يوسف غزاوي: فنون أوروبا الشرقيّة في سويسرا

الفنان التشكيلي البروفسور يوسف غزاوي
الفنان التشكيلي البروفسور يوسف غزاوي


تسنّت لنا في العام 2000 فرصة زيارة مدينة جنيف السويسريّة، الساحرة بطبيعتها ومناظرها ومعانقة بحيرة «ليمان» لها. كانت المناسبة تمثيلي لبنان في معرض دوليّ فنّيّ أُقيم في مبنى الأمم المتحدة؛ كان حدثاً عالميّاً مميّزاً نظراً لأهمّيّته ودلالاته ومركزه. تمّ استقبالنا كفنانين نمثّل أوطاننا، في القاعة الكبرى (المخصّصة لاستقبال رؤساء دول العالم) بحفاوة قلّ نظيرها، كانت لي بمثابة حلم لم يتكرّر، وبحضور ممثلي أكثر من مئة وستين دولة من دول العالم، كذلك الأمر أثناء افتتاح المعرض الذي حُظي بتغطية خاصّة من عدد هائل من وسائل الإعلام العالميّة، أُرفق المعرض بـ«كاتالوغ» ملوّن عن أعمال الفنانين العارضين. قمتُ حينها بالكتابة عن هذا الأمر عبر إحدى الصحف اللبنانيّة المعروفة.

ما يُبرّر هذه المقدّمة هو الوقوف على الاهتمام الخاصّ الذي تبديه سويسرا للفنانين وللمعارض التي تُقام فيها، ومن بينها هذا المعرض الذي سنتناوله بهذه الأسطر.

خلال وجودي في جنيف قمتُ بزيارة المدينة عن كثب، والتعرّف على معالمها وخصائصها. ما لفتني فيها كثرة الـ«غرافيتي» على جدرانها التي حوّلت المدينة إلى متحف بالهواء الطلق. الأمر الآخر المُلفت فيها هو وجود مُتحف واحد للفنون التشكيليّة، الحديثة منها والمعاصرة، يُدعى مامكو (MAMCO)، اختصاراً لكلمات تعني «متحف الفنون الحديثة والمعاصرة»، والتي تمثّله دوريّة (مجلّة) تحمل نفس الاسم، وتصدر أثناء إقامة المعارض في المتحف، والتي يغلب عليها تيارات المفاهيميّة كالأداء والمنيمال والتجميع وفن الفيديو، يُضاف إليها النحت والتصوير، الخ.

فبعد توقّف استمرّ سنتين، بسبب وباء كورونا، عاود المتحف نشاطه الفنّيّ من خلال معرض بدأ في السادس من تشرين الأوّل 2021 وينتهي في الثلاثين من كانون الثاني 2022.

إنّ مشهديّة هذا المعرض الخريفيّ للعام 2021، مع المعرض الاستعاديّ للفنان «توني كونراد Tony Conrad»، مع تدخّل الفنانة «جوليا شير Julia Scher» والمشروع الجماعيّ المعنون «راقبَ وأدّى» أو «حرَسَ وأدّى» Surveiller et performer، تريد إرجاع هذه الانعكاسات التي يحسّها الجميع إلى أنّ القرن الواحد والعشرين سيكون قرن المراقبة الكلّيّة والخرائطيّة La cartographie، ليس للعالم فحسب، بل للسلوك الإنسانيّ، كما جاء في كاتالوغ المعرض.

هذا المعرض (المستقبليّ) يجمع أعمالاً لفنانين من دول أوروبا الشرقيّة «أوروبا الوسطى، حسب تسمية الغرب لها، وأوروبا الشرقيّة، حسب تسميّتنا»، المقصود بها مجموعة الدول الواقعة خلف ستار الحديد: تشيكيا، هنغاريا، بولونيا، صربيا وكرواتيا. نُفّذت الأعمال المعروضة بين السنوات 1969- 1979 في خضمّ الحرب الباردة، تشهد على نماذج الحركة الفنّيّة حينها في فضاء الجمهور.

على غرار أيار 1968، عُرفت نهاية ستينيّات القرن الفائت في العالم أجمع بنزاع المؤسّسات. هذه الرياح من الاعتراض داخل الأنظمة الشيوعيّة والاشتراكيّة أحدثت توترات وتراخياً في لعبٍ معقّدة. عرفت هنغاريا فترة قويّة من الحركة الاقتصاديّة والثقافيّة استمرّت حتى العام 1972. أمّا تشيكوسلوفاكيا فكانت شاهداً على قلاقل وصولاً إلى ربيع براغ 1968. على عكسها، فإنّ بولونيا عرفت مرحلة من الحرّيّة توقّفت فجأة بسبب قانون عُرفيّ في الثالث عشر من كانون الثاني 1981.

إنّ الأشكال التجريبيّة للفن في أوروبا الشرقيّة شاركت المسلكيّات المشابهة لتلك المعاصرة في الغرب. لكنّ سياق البلاد الواقعة تحت التأثير السوفياتي حينها - مباشرة أو غير مباشر (يوغوسلافيا) - أعطت الأعمال دلالة أخرى مختلفة.

الفنانون الموجودون في المعرض استعملوا الـ«فوتومونتاج» في أعمالهم، عبر التحويل أو الدبلجة بهدف تخريب بلاغة الدعاية الرسميّة (كما الحال مع الفنانين أورشي دروزديك، إيفا بارتيم، تيبور هاجاس، ناتاليا إيفوكوفيتش).

بعض الحركات الإيمائيّة والسرّيّة تقدّم القليل من المعلومات أو التسجيلات التي شابهت الرقابة (أعمال الفنان فالي إكسبورت). في سياق الرقابة العامّة، في الحياة الخاصّة وكما في الفضاء الشعبيّ، فإنّ الفنانين وحّدوا الحميم والجمهور بطريقة فردانيّة. يعرض «توميسلاف كوتوفاتش» نفسه ضمن حميميّته الأكثر فجاجة، في حين أنّ «سانجا توميسلاف» عرض مشاعره وهو ينظر من شرفته عرضاً رسميًّا. قدّم «كاتالان لاديك» مشهداً لحركات حميميّة كصيغة استعمال شعبيّ. عمد «جيري كوفاندا» إلى السريّة: «أنا سيناريو كُتِب قبلاً من خلال رسالة». تمّ اختيار الحركات كيلا يتمكّن المارّة من الاشتباه أنّهم يُشاهدون «أداءً» (أُقيم في مسرح في براغ 1976).

في مجتمعات عرفت أجهزة أمان خانقة، قام الفنانون برسم استراتيجيّات حاذقة تُعنّف وحدة المعلومة متحرّيّة الانعكاسات المتعدّدة للصورة والنصّ والصوت.

إنّ معرض «توني كونراد» (الذي سنتوقف عنده مليًّا من بين آخرين) يتبع إرادة عولمة برنامج «مامكو» مُقترحاً مقاربة الفنّ والأشكال التي لا تتحدّد بقوانين غربيّة..


توني كونراد

Tony Conrad

(1940-2016)

عام 1964 تظاهر الفنان «كونراد» مع الفنان «هنري فلانيت» أمام مبنى «جادسون هول» في نيويورك ضدّ حفلة «ستروكهاوزن» الموسيقيّة. في صورة بالأسود والأبيض ظهر كونراد حاملًا يافطة كُتب عليها «ضدّ فنّ الوصوليّين المتعجرف!». ما وراء سياق هذه التظاهرة يُعلن هذا الشعار بشكل كامل معارضة الفنان لكلّ شكل من الجماليّة الرأسماليّة (من ضمنها تجديداته الخاصّة) وبناء مسار فنّيّ متجانس وتقدّميّ. بخلاف ذلك، نرى فنّه يأخذ جسداً وشكلًا من خلال تدخّلات متنوّعة ضمن حقول ثقافيّة مختلفة: موسيقى، سينما، فيديو، فن التصوير، تعليم أو أيضاً نشاط اجتماعيّ. هو، إذاً، يوضح تجربته العمليّة عبر إزاحة نفسه بشكل ممنهج من مشهد ومن وسيط لآخر، كي «يُصدّعها» من الداخل. وهكذا، إذا كان كونراد قد ترك تأثيراً كاملاً على الثقافة المعاصرة، فإنّ اسمه بقي غير معروف من الجمهور الكبير: «إنّ جهلَ اسمي لا يزعجني أبداً؛ أنا أمقتُ الشهرة» كما صرّح عام 2016 واضعاً نفسه نقيضاً لفنان الـ «بوب آرت» «أندي وارهول».

تابع كونراد مؤسّسة حقيقيّة تقوم على هدم مؤسّسات وتقاليد ثقافيّة غربيّة، أُعتبرت كمعياريّة وسلطويّة. مبتدئاً بملكيّة فكريّة وفكرة المؤلّف (السلطة والمؤلّف يتشاركان الاشتقاق نفسه باللغة الفرنسيّة Autorité, Auteur)، لكن أيضاً التأليف الموسيقيّ، الإطار، التركيب، الأبعاد الهندسيّة، وسائل التواصل أو حتى الفضاءات الآيلة إلى الثقافة.

تاريخ هذا الهجوم الحاد البصيرة والمطوّل يبدأ عام 1962 عندما أدخل مبدأ آلته الـ«درون» لاعباً ومدوّناً نوطات طويلة على آلته «الفيولون» في الحفلة الموسيقيّة التي ناقضت بين الأعوام 1962-1965 التقليد الغربيّ للتأليف الموسيقيّ. إنّ الـ«درون» المبتكرة من قبل كونراد طمحت لخطب ودّ الجمهور ضمن سياق الإنتاج الموسيقيّ في إطالة الثورة التي أشعلها موسيقيّ الفلوكسوس «جون كيج» John Cage .

في الوقت الذي كان زملاء كونراد يبنون مسارات عبر إظهار تجاربهم البذريّة (زرع البذور)، كان كونراد يتوارى ليعرض في مكان آخر - في حقل السينما التجريبيّة هذه المرّة. فيلمه المعنون «الوميض» 1966 يمثّل إهانة لوسيط السينما بطريقة تعارض خمول واستكانة المشاهد. يجد نفسه مباشرة مكرّساً لتحدّيات السينما البنيويّة. سيتابع كونراد، بظرفه وفكاهته التي تميّزه، ردّة فعله على الوسيط الفيلميّ وطرائق التجريب الخليانيّة Celluloïd عبر الخضوع لأغشية الأفلام العذراء Les pellicules «المطابخ»... أفلامه تُعرض حاليًّا في إناءات خاصّة وليس على شاشة (1973-1974).

بالموازاة، سمحت له سلسلته «رسوم متحرّكة بالأصفر» (1972-1973) بتقريب استحواذه لتجربة الوقت الطويل (أدخله في الموسيقى قبل ذلك بعشر سنوات) وتجاربه السينمائيّة.

مسطّحاته الكبيرة باللّك الأبيض الرخيص وعلى قياس شاشة السينما، كُوّنت على ورق للتغليف قابل للاصفرار مع الزمن. بردّة فعل على الفيلم الطويل «أمبراطوريّة وارهول 1964» ابتكر كونراد رسومه المتحرّكة بالأصفر بجهد زمنيّ لا نهائيّ. نقده للسينما لا يستثني فنّ التصوير La peinture طالما أنّه عرّف مونوكروماته (اللون الواحد) كأفلام.

نهاية السبعينيّات، وبمناسبة ذهبيّة عشرية 1980، نرى كونراد (البالغ حينها أربعين عاماً) في كاليفورنيا ينسّق مع فنانَين اثنين (مايك كيللي وتوني أورسلر) ومع طلاب فنون آخرين. حقّق معهم أفلاماً وتجهيزات تعالج مسائل السلطة والرقابة، ضمن أبعاد نقد وسائل الإعلام والتكنولوجيا. من خلال دعسات الأرجل نراه يحقّف أكبر تجهيزاته عام 1988.

كان كونراد قد ارتبط بنشاط عملانيّ اجتماعيّ، بالتحديد مع منظمة أو مجموعة هدفها وضع تحت تصرّف المواطنين أو الفنانين موادّ سمعيّة - بصريّة ليستطيعوا إنتاج مضامين بديلة من وسائل التواصل المهيمنة - التلفزيون مشكّلًا في الثمانينيّات، وخاصّة في البلاد الأنغلو-ساكسونيّة، قوّة جهاز في يد اقتصاد حرّ وقوّة هيمنة ثقافيّة. تدخّل كونراد مباشرة في هذا النشاط الوطنيّ، في قلب وسائط الإعلام بعمله «استديو الشارع 1990-1993» عبارة عن برنامج تلفزيونيّ مبثوث على شبكة جمهور..

في منتصف التسعينيّات وصولًا إلى وفاته عام 2016 اندفع كونراد في شكل توحيد (أو إعادة قراءة) لكلّ أعماله الخاصّة. أقام حفلات ومحاضرات في كلّ أنحاء العالم مرتبطاً بسلسلات جديدة من الأعمال. ومعرض مامكو هو اقتراح تسليط الضوء على هذا المسار الممتدّ لستين عاماً من النشاط الثقافيّ آخذين بعين الاعتبار موقع الفنان فيما يختصّ بطريقة إظهار أعماله ضمن مؤسّسات الفنّ المعاصر..

الفنانة «جوليا شير» Julia Scher (مواليد 1954) ظهر عملها في الثمانينيّات مخصّصاً لأدوات الرقابة، وخاصّة الـ«فيديو-رقابة». قامت بإنشاء وكالتها الخاصّة فيما بعد بعنوان «إنتاجات سالمة وآمنة». يغلب على عملها السخرية النابعة من تدخّلاتها التي تغرق فضاء المعرض في نظام المراقبة السلطويّ لتؤثّر على سلوك الزائرين. عملها، إذاً، يقترح تحليلاً تهكّميًّا من أيديولوجيا الأمن ومخاطرها. أحد أعمالها يمثّل كاميرا مراقبة مخبّأة بشكل سيّئ وسط باقة ورد مؤلّفة من ريش بلون زهريّ (فوشيا). وفي أعمال أخرى وضعت منحوتتين لكلب حراسة (دوبرمان) المشهور بشراسته حيث يُستعمل لفرض الأمن. أعطت الفنانة على وجه الكلب ومخالبه مسحة من الطابع السنّوري (القطّ) مع لون زهريّ (لون هيمن على أعمالها) لتجعل كلبها ناعماً وضعيفاً.


فيرينا لوينسبيرغ

Verena Loewensberg

(1912 - 1986)

هي فنانة سويسريّة لا تنتمي لفريق أوروبا الشرقيّة الذين ذكرناهم. أثناء الحركة الحديثة في سويسرا نجد الفنّ الواقعيّ مهيمناً على المشهد الوطنيّ حتى نهاية الستينيّات، قبل انبثاق تأثيرات دوليّة (البوب آرت والفن المفهوميّ بداية، ثمّ الفلوكسوس والعودة إلى التصوير التشخيصيّ فيما بعد).

ظهر الفنّ الواقعيّ ما بين الحربين العالميّتين في أوروبا، طالب بموضوعيّة واستقلاليّة اللسان اللغويّ التشكيليّ بعيداً من كلّ مرجع من العالم الخارجيّ. معارضاً للفنّ التشخيصيّ بمقدار معارضته للتجريد المنبثق من الواقع أو من التعبيريّ، بنى لسانه اللغويّ انطلاقاً من الاستعمال الوحيد للعناصر التشكيليّة (أشكال، مساحات، ألوان) موجّهة لخدمة مبدأ هندسيّ واضح.

مجموعة الفنّ الملموس، أو الواقعيّ، الذي تأسّس عام 1930 حول الفنان «تيو فان دوسبيرغ» (التشكيليّة الجديدة)، سيُصبح مرجعاً للفنانين أمثال «فاسيلي كاندنسكي» أو «جان آرب» لوصف فنّهم. لكننا نجد الفنان «ماكس بل»، الذي سيُعطي واقعاً متّسعاً لهذه الحركة، منذ العام 1936 في سويسرا، ومن ثمّ عالميًّا من خلال تظاهرات وإعلانات.

المرأة الوحيدة في مجموعة «واقعيّات زوريخ» الفنانة «فيرينا لوينسبيرغ» لم تكن معروفة في المناطق الفرانكوفونيّة، ونادراً ما عبّرت عن عملها. حقّقت هذه الفنانة تأليفات معيّنة، بنائيّة لكنّها تظهر بحرّيّة كبيرة شكليّة ولونيّة. تعود أعمالها الأولى إلى سنة 1936 ولوحتها الأولى الظاهرة في كاتالوغ الفنانة القياسيّ (احتوى على 630 لوحة، وعلى أعمال غواش ورسوم وحفر ونحت) يعود إلى العام 1944.

إذن، لا يكتفي المعرض بتسليط الضوء على فنانين من أوروبا الشرقيّة بل يحتوي أيضاً على أعمال لفنانين معاصرين وما بعد حداثيّين من سويسرا والبرازيل وإيرلندا والولايات المتحدة الأميركيّة وانكلترا وتركيا وغيرها.. أنتجوا في تلك الفترة من التاريخ الفنّيّ المعاصر أعمالاً تحاكي تيّارات فنّيّة معاصرة كالفلوكسوس والمنيمال آرت والتجهيز، عرفناها مع فنانين روّاد في هذا المجال، وصلت موجات تردّداتهم إلى دول العالم أجمع، ولمّا تزل تحدّد وجهة سير فنون باحثة دائماً عن التجديد والتعبير عن الإنسان المعاصر الذي لم يجد تعريفاً معيّناً لحالته ووجوده...

إنّ أهمّيّة هذا المعرض تكمن بتسليطه الضوء على فئة من الفنانين المعاصرين الذين سبحوا في أوروبا عكس التيّار الذي فُرِض على الفنانين أثناء الحكم الاشتراكيّ، فمن الفنانين من رضي بالسباحة مع التيّار، ومنهم من سار عكسه ليُسجّل اسمه في سجلّ الروّاد الذي يُحدّد الغرب أبطاله بما يُناسب توجّهاته وفكره وليبراليّته، وإن كانت هذه التجارب صدًى لما كان يحصل في الغرب من تجارب ومدارس فنّيّة تشكيليّة ما بعد حداثيّة ومعاصرة..


* أستاذ جامعي وفنان تشكيلي وباحث






تعليقات: