت فكرة ضرورة تبعية الوعي البشري والأخلاق والحق والخير للمادة وقوانينها الحاكمة.لأن منطق الأمور يفيد بأن الناتج ملزم بإتباع أصله.
4 - بما أنه لا يوجد في هذا العالم إلا المادة،فهي حُكما عِلة وجود نفسها،غير مسبوقة بوجود غيرها،وبذاتها خضعت لأنظمة وقوانين منطقية منتظمة قابلة لأن يدركها ويعيها ويعقلها الإنسان رغم عدم وجود مبرر أو تفسير لدى أتباع المدرسة المادية لمصدر وسبب وجود مثل هذه الأنظمة والقوانين المنطقية الحاكمة لحركة ولتغير حالات المادة .
5 - صحيح أن مادة هذا العالم تَسير وفق أنظمة وقوانين منطقية،لكنه لم يثبت بالبرهان والحس وجود هدف وغاية لهذا الوجود المادي وكل حركة الكائنات المادية تمثل سيرا على غير هدى وستظل هكذا الى الابد في حالة حراك وتفاعل ذهاباً وإياباً دون وجود محطات يمكن الوصول إليها ودون غايات يمكن تحقيقها وإدراكها.
6 - بما أن الأنظمة المنطقية الحاكمة لوجود المادة محدودة بمحدودية المادة وبما أن عقل الإنسان مسلط عليها وقادر على إستيعابها والإحاطة بها فإن رحلة الإنسان العلمية تسير في طريق تقليص المساحة المجهولة للقوانين والانظمة الحاكمة للمادة ، الأمر الذي لا يؤكده الواقع لانه كلما إزدادت دائرة إكتشافات الإنسان في المجالات العلمية والمعرفية كلما إزداد حجم الأسئلة التي تبحث عن إجابات وإزدادت الحاجة إلى مناهج جديدة في كشف أسرار الوجود وإلى باحثين ومتخصصين أكثر وأكثر.
المصادر:
المدرسة المادية وتفكيك الإنسان (عبد الوهاب المسيري).
عدنان إبراهيم سمور.
باحث عن الحقيقة.
22/12/21
تعليقات: