مسلسل عشرة عبيد صغار.. يمكننا أن نستمتع به للمرة المليون
يسخرون جميعا من "تلفزيون لبنان". إنه صورة مصغّرة عن الدولة الفاشلة، يقولون، ولا يليق به العيش بعد اليوم. صحيح، ذاك التلفزيون السقيم من تلك الدولة الكسيحة.
إستقت شاشته مجدها من بعض أمجاد الدولة، يوم كانت البلاد صنواً للازدهار والبحبوحة والرخاء، ترفل بحياة فنية وثقافية وأدبية قلّ نظيرها. أنتج التلفزيون يومها أعمالاً مضيئة وصدّرها الى المحيطين، القريبين والبعيدين. إستقطب أهل الإذاعة والمسرح الى استوديوهاته الفتية، فأكسبهم شهرة على شهرة. تربّى مخرجون على يديه، ومصورون وتقنيون ومن لفّ لفّهم من أجيال طامحة الى جديد ما، توقّعه بعرق الجبين.
ومن زمن البريق إلى حقبة الأفول. أطلقت الحرب باكورة رصاصاتها، فهوَت الشاشة الوطنية من عليائها مضرجة بالشّرذمات والانقسامات. صار لميليشيات بيروت الغربية بوقها في القناة 7 في تلة الخياط، تستودعها ما لذّ وطاب من رسائل سياسية وحربية، ترضي رغباتها في وجه العدو المزعوم القابع في بيروت الشرقية. وإذ بالقناة 11 في الحازمية "الأبية" ترد الصاع صاعين، عازفة على وتر طموحات الخصوم من المليشيات في بيروت الشرقية.
طافت البلاد على "سلام" اتفاق الطائف سعيد الذِّكر، فجرّبت الشاشة الوطنية أن تلحق بركب الاستقرار المزعوم، وتمكّنت من تحقيق نزر من نجاحات ترفع لها القبّعات. عاودت عجلة الإنتاج الدرامي دورانها، وصار يحسب للتلفزيون الرسمي حسابه، وسط غابة من قنوات خاصة تعتاش على تمويلين تجاري وسياسي. لكنّ من كانت أمّه الدولة اللبنانية المنخورة فساداً واستزلاماً وزبائنية، لا يحق له التطلّع إلى غد أفضل، فراح التلفزيون يهوي من قعر الى قعر حتى بات موضع استهزاء القنوات الزميلة، لا توفر مناسبة إلا تقذفه بأبشع النعوت كونه "خارج الزمن اللبناني المعاصر". صيّروه مادة للتندر والسخرية، فبات "الأب" المفجوع بتخلي "أبنائه" عنه، وصار يبكي "ظلم ذوي القربى".
"إستمتع بمشاهدة "عشرة عبيد زغار" على تلفزيوننا المسكين. أعتقد أنهم يعيدون بث المسلسل للمرة المليون!". قالها صديقي خاتماً عبارته بضحكة مجلجلة. "ولمَ لا أستمتع؟"، أجبته، "أليست التحفة المقتبسة لأنطوان ولطيفة ملتقى، أطال الله عمريهما، أفضل بأشواط من ذلك المخلوق المشوّه الذي عرض قبل بضعة أعوام، وقيل إنه أشبه بتكريم للمولود الأصيل؟". بالتأكيد، ستستغربون ما أقول كما استغربه صديقي، وقد تتحاملون عليّ لأنني "دقة قديمة" وأناهض التطور وأراوح مكاني وأدور في فلك نفسي. لكنّني مقتنع تماماً بما أقول ولن أحيد عن "تقليديتي".
فليعيدوا ما طاب لهم حكاية "العبيد العشرة" التي حملت توقيع المخرج الفذ جان فياض، وليقرنوها بـ"بؤساء" زميله باسم نصر، حيث تألق أنطوان كرباج في تقمص شخصية "جان فالجان"، مقارعاً كبار السينما العالمية، وتعملق الراحل إيلي ضاهر في دور الشرطي "جافير"، ضحية التنازع الدائم بين الواجب المقدس والفضيلة المستترة.
فليعرضوا أيضاً وأيضاً حكايا "الضيعة بألف خير" التي نقلها يوسف حبشي الأشقر بأريحية العارف والملم، من رفوف تتحرق لقارئ وافد الى جهاز ساحر يقتحم الأمسيات ويقبض على عيون وقلوب. هل أذكر الراحل فيليب عقيقي (شكري) الحانق على ابنه عبدالله شماس (طوني) العائد حديثاً من فرنسا النور، حاملاً متاع التمرد على القرية وتقاليدها؟ هل أذكر الحلاق الداهية الياس رزق، الذي يعدّ بعناية طبق تزويج الكسول إيلي صنيفر من "الفاتنة" العانس ليلى حكيم؟ هل أذكر "غنطوس" (فيليب عقيقي أيضًا) الذي يريد الانتقام من جور دنياه بإقامة جنازة مهيبة لأمه "جليلة"، فإذ بشباط اللبّاط يزهق حلمه بشحطة مطر؟
أحقاً "تلفزيون لبنان" لا يليق به العيش لمجرد كونه إحدى ضحايا العفونة الضاربة في رفات الدولة؟
حسب هذه الشاشة المترهلة أنها تتكئ على عصا أمجادها، ولا ضير إن أعادت عرض هذه الأمجاد لألف ليلة وليلة، ما دامت تقبع يائسة في أرشيف عجوز، ليس من يفكر في تنظيمه وتبويبه وبث الحياة فيه.
فلننسى الروائع الدرامية لبرهة، ولنطلّ من شرفة الماضي على مقابلات وحوارات مع كبار في السياسة والآداب والفنون على اختلافها. غذاء فكري وروحي هي، ما أحوجنا إليه في زمن القحط العميم. ما أحوجنا الى أنيقة الملبس واللسان، ليلى رستم، "تستدرج" كمال جنبلاط ورشيد كرامي وعبدالله اليافي وبيار الجميل وآخرين إلى كشف مكنوناتهم. ما أحوجنا إليها، "تتدلّل" على محمد عبد الوهاب لكسر بعض من مهابته، وتتسلّل إلى دخيلة فريد الأطرش لانتزاع شيء من أسراره، وتقارع فيلمون وهبة في ظُرفه وسرعة خاطره، وتحمل مذياعها الطّروب الى عاصي الرحباني لسؤاله عن مشواره مع سعيد عقل.
ما أحوجنا أيضًا إلى "حنكشيات" ظريف ذاك اللبنان المندثر، يطلق سهامه على ضيوفه يمنة ويسرة، وليس بينهم من يبدي انزعاجاً أو تبرّماً، بل يتلقفون "استفزازاته" المحببة برحابة صدر وفكر وقلب.
… وتتوالى الأمثلة ولا ينضب الأرشيف. ذاكرة ومرآة هو. ذاكرة لمن يهوى اللوذ بجمالات لا تشيخ، مهما سلّط عليها الحاضر المقيت من موبقات، ومرآة نرنو إليها طويلاً، فتفضح رذائلنا وبشاعاتنا.
تعليقات: