تموز 2008: «ما بدي إتذكر» (هيثم الموسوي)
الطفلة التي فقدت والدها وعيناً من عينيها في دبين ترفض استرجاع الذكر
لا تزال هويدا خالد أسيرة ذاكرتها. تصرّ هذه الفتاة على ممارسة طفولتها، ملقية بذكرى مجزرة قرية دبين التي أفقدتها أباها واثنين من إخوتها ذات يوم دامٍ من تموز 2006 في أعمق نقطة من ذاكرتها الفتية.
لم تهضم هويدا ذكرى ذلك الدويّ الهائل الذي أفقدها عيناً من عينيها منذ سنتين. ابتلعت المشهد بأسىً، ومنعت والدتها من معالجته ومساعدتها على استيعابه، رافضة انتشاله من دائرة المحرمات. فهويدا ترفض الحديث عنه، ليس فقط مع الصحافيين، بل أيضاً مع الوالدة.
لا تريد شيئاً يذكّرها به، فنشرات الأخبار ممنوعة في البيت، والحديث عن الحرب ممنوع، وتنبيهات الوالدة من اللعب في الشمس وبرويّة مرفوضة.
إلا أن الماضي لا ينصاع لمحاولات الطيّ المستمرة، فالجرح على الخد الأيسر لم يُمحَ بعد. والعين الزجاجية تعاند تطبيع الحاضر، إذ لا تزال تنزلق أحياناً مع وثبة طفولية لامبالية، لتغرق هويدا في صمت يدوم يومين أو أكثر، فقد كان جميع التلاميذ في الملعب. وقد رأوا جميعهم ما حدث...
هويدا طفلة تملأها حيوية الأطفال ومناكفاتهم المستمرة لذويهم ولأقرانهم. تحب لعب الورق، ولعبتها المفضلة هي، للمفارقة، الحرب. تحب أيضاً المسلسلات العربية. تتابع مسلسل نور هذه الأيام، وتنتفض حماسة وهي تتحدث عنه، فـ«قد وجدوا نور في الحلقة السابقة. كان عابدين قد خطفها».
تمرح جداً في الحديقة، تسقي مشاتل الخيار والمقتى. وتغير عاماً بعد عام رأيها في ما تريد أن تصبح عليه حين تكبر. ففي العام الماضي كانت تريد أن تصبح معلمة رياضة. أما اليوم، فهي تظهر تململها من المدرسة، وخصوصاً مادة العلوم. تريد أن تصبح موظفة حين تكبر. تقول إنها فرحت حين رمّموا منزلهم وعادوا إلى السكن فيه منذ شهرين تقريباً، لكن الوالدة تبتسم بأسى وتتوقف عند هذه الجملة. فهذا هو البيت الذي شهد المجزرة، وهي تحاول جاهدة أن تشيع الأنس والأمان فيه، تحتضن أطفالها في أرجائه بمحبة على أمل محو الذكرى المؤلمة التي تتردد في أرجائه بينما تملأها الغصّة: «تعاظم خوف الأطفال بعد الحادثة. أصبحوا يرتعبون من أصوات المفرقعات النارية التي تطلق ابتهاجاً في القرية. وعلى الدرب الصغير الذي يربط المنزل ببيت الجد، تتمسك هويدا بفستاني ولا تحيد عن الطريق قيد أنملة مخافة الألغام الأرضية».
هويدا تصرّ على مزاولة حياة عادية. لم تستسلم هذه الطفلة لدور الضحية، رغم تردّد الإعلاميين على منزلها. قادتها فطرتها إلى التّمسك بالأمل وبالحياة الطبيعية سبيلاً إلى غد متخيّل لا حرب فيه ولا صواريخ.
«ما بدي إتذكّر» تقول. كلّما اجتاحت ذاكرتها صور الدمار تستبعدها. «كلما خطرت الحرب على بالي، أحاول التفكير بشيء آخر» تقول. تستسلم لعدسة المصوّر بانصياع. تبتسم أحياناً، تتضاحك مع إخوتها، ولا يغريها دور «النجمة ـــــ الضحية»، فسرعان ما يضيق خلقها وتستر وجهها بيديها الصغيرتين مخبئة آثار الجرح الذي لم يندمل بعد تماماً.
كانت هويدا تتحضّر خلال تموز الماضي للسفر بهدف متابعة علاجها الذي تكفّلت به في مرحلة أولى المؤسسة العسكرية في دولة الإمارات. قدّمت العائلة طلباً للسفارة، لكنها لم تتلق رداً. فالعين الزجاجية التي رُكِّبت تحتاج إلى متابعة مستمرة وإلى قياسات جديدة كل عام. هي عملية غير جراحية، لكنها تستلزم حوالى ثلاث أو أربع جلسات تدوم كل واحدة منها حوالى ساعة ونصف الساعة، يجري خلالها ضبط القياس الجديد للعين. كانت الأم لا تزال تستخدم القطرات والمراهم التي منحت لابنتها خلال المرحلة الأولى من العلاج، وتنتظر رد السفارة الذي لم يأت، حين تلقت اتصالاً هاتفياً من طبيب العيون وابن قريتها ذاتها الدكتور سامر كحيل عرض خلالها مساعدته وتكفله بمتابعة علاج هويدا وإجراء المتابعة السنوية لعينها، ما وفّر للطفلة رحلات عديدة لبيروت تنتظرها من موعد إلى آخر. فهي تحب المدينة رغم أنها لم تر منها حتى الآن سوى عيادة الطبيب ومنزل رفيقتها التي تزورها بعد كل موعد.
هويدا أسلمت نفسها للصدف، واختارت الحياة الطبيعية رغم جروحها، فكافأتها الحياة بمن يساعدها مدفوعاً بمروءته الشخصية وبمبادرته الخاصة. إلا أن الاستحقاق مؤجل إلى حين، فبعد سبعة أعوام من الآن، حين تبلغ السابعة عشرة، سيصبح بإمكانها الخضوع لعملية تجميلية تمحو أثر الجرح على خدها لتلبّي تماماً طموحها بتجاوز الذكرى الفاجعة. وعندها، سيتطلب الأمر أكثر من مبادرة فردية.
تموز 2006: فور نقلها إلى المستشفى
تعليقات: