تبرز مخاوف جديّة من تحول لبنان أرضاً خصبة للإتجار بالأطفال، في ظل الانهيار الشامل وتحلل الدولة، ما يسهّل مثل هذه الممارسات، خصوصاً أن غالبية عمليات التبني المسجلة في لبنان منذ عقود تشوبها مخالفات قانونية
العيش في لبنان بات شاقاً لأغلب الأسر ما يدفع أعداداً متزايدة منها للجوء إلى الجمعيات طلباً للمساعدة، وصولاً إلى الاستعداد لترك أطفالها لدى المؤسسات التي تعنى برعايتهم، أملاً بأن ينعموا بظروف حياة لائقة. واقع قد يؤدي بكثيرين للوقوع فريسةً لسماسرة الحياة والاتجار بالأرواح.
تاريخياً، ليست تجارة التبني غير الشرعي للأطفال غريبة عن لبنان. عام 2019، وثّقه جمعية «بدائل»، في مؤتمر نظّمته بعنوان «التبنّي الدولي عبر لبنان: سيرة حرب منسية»، نحو 3500 حالة تبنٍّ سُجّلت في لبنان منذ خمسينيات القرن الماضي، 2% منها فقط وُثّقت بشكل شفاف يبيّن جذور الطفل المتبنّى ومعلومات حول أهله البيولوجيين وتاريخ التبني وغيرها. فيما الغالبية العظمى من الحالات شابتها عمليات تزوير، أبطالها أفراد ينتمون إلى شبكة عنكبوتية واسعة متغلغلة في عدد من الدوائر الرسميّة والمؤسسات والمهن.
الخبيرة الدولية في الرعاية البديلة مؤسِّسة «بدائل»، زينة علوش، توضح أن «عمليات التبني كانت تجرى بشكل مقونن ولكن غير شرعي. إذ كانت تستند إلى وثائق مزوّرة كشهادة الميلاد وجواز السفر وإخراج القيد». وتلفت إلى أن «هذه الممارسات ليست محصورة بلبنان فقط، بل تتوافق مع الإطار العام لعمليات التبني الدولي التي تعتمد بمعظمها على التزوير وتجهيل الأم البيولوجية إلى حد بحيث يصبح البحث عنها من رابع المستحيلات».
بحسب علوش، فإن الأزمات الاقتصاديّة، تاريخياً، تسهم في زيادة ظاهرة التخلي عن الأطفال حول العالم. تزداد الضغوط الحياتية على «الأمهات المنفردات» ما يدفعهن أحياناً إلى التخلي عن أطفالهن. كذلك تزيد العلاقات الجنسيّة غير المحميّة في فترة الأزمات الاقتصاديّة، بخاصة لدى فتيات ينتمين إلى الطبقات الاجتماعية الفقيرة والهشة، ممن يفتقرن إلى التوعية الجنسيّة، ليجدن أنفسهن مع حمل غير مرغوب فيه، إضافة إلى أن الأوضاع الاقتصاديّة الحرجة قد تدفع بعض الأسر في بعض الحالات القصوى إلى التخلي عن أطفالها.
تتولى هذه النشاطات الجرمية شبكات تضم محامين ومخاتير وعناصر في الأمن العام وموظفي سفارات
لذلك، تشكّل الظروف التي يشهدها لبنان أرضية «مثالية» للإتجار بالأطفال، خصوصاً أن «الطلب» موجود، تحديداً من مواطني دول غنيّة يجدون مبتغاهم في دول فقيرة. وتوضح علوش أن «التبنّي غير الشرعي يقع ضمن الإتجار بالبشر، ويُسمّى الإتجار بالأطفال لأغراض التبني، وتقوم به في أغلب الأحيان عائلات أجنبية من دول العالم الأول ترغب بالتبني ضمن بلادها لكنها لا تستوفي شروط التبني في دولها. فتلجأ إلى دول فقيرة أو تعاني حروباً وأزمات نزوح». وكان مؤتمر «التبنّي الدولي عبر لبنان: سيرة حرب منسية» وثّق أن غالبية الأطفال اللبنانيين الذين تم تبنّيهم كانت وجهتهم هولندا، تليها فرنسا فالدنمارك ثم أميركا وسويسرا.
لا أرقام ومعطيات دقيقة حول أعداد عمليات التبني التي تجرى بشكل مخالف للقانون. لكن الافتقار إلى معلومات حاسمة في هذا الشأن لا يعني أن هذه الممارسات غير موجودة، خصوصاً أنها، عادة، تجري بشكل متقن وتتولاها شبكة واسعة تضم، بحسب علوش، «محامين ومخاتير وعناصر في الأمن العام وموظفي سفارات أجنبية، وصولاً إلى مستشفيات تجرى فيها عمليات الولادة ويسجل الطفل باسم الأم الراغبة بالتبني». واللافت أنه رغم الأدلة والإثباتات، «جرى التعامل مع الأمر بطريقة تسخيفية، ولم تجر أي متابعة قضائية للملف».
وفيما قد يجد البعض في التبني «إنقاذاً للطفل» مقلّلين من شأن سلبيات الإجراءات غير القانونية التي تتبع للوصول إلى هذه الغاية، تلفت علوش إلى أن «التبني في كثير من الحالات ليس إلا عبارة عن رغبة عائلات بالحصول على أطفال مهما كان الثمن. وكثير من هذه العائلات تفتقر إلى المعايير التي تفرضها دولها للتبني ما يدفعها للجوء إلى دول أخرى»، ما يعرض الأطفال لمضاعفات واضطرابات قد تعيق حياتهم في المستقبل.
تعليقات: