عدنان سمور: الإنسان يحصد جحيما زرعت بذوره المدرسة المادية (الجزء 2)


دراسة في فكر عبد الوهاب المسيري.


الفروقات بين دراسة الظواهر المادية والظواهر الإنسانية

هناك فروقات نوعية وكمية بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة المادية تؤثر تأثيرا نوعياً في دراسة هاتين الظاهرتي، سنحاول فيما يلي إستعراض بعض منها:


1 - إن عناصر أي مادة تمثل حالة متكررة يمكن قياسها وإخضاعها للإختبار كما يمكن توقع ما يمكن أن يطرأ عليها من تغيير في حال تغير الظروف المؤثرة التي توضع فيها،على عكس الإنسان الذي يمثل كل فرد من أفراده حالة خاصة تشترك مع أفراد جنسها بأشياء وتتباين معهم بأشياء كثيرة أخرى لدرجة يتعذر إحصاؤها ومعرفة العوامل والمؤثرات التي أنتجتها.


2 - الظواهر المادية كل ما فيها ظاهر وقابل للإدراك والمعرفة بأدق التفاصيل ولا يوجد لديها إمكانية لتخبئة أو إخفاء شىء على عكس الظاهرة الإنسانية التي لها باطن وعمق ناتجين عن وجود الضمير والخيال والتجارب الشخصية المخزنة والإرادة والقدرة على التحليل والتوقع ، وهذا العمق غالبا لا يكون متطابقا مع الظاهر واحيانا يكون متناقضاً معه.


3 - الظواهر المادية لا علاقة لها بالزمان والمكان لذلك فإن ما يصدق عليها في الماضى يصدق عليها أيضا وبكل تأكيد في الحاضر والمستقبل ، ومهما تعرضت المادة إلى تجارب متعاقبة فإنها لن تتغير ولن تراكم أي خاصية جديدة.أما الإنسان فهو شديد التأثر بالتجارب التي يخوضها وبالمعارف التي يكتسبها وبالخلاصات التي يستنتجها من هذه التجارب . وكلما اختلفت الخلفيات الثقافية للشعوب إختلفت ردات فعلها أمام التجارب ، وصار الباحث الإجتماعي الدارس لهذه المجتمعات مواجها لصعوبات جديدة في فهمها واستيعابها والخروج منها بقواعد وأنظمة إجتماعية قابلة للتطبيق على مجتمعات أخرى.


4 - الظواهر المادية يمكن تكرار تجاربها بدقة وبكل التفاصيل ساعة نشاء ، على عكس الظواهر الإنسانية التي يتعذر تكرارها بعد إنقضائها بأي شكل من الأشكال نظرا لتعذر أعادة التجربة بكافة العناصر والمكونات للظاهرة الأولى لأن الإنسان يمثل أحد مكونات هذه الظاهرة.والإنسان الذي عاش الظاهرة الإنسانية التي نتحدث عنها يصبح إنسانا آخر بعدها هذا إذا لم نستبدله في التجربة الجديدة بإنسان آخر من المستحيل أن يكون معادلاً له.


5 - إن تجرد الباحث في دراسة الظواهر المادية أمر يسير وسهل المنال ، أما في دراسة الظواهر الإنسانية فإنه بالغ الصعوبة ، نظرا لوجود عواطف ونزعات وميول لدى الإنسان يصعب التحكم فيها وتحييدها عن موضوع البحث.


إعتبار عقل الإنسان نموذج مادي بحت يمثل التحدي الأكبر لفرضية الواحدية المادية.

(والمقصود بالواحدية المادية أن الإنسان والطبيعة كلاهما يمثل ظاهرة مادية واحدة لا يوجد أي شيء خارجها في الوجود لدرجة أن العلوم الإنسانية هي نوع من أنواع العلوم الطبيعية دون أي إستثناء أو خصوصية متجاوزة للمادة).وهنا مطلوب الإجابة على الأسئلة التالية:


1 - هل تمكنت كل القوى التي سعت بكل ما تملك من قدرات لإخضاع وتطويع الإنسان والتحكم في سلوكه كما تشاء وترغب؟

وللجواب على هذا السؤال نقول "لو لم يكن الإنسان متجاوزاً للطبيعة المادية،لأمكن تدجينه وإخضاعه كبقية الكائنات الحية،ولأمكن تربيته وتوجيهه وتوظيفه كما تشاء القوى المتحكمة به وبموارده،والقادرة على تهديده وحصاره وحرمانه من كل ما يحتاجه في حياته،تماماً كما تُربَّى وتدار الحيوانات الأليفة أو المتوحشة .ألأمر الذي لم يتحقق له مصداق في تاريخ الإنسان،حيث بقي الإنسان في كل العصور رغم ممارسة الضغوطات وحالات القهر التي لا تطاق عليه،من قبل قوى لا تعرف الرحمة أو الشفقة،والتي مارست عليه عمليات تطهير عرقي وثقافي،واستخدمت في قمعه وسائل متوحشة إلى أبعد الحدود ورغم كل ذلك بقي الإنسان محافظاً على المطالبة بحقه في الحرية والفكر واللغة والأرض والإعتقاد،وبقي مستعداً للتضحية والفداء لتغيير ما يفرض عليه من محاولات إخضاع وتركيع وتطويع واستلاب،كما بقيت إرادته لحقبات طويلة تمثل جمرا تحت الرماد،وعندما كانت تسنح له الفرصة كان ينهض وينتفض ويسعى بكل قوة ليعلن تميزه بالإرادة ويعلن تجاوزه للمادة وقوانينها وتجاوز كل ما يتوقعه العاملون على إخضاعه".


2- ما الذي انتجته المدرسة المادية باستبعادها لوجود جوهر إنساني متجاوز للمادة ؟

وللجواب على هذا السؤال نقول أن المدرسة المادية أدخلت نفسها في تفسيرات مختلفة ومتباينة لتفسير الظاهرة الإنسانية وكل واحدة من هذه التفسيرات تدعي أنها تمتلك الحل الأكمل والأشمل لفهم الطبيعة الإنسانية ولكن حقيقة الأمر أن المدرسة المادية لم تُبقِ في الإنسان إلا بعده المادي الذي لا ينكره أحد، وبذلك غيبت المدرسة المادية إنسانية الإنسان وكل ما يميزه عن الطبيعة المادية حيث يكمن معدن عظمته وكل ما يؤهله للعب دوره المرجعي والمحوري في هذا الوجود،ومن التفسيرات المجتزأة والقاصرة قدمت المدرسة المادية التالي:


1 - قدَّم سيغموند فرويد تفسيراً قائماً على أن الإنسان كائن يتحرك في إطار الدوافع والمثيرات التي يغلب عليها الطابع الجنسي المتأصل برأيه في النفس الإنسانية من خلال ممارسات الإنسان الطفولية وقام فرويد بتقسيم الذات الإنسانية إلى (ذات وذات عليا وهو) ويتمحور النشاط الأخلاقي لهذه المكونات حول الرغبة في البقاء وتقيق المصلحة المادية للفرد.


2 - أما كارل ماركس فقد إعتبر أن محرك الإنسان ومحفزه هو الإقتصاد وأساليب وأدوات الإنتاج التي يعتمدها لتأمين حاجاته المادية،التي فيها بقاءه واستمراره وبرأي كارل ماركس أن أنظمة حياة الإنسان يجب أن تكون مستمدة وقابلة للتطور من وحي هذا التفسير الإقتصادي وما يحصل من تطور في وسائل وأساليب الإنتاج التي يعتمدها الإنسان في حياته.كما إعتبر ماركس وبعده دوركهايم أن الظواهر الإجتماعية مستقلة عن الأفراد ويجب أن تكون حاكمة لها ولو بالإكراه،وما الضمير الفردي برأي هؤلاء المفسرين إلا صدى للضمير الجمعي.فعندما يتكلم ضمير فرد فهذا يعني أن المجتمع يتكلم من خلاله.وقد نظر علماء إجتماع كبار لهذا الرأي لدرجة أن كنت حاول أن يسمي علم الإجتماع بالفيزياء الإجتماعية. لدرجة إعتباره أن الإنسان ليس إلا ذرة إجتماعية.


3 - لا تؤمن المدرسة المادية بوجود طبيعة بشرية أصيلة ومشتركة بين البشر،وكل شيء في الإنسان عرضي وعابر والقانون الأعلى الحاكم في هذا الوجود المادي الذي يعتبر الإنسان جزأً كامل الإنتماء والتبعية له هو(القوة والهيمنة) على حد تعبير فوكو الذي يقول أيضاً "لا يوجد ذات إنسانية ثابتة في التاريخ،ولا يوجد طبيعية إنسانية ،ولا يوجد شيء في الإنسان ثابت بما يكفي ليصلح أساساً يتعرف الإنسان بموجبه على ذاته ويتمكن من فهم الآخرين".


الجحيمُ الدنيويُّ الذي أقحمتِ المدرسةُ الماديةُ الإنسانَ فيه.

إن تفسير المدرسة المادية للظاهرة الإنسانية بهذا الأسلوب الذي يجعل الإنسان متماهياً مع المادة والقوانين الحاكمة لها،أقحمها في إستناجات حوَّلت حياة الإنسان في هذا العالم،إلى جحيم ومختبر إرادات بين قوى تعمل بكل قوة وإستبسال على تطويع كل الواقع البشري لإرادتها كمنتصر ولتثبت نجاح وصوابية رؤيتها وقراءتها لهذا الوجود مهما كلفت عملية الإختبار الهائلة هذه من ضحايا وخسائر وضياع موارد وفرص لحياة أكثر سعادة وعدلا وإنصافا بين بني البشر.فتمَّ تقسيم العالم بناءً على هذه الرؤية بين اقوياء وأغنياء،مالكين للحقيقة،وفقراء ضعفاء رافضون للحقيقة المدعاة من قبل الأقوياء، وفي نفس الوقت عصاة على الأنظمة والقوانين الجائرة العاملة على إخضاعهم وتطويعهم وتوظيفهم.

كما تحول الإنسان من قطب ومرجعية لهذا الوجود،إلى كمٍّ وظيفي يعمل الأقوياء على الإستفادة منه وتوظيفه حيث تكون مصالحهم وأهدافهم التي يسعون إلى تحقيقها.ناهيك عن حالة الضياع والتشتت الأخلاقي الذي وقع فيها الإنسان نتيجة تسليعه وتشييئه وتحويله إلى كم قابل لتسخير الأقوياء والمهيمنين له،خاصة أن هؤلاء وظفوا كل طاقاتهم ومراكز أبحاثهم ومنظماتهم الإعلامية الهائلة للترويج لأفكارهم وما يدَّعون بأنه قِيمُ العصر،رغم ضحالتها وهشاشتها وسطحيتها وظلمها للطبيعة البشرية المتجذرة في عمق أعماق الإنسان،والعصية على المحو والضياع والإندثار رغم عظمة وقوة وقدرات وبطش

وسطوة الجبهة المعادية لها.

وقد عملت قوى الهيمنة أيضا على تذويب ثقافات وعادات وتقاليد وحضارات شعوب الأرض في مشروعها الحضاري الذي تريد له أن يرث الأرض وما عليها ويمحو كل ما سبقه من مسودات حضارية مصيرها التمزيق أمام النسخة الحضارية الأكفأ التي أنتجها الغرب المنتصر والقابض وحده على الحقيقة لأنه يمثل برأيها قمة ونهاية التاريخ بالنسبة للإنسان في هذا العالم.ولن يتمكن برأيها أي شعب مهما علا شأنه أن ينتج أكفأ وأنجح من تلك النسخة الحضارية.


في الحلقة القادمة بإذن الله سنستعرض عينات من

ظواهر جحيم المدرسة المادية.


المصادر:

المدرسة المادية وتفكيك الإنسان (عبد الوهاب المسيري)

عدنان إبراهيم سمور

باحث عن الحقيقة.

22/12/21


موضوع ذات صلة:

عدنان سمور: الإنسان يحصد جحيما زرعت بذوره المدرسة المادية (الجزء1)

تعليقات: