عامان على تموز ،٢٠٠٦ عامان على »النصر المخضب

طفلة نزحت واهلها إلى مدرسة في الدكوانة
طفلة نزحت واهلها إلى مدرسة في الدكوانة


يد تمسد على خدك. لوجهك عيون كثيرة. على عدد عيون أطفال رحلوا قبل صيفين.

منهم من كان شعره قصيراً وعيناه لوزيتين.

منهن من كان بشعر طويل وعيون واسعة لم تشوهها طلقاتهم.

تحت بقايا بيوتهم قتلوا، ظلماً. أو تحت بقايا بيوت لجأوا إليها خوفاً من نيران دولة لا تحيا إلا على أشلاء أبناء ببشرة سمراء، هم دوماً، أينما كانوا، عرباً.

يد تمسد على خد هويدا، على الجرح الممتد من الجبين إلى أسفل الذقن. يد تمر فوق عينها التي لم تعد ترى. في العين التي ترى، نظرة أعمق من أثر الجرح الذي خلفته مقاتلة سرقت إلى أبيها وأخيها، ما تبقى من طفولتها.

يد تمسد على خد مروى التي ربما لما تزل تنتظر أمها كي تروي لها كيف غفت ذاك الصيف على وعر أرض تقع بين قريتي البستان ومروحين، فظنها طيار المقاتلة ميتة، وجنبها ما أوقعه بسائر أفراد أسرتها من جنون.

يد تمر فوق جبين علي، الذي كان ممسكاً بيد أمه حينما عثر عليه عمال الإنقاذ تحت الأنقاض في الشياح.

يد تمر على ما تبقى من جسد وعد الرضيعة التي بقيت في حضن أمها إلى أن فرقهتما يد المسعف.

كم اسماً؟ على عدد أسماء اللغة العربية كلها: نور، أحمد، محمد، ليال، منال، هادي، زينب، بلال، هدى، ناصر، إيمان، يوسف...

كم قرية؟ كم بلدة؟ كم منزلاً؟

يد تمر على مقابر ذات شواهد بمقاسات عديدة. تنتقل من الجنوب، إلى البقاع، إلى بيروت، إلى عكار، مروراً ببعض مخيمات أهل فلسطين. تطلب الرحمة للذين رحلوا، وتربت على أكتاف الذين بقوا ليتذكروا.

من ينسى؟ كيف ننسى؟

دمنا هو الدم الذي سال. لحمنا هو اللحم الذي تناثر فوق الطرقات التي تربط مناطق يفترض أن يشكل مجموعها وطناً.

البيوت التي فتحت لاستقبال من شردوا فوق الجسور المتشظية، هي بيوتنا. القلوب التي شرعت لإبصار »الآخر« واحتضانه، هي قلوبنا. كيف ننسى؟

العيون التي رأت كانت عيوننا: مذابح جماعية تنقل »مباشرة« عبر »الأهواء«، و»ردود فعل« تدين الضحية. من ينسى؟

الأطباء، الممرضات، المسعفون، مديرو المستشفيات، المتطوعون، الصحافيون، المصورون، المراسلون، السائقون، النساء اللواتي بقين في القرى للطهي للمقاومين، لكلهم وجوهنا.

الكهول الذين ذابوا تحت أنقاض منازل رفضوا مغادرتها، النازحون الذين كانوا يسابقون موت المقاتلات على الطرقات. من ينسى؟

الجوع، والعطش، والعوز. الرعب على امتداد ثلاثة وثلاثين يوما في لبنان العام .٢٠٠٦ من ينسى؟

لم يدفن كل شهدائنا بعد. لم يشف كل جرحانا بعد. مازال بعض بيوتنا مدمرا. مازالت أمواج بحرنا تحمل مخلفات ما عاثوا. وأغصان أشجارنا مازالت مثقلة بقنابلهم. كيف ننسى؟

لم يعد كل مقاتلينا إلى بيوتهم بعد. شبان وكهول ردوا العدوان بصدورهم وبما جمعوه، على امتداد عقود، من خبرة وصبر وأسلحة حديثة وإيمان بأننا قادرون إن رغبنا. لهؤلاء أيضا وجوهنا.

كأنه طيفهم يعبر مع نسمات الصيف الشحيحة. طيف الذين رحلوا كي نبقى.

طيف يقاوم التلاشي خلف غبار الأيام العجاف التي تلت حرب تموز العام .٢٠٠٦ طيف لا ينفك يراودنا، يراوغنا كي نمضي معه إلى حيث يجب أن نكون، إلى حيث يجب أن نبقى: »ثابتون على امتداد حدود فلسطين«.

طيف يقاوم انغماسنا في أزقة المذهبية، والمقاعد الوزارية، والحروب الداخلية، والاعتصامات العبثية، والتصريحات النارية، والشتائم العلنية، والفراغات اللانهائية، والتعيينات الشكلية...

طيف يقاوم عامين من الخوف، وعدم الاستقرار، و الغلاء، والعوز، والهجرة، والبطالة، والديون، والظلمة، والعطش، ومواسم زراعية تالفة، ومعامل مقفلة. عامان من الإحساس الطاغي بالغبن، والشعور العارم باليأس.

عامان، ٧٣٠ يوما، ٧٣٠ غدا مجهولا، مريبا، مخيفا.

طيف صيف لا يشبه في شيء صورة لبنان المشتهاة في المناشير السياحية والإعلانات الترويجية، والمتمثلة بكيس تسوق يترنح بين بحر وجبل. كان مجرد صيف حقق، بالحد الأدنى، قدرة غير مسبوقة على الردع ـ قدرة ردع لها أن تضمن مواسم صيفية آمنة كثيرة مقبلة.

طيف صيف شهد تدمير دبابات، والتفوق على مقاتلات، وإحراق بوارج، وفشل »عمليات«، وأجهزة استخبارات واستراتيجيات. طيف حفنة من الشباب، بعضهم قضى من العطش في العراء في البراري، أرهبوا بصرخاتهم جنود »الجيش الذي لا يقهر«.

طيف صيف أسقط ستين عاماً مما زرع في النفوس بأن الهزيمة قدر، ستين عاماً من الـ»لو أننا« تسبق كل جملة يراد لها أن تكون مفيدة.

طيف صيف أسقط ستين عاماً من المرارة وكره الذات حتى أننا كدنا نرتضي لأنفسنا ما لا نقبله حتى لأعدائنا: نجلس على موائد فخمة نلملم شتات ما يرمونه لنا من فتات، ونرضى، فيُعرضون.

طيف صيف شهد عودتنا لتصديق ما يقوله رجالنا، وشهد سقوط »مصداقية« إعلام العدو.

صيف لبنان بطل. يقول وينفذ، يقاتل ويصمد، يعد ويفي. لا يغامر بل يعد العدة لخطواته. لبنان بطل لا يستكين إلى المهانة التي تخلفها حكماً حسبة التشبث بالجماد.

لم يكن نصراً أعاد فلسطين. لكن يمكن له أن تكون خطوة أولى على الطريق، لولا أن....

لولا أن في لبنان، لبنان كيس التسوق، من راهن على انتصار العدو، وجيّش جمهوره حاشراً صورة ذلك الصيف في إطار شيعي. لبنان كيس التسوق رأى أن العدو أرحم من ذلك الفريق الغيبي الفارسي المسلح للفتك... بكيس التسوق.

لبنان كيس التسوق يصنف أبناء قرى الجنوب الذين دافعوا عن ديارهم بالمرتزقة المأجورين، تماماً كما آبائهم وأجدادهم الذين قاتلوا على الأرض ذاتها منذ العام .١٩٤٨ شيوعيون، قوميون، منضوون تحت ألوية الفصائل الفلسطينية المتعاقبة: مرتزقة مأجورون. الدليل: ها هم أسراهم، وبقايا أسراهم، يعودون في صفقة التبادل ذاتها.

لبنان كيس التسوق متحالف مع عرب يريدون للبنان أن يكون في قلب الأمة وعينها: من سواه سيتولى مهام الترفيه، والتهريب، وتبييض الأموال، وغيرها؟

لبنان كيس التسوق يرى أن الموقف من إسرائيل هو وجهة نظر. ما لنا نحن وفلسطين؟ لبنان البندقية لا يرى إلا فلسطين، قضية العرب المركزية، كانت ومازالت وستبقى. لبنان البندقية يسأل: ومن عربا أكثر منا؟

لبنان كيس التسوق يفضل السياسة على البندقية. لا يقرأ، لا يعرف أن البندقية تخدم السياسة والعكس. صار بعيداً ربيع العام ،١٩٩٦ لما أكملت السياسة ما بدأ بالبندقية. عدنا إلى عصر تجهز فيه السياسة على ما أنجزته البندقية.

مر عامان. عامان من المساعي الدؤوبة لحشر الصورة البهية في الإطار الضيق، لجرجرة الأبطال إلى متاهة الأزقة الداخلية، لاستدراج البندقية إلى الهدف الخطأ. فشل العدو في القضاء على المقاومة. لبنان كيس التسوق وحلفاؤه يعملون على إنجاز المهمة، بمساعدة قرار دولي أقفل الرئة الجنوبية للمقاومة بهدف الإمعان في طمسه في الداخل.

مر عامان والخنجر الذي أغمد في خاصرة البطل في عز الحرب مازال ثابتاً ينكأ الجراح.

مر عامان. عامان على ذلك الصباح لما وقف بطل من بلادي، يرفع سبابته وهو يقول »الأسيران الموجودان لدينا لن يعودا إلا بوسيلة واحدة، التفاوض غير المباشر والتبادل.. والسلام«. مر عامان، وها هم أسرانا على وشك عبور بوابة الوطن.

مر عامان على رحيل شهداء وعشرات العقود على رحيل آخرين. بعد أيام يعود من لم يدفن بعد منهم ليعانق تراب أرضه.

مر عامان على الدمار الرهيب. وها هي الضاحية النوارة تستعيد يوماً بعد يوم معالمها »أجمل مما كانت«. ها هي الحياة تعود لتنتصر على الموت والخراب بالإعمار، على الرغم من العرقلة المقصودة والتأخير والإهمال.

مر عامان والحرب على المقاومة لما تنته بعد. مر ستون عاما والحرب على المقاومة لم تتوقف يوماً.

مر عامان على الحرب الأخيرة. لم ننس.

تعليقات: