شاطئ الرملة البيضاء
في الواقع المعيشي اليوم، ثمّة ما يذكرني بالعيش في أواخر السبعينيات والثمانينيات، ويتعلّق الأمر، بالقلة والعوز في الحياة اليومية...
والحال أن أول ما صادفته حين نزلت من الريف، وأقمت شكل دائم في بيروت "الغربية"، بعد هجرة قصيرة قسرية استمرت من العام 1975 إلى العام 1978، كان زحمة الأزقة والشوارع الداخلية. كانت الفوضى عارمة لناحية كثرة البشر والسيارات وضجيج الأبواق وأصوات الباعة، لأن الوضع الأمني كان يعرّض الشوارع الرئيسية لخطر أكيد، يتمثل في تعطيل الحياة من خلال تعريضها للقنص أو القصف من الجهة المقابلة، عدا عن أن الكثير من الشوارع كان مقفلاً بالسواتر الترابية، هذا الى جانب أن وسط بيروت هجّرته حرب السنتين (1975 – 1976) فلجأ تجاره إلى ما عرف بسوق الروشة، وتحول الكورنيش إلى محال تجارية مسقوفة بالتنك، يشبه عشوائيات المخيمات والمهجرين.
ولأن الحياة كانت ضمن الأحياء في المدينة، فقد اختلطت أصوات الباعة الجوالين على عربات الخضر أو الفول والترمس، بأصوات بائعي الكاسيتات لمطربي تلك الفترة الدارجة أغنياتهم من لبنانيين وعرب وأجانب. فتارة تسمع عازار حبيب، وطوراً جو داسان أو البوني أم، كل ذلك كان يجري على وقع أعياد ميلاد تجري في هذه الشقة أو تلك، والرواد فتية وفتيان لم يأخذهم المد الديني حينذاك الذي لم تكن قد بدأت تباشيره بعد. كانت هذه المناسبات تعقد وفيها المشروبات الروحية والرقص، وفق إيقاع آخر صيحات الرقص في العالم آنذاك، خصوصاً الديسكو... ولم تكن الحانات متوافرة ومنتشرة إلى الحدود التي نعرضها اليوم في حجم إتساعها وإنتشارها، كي تعقد السهرات والمناسبات فيها، بإستثناء مرقص هنا أو هناك، لا يعرف عنه أبناء الضواحي والأحياء الشعبية أي شيء. وكانت الأحياء تزدحم بمحلات تأجير كاسيتات الفيديو، حيث كانت الحصة الأكبر للأفلام العربية والعنف والبورنو، التي كانت تُعطى أسماء أفلام وهمية إقصاءً لأي رقابة إجتماعية، قبل أن تصبح متاحة لاحقاً عبر الساتلايت ومن خلال ما يطلق عليه "البلحة"، إلى أن أصبحت في متناول الجميع عبر الانترنت.
ولئن كانت القلة على أشدها في تلك المرحلة، لجأ الناس، والشبان تحديداً، إلى التفرغ الحزبي بأسعار بخسة. فبسبب ضيق الحال والأحوال، كانت خيارات الناس بين الهجرة أو السعي لتمضية بعضٍ من أوقات الترفيه التي تخفف كآبة الزمن الحربي. غزت الأفلام العربية شاشات سينمات الحمرا (التي رحلت في زمن السِّلم)، وكذلك الأفلام الأجنبية الحديثة والجادة، مع وضع اسم الفيلم والحوار فيه بترجمة الى اللغة العربية.
كانت الحمرا مقصداً ومتنفساً للحشود، لتقضية الوقت، للشباب والعائلات التي تجد أيضاً أنه من المناسب الترويح عن النفس بزيارة الكورنيش البحري حيث باعة العرانيس والكعك والفستق المملح والفول، أو المشروبات الغازية أو البيرة وحتى الحشيش من سيارات الاكسبرس الكثيرة والتي يعج بها كورنيش البحر. فكانوا يضعون الطاولات والكراسي على الأرصفة في جلسات مصحوبة بالموسيقى والأغاني من كل حدب وصوب، خصوصاً عند المساء. وذلك كله على وقع قصف متقطع أو إشتباكات بين أحزاب الأحياء الداخلية... ويُفاجأ الناس في طريق عودتهم إلى منازلهم أنه كانت هناك إشتباكات أو حروب صغيرة في هذا الحي أو ذاك، إذ لم تكن وسائل التواصل قد ولدت بعد، ولم يكن الكل يحمل هاتفاً مربوطاً بمختلف وكالات الأنباء...
ومن لم تكن وجهته الكورنيش، اتّجه إلى طريق المطار الذي كان عبارة عن تلال رملية وعشبية يفترش الناس أرضها ويقضون يوم عطلتهم، هناك يتزودون بما ينقصهم من عرانيس وفول وفستق وقهوة من سيارات الباعة. كان طريق المطار مازال مهجوراً ولم تجتَحه بعد العشوائيات بفعل التهجير من الحرب والبؤس والفقر، طمعاً بالاقتراب من بيروت للحصول على لقمة عيش.
كان سكان البنايات في الثمانينيات يحيون حياة جيدة متداخلة، فالدخول والخروج من وإلى منازل بعضهم البعض، يتم من دون تحديد مواعيد مسبقة، ويتبادلون الحاجيات والأطعمة بلا تكلف، على عكس ما هو جار الآن، حيث تحسب كل مبادرة على غير مآخذ أو ما يريده المبادر. ولأجل تبضع الطبقات العليا من محلات البقالة، ينزلون سلة مربوطة بحبل، فيها ورقة وعملة نقدية ثمناً لمشترياتهم، أو تُسجل في دفتر. وذلك لتعطل المصاعد بفعل غياب الكهرباء الدائم، أما اليوم فالدليفري سيد الموقف عبر الاتصال بالواتسآب.
كانت الفيراندات محط عيش لفترات من النهار، ولم تكن درجت بعد عادة وضع البرادي والستائر عليها، إذ كانوا يتبادلون الأشياء من خلالها لدرجة أن بعضهم أو بعضهن، ولطيش ما، وبدلاً من إرسال طفل عبر الباب، راحوا يختصرون المسافة بإيصاله عبر الفيرندا، من يد إلى يد، مع ما يتضمنه المشهد من مخاطر قاتلة.
للفيراندا حكايات حب طويلة، على طريقة أغنية "من الشباك لارميلك حالي". كان الشبان يمضون وقتاً قبالة الشرفات، بانتظار تبادل الإشارات والأغاني والرسائل مع الفتيات.
غالباً ما كنا نفاجأ باطلاق الرصاص بين الأبنية من الفيراندات، بإتجاه الشارع، أو العكس. لم تكن ثمة قيمة لشيء، كأن الشبان يمثلون أفلام الكاوبوي في الأحياء... السلاح متفلت في كل مكان وحين يلعلع الرصاص، يعم الهلع. والناس، لكثرة ما اعتادت المشهد، كانت تطل برؤوسها لتشهد أو لتراقب مآل المعركة المحتدمة من باب الفضول.
أما معضلة الكهرباء، بين الأمس واليوم، فتتكرر، وإن اختلفت في الشكل. كل منزل في الثمانينيات كان يقتني شمعة لإنارة غرة، أو مولداً صغيراً لإنارة لمبة واحدة وتشغيل البراد لساعات إضافية. أما سخّان المياه، فكان يُشغّل بمادة تسمى "ناريت"، يحتاج المرء منها كيسين أو ثلاث حتى يستحم شخص أو شخصان. ضجيج مولّدات وجلبة ناس في الشارع تنادي على من هم في الطبقات العليا، إما برفع عقيرتهم، وإما بإطلاق بوق السيارة إذا كان يملكها. ولا ننسى زعران أو مقاتلي الأحياء الذين يقضون أوقاتهم ساهرين في اللعب ببنادقهم أو بأشياء أخرى أو التحدث بأصوات عالية، ولم تكن عادة النارجيلة قد أخذت مكانها الأثير بين الناس. وذلك كله كان يجري وسط تكدّس النفايات لأيام طويلة، وانتشار الجرذان والقطط والكلاب في الشارع، وما أشبه اليوم بالأمس...
كان متاحاً للناس على طول خط الساحل ارتياد الشواطئ في حر الصيف، لأجل ممارسة السباحة مجاناً أو بأسعار بخسة. اليوم ما عاد هذا الشيء في المتناول، فكل ساحل غزته المسابح الخاصة ولا قدرة للفقراء على إرتيادها.
وكان مقصد الشباب من أجل اللهو، أماكن ماكينات الفليبرز والحصالات، وهي ماكينات تضع فيها عملة نقدية من فئة النصف ليرة الأولى، فإذا صابت طابتك أعطتك خطاً لتلعب وقتاً إضافياً. أما الثانية، فإذا حالفك الحظ وأتممت ثلاث رموز سوية، درّت لك المال.
لقد غابت أشياء كثيرة عن الأحياء الداخلية بأسواقها ومحلاتها ومحطات وقودها، لنشهد الإزدحام من جديد في طرق شقّت حديثاً أو كانت موجودة مسبقاً. فها هي المولات والأسواق الحديثة تغزو العاصمة وأطرافها، وغابت الأغاني والحفلات في المناسبات من المنازل، لتستقبلها الحانات والصالات المخصصة، وأحتلت الستائر الشرفات في مدينة تشكو أصلاً من غياب الضوء في منازلها بفعل عشوائية عَمارتها. وازدحمت من جديد بالسيارات والموتوسيكلات ،ومؤخراً بالتيك توك وسيارات الأجرة على مختلف أنواع خدماتها.
وبرزت شركات متخصصة في نقل الأثاث وفرش المكاتب، كنا نفتقر لها قديماً، وانتقلت صالات السينما من شارع الحمرا إلى المولات ومراكز البيع الكبيرة، حيث يضم الواحد منها صالات عديدة تعرض أفلاماً متنوعة في مواقيت متتالية... وهي تبدو شبه مهجورة الآن، مع تبدل أنماط الحياة، وغزوات الكورونا...
والآن، منذ توقف إشارات السير عن العمل، بدأ كأننا نعود الى الثمانينيات، زمن انقطاع كل شيء، أو زمن الشمعة والفانوس. والمولدات التي كانت حلاً بديلاً في أزمة كهرباء الدولة، يبدو أنها دخلت في أتون أزمة أيضاً، فهي بين فواتير تكسر الظهر، أو تغذي الأحياء بساعات قليلة وبأسعار مرتفعة. فيبدو أن الحلول البديلة بحاجة لحلول هي نفسها، ليعيش الناس في العتمة من جديد، مع تغلب السلاح وكثرته وتفلته بأيدي اللبنانيين.
نتجه شيئاً فشيئاً الى عقد الثمانينات، رغم أننا في العقد الثاني من الألفية الثانية. نسير القهقري في كل شيء، لا شيء من خدماتنا يتمتع بالجودة، لا دولة تعمل كما يجب، والبنى والروابط الاجتماعية إلى مزيد من التراجع والجوع والبؤس والإكتئاب والضجر من هكذا أوضاع، ناهيك بالهجرة وتفريغ البلاد من خيرة شبابها...
تعليقات: