«الحياة الجديدة» مع الأزمات: أفراح وأحزان «عالضيّق»


أحدثت الأزمات المتلاحقة، ولا سيما الأزمة الاقتصادية وفيروس كورونا، شرخاً بين الناس وعاداتها في المجتمع اللبناني. كثر انكفأوا عن إقامة طقوس الأفراح والأحزان حتى لم تعد تشبه ما كانت عليه

سريعاً، تغيّرت الحياة الاجتماعية في المجتمع اللبناني، إذ لم تعد عاداته وتقاليده هي نفسها، لا سيما المرتبطة بـ«الجمعات»، وهي الطابع الذي يغلب على الحياة في لبنان. ليس سبب التغيّر هنا جنوح الناس نحو عاداتٍ جديدة، بقدر ما هي الأزمات المتلاحقة التي أدّت إلى «اهتزاز» البنية الاجتماعية اللبنانية، بدءاً من جائحة «كورونا» التي فرضت الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي، وصولاً إلى العامل الاقتصادي وفقدان الكثير من اللبنانيين القدرة على تحمّل تكاليف إحياء بعض المناسبات، أفراحاً وأتراحاً. واليوم، بات بالإمكان، تعميم تلك الأسباب، باستثناء قلّة «بتتديّن لتتزيّن» وتتشبث بسلوكياتها المعتادة وتتحمل أعباء مادية تفوق قدرتها.

في السنتين الأخيرتين، تغيّرت الكثير من الطقوس واختزل الكثير من الناس أفراحهم وأحزانهم. يستغرب راجي كيروز كيف مرت وفاة والده بطريقة غريبة وغير معتادة العام الماضي، حيث «حضرت القداس العائلة فقط بعد أن كانت الكنائس تعجّ بالمعزّين سابقاً». ويضيف: «لم نترك الجثة لثلاثة أيام في صالة الكنيسة ليجري توديعها كما جرت العادة، بل دفنا الوالد في يوم وفاته». طقوس تقديم الطعام تغيرت هي الأخرى، إذ تقتصر اليوم «على تقديم مأكولات سريعة كالسندويش أو قوارير المياه فقط في بعض الأحيان».

وعلى طريقة راجي، ودّعت زينب زوجها الذي توفي متأثراً بإصابته بـ«كورونا»، وحدها من دون معزين. تقبلت التعازي عبر التطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي.

يوصّف أستاذ الأنثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية، علي بزي ما يحدث لطقوس الوفاة، معتبراً أنه «بعد أن كانت عائلة الميّت لا تشعر بالفقدان إلى حين انقضاء بعض الوقت بسبب احتضان المجتمع لها من خلال الزيارات المتكررة وتأمين طعامهم والمبيت عندهم أحياناً، تعثّر هذا الواجب أو التقليد اليوم وصارت مراسم الوفاة تقام على عجلة إلى حد أن البعض يعرف بوفاة أحدهم بعد مرور فترة من الوقت».

التغيير ذاته يطاول مراسم الزواج والخطوبة التي - إن أقيمت - تكون «عالضيّق» وتقتصر على المقربين جداً. ويقول محمد حجازي «خططنا أنا وزوجتي لإقامة حفل زفاف كبير ندعو إليه كل الأقارب والمعارف والأصحاب، لكن خوفاً من انتشار عدوى كورونا بين الضيوف، دعونا المقربين جداً فقط، كانت سهرة عادية تشبه سهرات النرجيلة التي نحضرها يومياً». أنجبت زوجة محمد مولودها الأول خلال الجائحة أيضاً، «فلم نحضر كمية كبيرة من الشوكولا والمغلي لأننا توقعنا أن يتكرر ما حصل لدى زواجنا، وهذا ما حصل فعلاً».

ووصل الأمر أخيراً حد «التنازل» عن أهم تقليد يرمز إلى الزواج وهو فستان العروس الأبيض، والزواج من دون إقامة حفل الزفاف، كحال إبراهيم الذي يروي كيف انتظر عروسته ليلة زفافهما في السيارة، ويقول «زمّرتلها ونزلت من بيت أهلها وحدها مرتدية ثياباً عادية». وعزا ذلك لعدة أسباب من بينها «الكلفة الباهظة التي تتطلبها إقامة حفلات الزفاف مع الارتفاع الكبير في الأسعار، سواء لجهة استئجار الصالة والإضاءة والضيافة والورد والتصوير وبدلة العروس والعريس وغيرها».


هل يسيطر الطابع الفردي على الحياة حتى بعد انتهاء الجائحة والأزمة الاقتصادية

هذه الحال تستدعي، وفق بزي، «ضرورة تعقّب هذا التغيير الحاصل في العادات والتقاليد وإعداد الدراسات حول كيفية التأقلم معه لأنه سيترك بصماته على حياتنا الاجتماعية». مع ذلك، يرى هذا التغير أقرب إلى الطبيعي، انطلاقاً من أن «أي مجتمع يخضع لحالة معينة كالحروب والاحتلال والكوارث الطبيعية لا بد أن يشهد تغييراً في بنيته الاجتماعية». وفي لبنان، تجلى هذا التغير في بروز بعض السلوكيات الجديدة المرتبطة بالحجر المنزلي والعزل الصحي وتجنب التجمعات والالتزام بالتباعد الاجتماعي، وهذا ما «أدى إلى تراجع التواصل الاجتماعي، وحصره بالنطاق الضيّق، وتعزيز دور الأسرة النواة المؤلفة من الأب والأم والأولاد».

مع ذلك، هناك من يستصعب التخلي عن بعض الطقوس والعادات على رغم عدم قدرته المادية على تنفيذها، ما يدفعه في كثير من الأحيان إلى الغرق في الديون لإحيائها على أكمل وجه. وهذه «الظاهرة»، وفق بزي، قديمة في المجتمع اللبناني، مشيراً إلى أن «تخلي الفرد عن عاداته وتقاليده ليس سهلاً، فعندما تدخل ثقافة معينة يكون اختراقها صعباً فتخضع للتجربة، إما يتأقلم الناس معها أو يرفضونها». ويبدو أن اللبنانيين يتأقلمون سريعاً مع أي واقع جديد، فهل ستسيطر الحياة الجديدة والطابع الفردي حتى بعد انتهاء الجائحة والأزمة الاقتصادية؟

تعليقات: