صناعة الجهل في القرن الحادي والعشرين: الاستراتيجيات والأهداف


بات امتلاك المعرفة ومصادر المعلومات من الحقوق التي تعتبر أساسيّة وحقًا للجميع باعتباره قوة كبيرة تفوق قوة المال والعتاد، فقد كان هناك دوما ومنذ العصور القديمة من يحاول التحكم بها ونشرها وفق ما يخدم مصالحه وتوجهاته، ولهذا تأسّس ما يسمى بمجال " إدارة الفهم" أو "الادراك" perception management


في الأوساط الاكاديمية والسياسية.

وتعتبر وزارة الدفاع الأميركية أول من بدأ بنشر هذا المفهوم وعرّفته بأنه "نشر معلومات أو حذف معلومات بهدف التأثير على تفكير الجمهور، والحصول على نتائج يستفيد منها أصحاب المصالح"، ولان النشر والحذف يتطلبان أساليب دقيقة ومعرفة تامة بعلم النفس والسلوك والادراك فقد قام "روبرت بورتكور" Robert proctor وهو باحث مختص بتاريخ العلوم من جامعة ستانفورد بصياغة ما يعرف بعلم الجهل الانتولوجي، وهو العلم الذي يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية رصينة، وهو نقيض الأول الذي هو ادارة الفهم ونتيجة لهُ، لكن في المحصّلة يظلّ الهدف الأساسي منهما واحداً، وهو تضليل الشعوب والتحكم فيها.


ما هو علم الجهل؟

يعدّ علم الجهل فرعاً من فروع العلوم السرية وهو علم يدرس غرس ثقافة الجهل أو الشك او الوهم، ويجري من خلاله نشر بيانات خاطئة ومخطَئة او غير كاملة، وتمتد جدور هذا المصطلح الى الاغريق الكلاسكيين فهو مصطلح مركب منحوت من كلمتين هما: الكلمة اليونانية اغنوسيس agnosis التي تعني عدم المعرفة، وكلمة انتولوجيontology وتعني علم الوجود ويقصد به دراسة الافعال المتعمدة والمدروسة التي تهدف الى نشر التضليل وخلط الامور لكسب التأييد او بيع منتج ما.

وقد تعامل المؤرخون مع مصطلح الجهل على أنه حالة ممتدة لا تقف عند حدّ، والذي من خلاله يتم امتصاص المعرفة والجهل، فهو حالة معقدة وفي نفس الوقت حالة مميزة ومتغيرة جغرافيا وسياسيا، والجهل يشكل المؤشر الجلي لسياسة المعرفة وقد قيل "نحن نريد سياسة الجهل لنمارس بها سياسة المعرفة".

وقد تطور مفهوم الجهل بتطور الحياة وبظهور التكنولوجيا وتقدم المعرفة والبحث العلمي ليأخذ حيزا أكبر في مختلف المجالات، فعام 2004 اعطت londa schiebingerتعريفا اكثر دقة بشأن الجهل عبر ورقة تطرقت فيها الى اسئلة تدور حول : كيف لنا ان نعرف ؟ how we knowفي الوقت الذي تثار فيه جدلية تقول لماذا علينا أن نعرفwhy we do not know? فالجهل لا يعني غياب المعرفة ولكن هو أحد مخرجات صراع الحضارة السياسية.

بعدها سنة 2010 تم تقديم ورقة من طرف mechael Betancourt ناقشت اللامادية للقيمة في الرأسمالية الرقمية، وقد توسع بشأنها النقاش عبر كتاب the critique of digital capitalim، وتم التركيز فيه حول فقاعات الاسكان وفقاعات الاقتصاد بين عامي 1980 و2008، وهو صاحب مقولة "إن الاقتصاد جاهل، كونه (الاقتصاد الراسمالي) يخلق الفقاعات الاقتصادية".

كما ظهرت كلمة اخرى مشتقة من جذور الكلمة الاغريقية وهي anyoilogy تحدد نوع الجهل وظروفه والتي تعني: علم دراسة الجهل او تعبر عن النظرية التي تعني بتلك الاشياء التي نجهلها الى جانب كونها تعبر عن فرع من فروع الفلسفة التي درسها ferriere james friederick في القرن التاسع عشر.

أما مصطلح ainigmologyفهو مصطلح آخر للجهل تحدث عنه glenn stoneمن زاوية علم الانسان anthropology حيث ان غالبية الامثلة الخاصة بالجهل مثل الترويج لشراء الدخان, والترويج لطبقة الاوزون , او الاحتباس الحراري، لا تؤثر في نقص المعرفة الا انها تثير الارباك. وان مصطلح ainigmology هو اكثر الترجمات المعبرة عن الجهل وهو مأخوذ من مصدر المصطلح ainigmaوالتي تعبر عن المعنى الصحيح للجهل لذلك قال stone ان هندسة الجينات generic engineering هي بحد ذاتها جهل لان المنظمات على اختلاف انواعها والتي تملك حقوق الملكية بشان هندسة الجينات لا يمكن لها ان تمنع العلماء من اجراء البحوث بخصوص تركيبة البدن الانساني


تاريخ علم الجهل

أول من ابتكر مصطلح علم الجهل هو المؤرخ والاستاذ في جامعة ستانفورد "روبرت بروكتور" Robert n.proctor بالتعاون مع خبير اللغويات "ايان بوال" عام 1995، والذي كان حصيلة عقود قضاها بروكتور في دراسة الالية التي تنتهجها الشركات الكبرى في ترويج الجهل وتعزيزه لبيع منتجاتهم، فقد كانت تنفق المليارات بهدف التعتيم على حقائق الاثار الصحية للتدخين وعلاقته بالسرطان، مدفوعا بتسريب مذكرة سرية كتبتها شركة التبغ "براون اند ويليامسون" تصف فيها الاساليب التي تستعين بها شركات التبغ الكبرى في محاربة هيئات وجمعيات مكافحة التدخين، اذ ورد في احدى صفحاتها آلية ترويج السجائر للعامة من خلال اتباع منهجية زرع الشك بصفته أقوى سلاح في تفنيد الحقائق والتعتيم عليها واحداث البلبلة، ومن حينها انطلق لوبي التبغ في أميركا لرعاية ابحاث علمية مزيفة هدفها تحسين صورة التبغ اجتماعيا، ونشر الجهل حول مخاطره، ولم يقف التجهيل والتضليل عند فضيحة شركات التبغ بل ما يزال يمارس منهجيا في تحريف المعلومات بما يخدم المصالح الكبيرة لحكومات أو شركات او جهات سياسية او غيرها ممن لهم اهداف لتوسيع نفوذهم والهيمنة اقتصاديا أو سياسيا أو اجتماعيا او عسكريا. يقول بروكتور: "كنت اعكف على استكشاف كيفية نشر الشركات القوية للجهل من اجل بيع منتجاتها، الجهل قوة كبيرة، ويتعلق المصطلح الجديد بإشاعة الجهل عن سبق الإصرار، وبدراسة ذلك اكتشفت اسرار عالم العلوم السرية، وبت على قناعة بان على المؤرخين منح هذا الامر اهتماما اكبر".

وكما ان لنشر العلم اجواؤه ومناخه ووسائله، كذلك يحتاج نشر الجهل ايضا لنفس الامر، وأفضل وسيلة لذلك هو خلق مناخ يتم فيه التشجيع والحث على النقاش او حتى الصراع على شرط ان يكون متكافئا ومتوازنا بين فكرتين او جبهتين، وان لا يسمح لأحدهما بالتفوق والغلبة على الاخر، بل الابقاء على حالة التكافؤ بين وجهتي النظر، لتكون النتيجة في الغالب هي غياب النتيجة، وهذا هو المطلوب كما أكد بروكتور.

وعليه فصناعة الجهل او علم الجهل او ادارة الفهم او الادراك كلها مسميات لعلوم تقنية خلقت كلها بهدف واحد مع اختلاف وسائلها ومجالاتها وتاريخ ظهورها... لكن يضل اهم جزء فيها هو انتاج معلومات مزيفة ونشرها على انها حقائق، ومحو حقائق ثابتة معتبرا انها مزيفة، وتعتبر من اهم الادوات التي يستخدمها الحاكم المستبد والسلطات المهيمنة من اجل تطبيق مبدأ التجهيل وأدراه الأفهام الإنسانية، كمنهج لتحويل الشعوب الى مجرد قطيع خانع وتابع وضائع.


الاستراتيجيات العشر المعتمدة في التحكم بالشعوب

ازدادت خطورة علم الجهل مع ظهور ثورة وسائل التواصل الاجتماعي واستخدامها في الوصول الى لاوعي المستخدم بتزييف الحقائق بقالب علمي مواز ظاهريا، ومن أبرز القضايا التي يستخدم التجهيل في تنفيذها انكار التغير المناخي، والاحتباس الحراري، وسابقا تشبيه حدّ الاعتماد المالي في استراليا بحدّ الاعتماد المالي في اليونان على الرغم من تباين الوضع الاقتصادي في البلدين. فكل ما يقال في الإعلام لا يمكن تصديقه، ولا النظر اليه على انه يمثل الحقيقة الكاملة فكثير من الحكام واصحاب السلطة يخفون اجنداتهم وخططهم الحقيقية باستخدام الاعلام والدعاية فهما يلعبان دورا مهما في خلق الراي العام، فبفضلهما يتم تأجيج الخلافات الايدولوجية والطائفية والعرقية والدينية والحزبية المختلفة، كذلك تبرر الحروب وتبسط او تفشل بعض الازمات الاقتصادية، تنشأ وتهدم حركات وثورات اجتماعية.

لقد قام المفكر "نعوم تشومسكي" ببلورة عشر استراتيجيات يسلكها الاعلام الموجّه لإحداث التأثيرات النفسية واستخدام ادوات مهينة في حق الانسان باستغبائه، وهو استند في كشفه لتلك الاستراتيجيات إلى وثيقة سرية يعود تاريخها الى أيار 1979 وتم العثور عليها سنة 1986 تحمل عنوان "الاسلحة الصامتة لخوض حروب هادئة " وهي عبارة عن كتيب او دليل للتحكم في البشر والسيطرة على المجتمعات وهذه الاستراتيجيات هي:

1. الإلهاء: وهو عنصر أساسي في التحكّم بالمجتمعات، ويتمثل في تحويل انتباه الرّأي العام عن المشاكل الهامّة والتغييرات التي تقرّرها النّخب السياسية والاقتصاديّة، ويتمّ ذلك عبر وابل متواصل من الإلهاءات والمعلومات التافهة، وإستراتيجيّة الإلهاء ضروريّة أيضا لمنع العامة من الاهتمام بالمعارف الضروريّة في ميادين مثل العلوم، الاقتصاد، علم النفس، بيولوجيا الأعصاب وعلم الحواسيب، وفق "حافظ على تشتّت اهتمامات العامة، بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، واجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقيّة، اجعل الشعب منشغلا، منشغلا، منشغلا، دون أن يكون له أي وقت للتفكير" (من: أسلحة صامتة لحروب هادئة(.2. ابتكار المشاكل.. ثم تقديم الحلول: وتسمى هذه الطريقة أيضا" المشكل – ردّة الفعل – الحل". في الأول نبتكر مشكلًا أو "موقفا" متوقــعا لنثير ردّة فعل معيّنة من قبل الشعب، وحتى يطالب هذا الأخير بالإجراءات التي نريده أن يقبل بها، مثلًا: ترك العنف الحضري يتنامى، أو تنظيم تفجيرات دامية، حتى يطالب الشعب بقوانين أمنية على حساب حرّيته، أو ابتكار أزمة مالية حتى يتمّ تقبّل التراجع على مستوى الحقوق الإجتماعية وتردّي الخدمات العمومية كشرّ لا بدّ منه.3. التدرّج: لكي يتم قبول إجراء غير مقبول، يكفي أن يتمّ تطبيقه بصفة تدريجيّة، مثل أطياف اللون الواحد (من الفاتح إلى الغامق)، على فترة تدوم 10 سنوات، وقد تم اعتماد هذه الطريقة لفرض الظروف السوسيو-اقتصاديّة الجديدة بين الثمانينات والتسعينات من القرن السابق: بطالة شاملة، هشاشة، مرونة، تعاقد خارجي ورواتب لا تضمن العيش الكريم، وهي تغييرات كانت ستؤدّي إلى ثورة لو تمّ تطبيقها دفعة واحدة.4. المؤجَّل: وهي طريقة أخرى يتم الالتجاء إليها من أجل إكساب القرارات المكروهة القبول وحتّى يتمّ تقديمها كدواء" مؤلم ولكنّه ضروري"، ويكون ذلك بكسب موافقة الشعب في الحاضر على تطبيق شيء ما في المستقبل. قبول تضحية مستقبلية يكون دائما أسهل من قبول تضحية حينيّة، أوّلا لأن المجهود لن يتم بذله في الحين، وثانيا لأن الشعب له دائما ميل لأن يأمل بسذاجة أن "كل شيء سيكون أفضل في الغد"، وأنّه سيكون بإمكانه تفادي التّضحية المطلوبة في المستقبل، وأخيرا، يترك كلّ هذا الوقت للشعب حتى يتعوّد على فكرة التغيير ويقبلها باستسلام عندما يحين أوانها.5. مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال صغار: تستعمل غالبية الإعلانات الموجّهة لعامّة الشعب خطابا وحججا وشخصيات ونبرة ذات طابع طفولي، وكثيرا ما تقترب من مستوى التخلّف الذهني، وكأن المشاهد طفل صغير أو معوّق ذهنيّا، كلّما حاولنا مغالطة المشاهد، كلما زاد اعتمادنا على تلك النبرة، لماذا؟ "إذا خاطبنا شخصا كما لو كان طفلا في سن الثانية عشر، فستكون لدى هذا الشخص إجابة أو ردّة فعل مجرّدة من الحسّ النقدي بنفس الدرجة التي ستكون عليها ردّة فعل أو إجابة الطفل ذي الإثني عشر عاما". (من: أسلحة صامتة لحروب هادئة). 6. استثارة العاطفة بدل الفكر: استثارة العاطفة هي تقنية كلاسيكية تُستعمل لتعطيل التّحليل المنطقي، وبالتالي الحسّ النقدي للأشخاص، كما أنّ استعمال المفردات العاطفيّة يسمح بالمرور للاّوعي حتّى يتمّ زرعه بأفكار، رغبات، مخاوف، نزعات، أو سلوكيّات.7. إبقاء الشّعب في حالة جهل وحماقة: العمل بطريقة يكون خلالها الشعب غير قادر على استيعاب التكنولوجيات والطّرق المستعملة للتحكّم به واستعباده، "يجب أن تكون نوعيّة التّعليم المقدّم للطبقات السّفلى هي النوعيّة الأفقر، بطريقة تبقى إثرها الهوّة المعرفيّة التي تعزل الطّبقات السّفلى عن العليا غير مفهومة من قبل الطّبقات السّفلى" (من: أسلحة صامتة لحروب هادئة).8. تشجيع الشّعب على استحسان الرّداءة: تشجيع الشّعب على أن يجد أنّه من "الرّائع" أن يكون غبيّا، همجيّا وجاهلا.9. تعويض التمرّد بالإحساس بالذنب: جعل الفرد يظنّ أنّه المسؤول الوحيد عن تعاسته، وأن سبب مسؤوليّته تلك هو نقص في ذكائه وقدراته أو مجهوداته، وهكذا عوض أن يثور على النّظام الإقتصادي، يقوم بامتهان نفسه ويحس بالذنب، وهو ما يولّد دولة اكتئابيّة يكون أحد آثارها الإنغلاق وتعطيل التحرّك، ودون تحرّك فلا وجود للثورة.10. معرفة الأفراد أكثر ممّا يعرفون أنفسهم: خلال الخمسين سنة الماضية، حفرت التطوّرات العلميّة المذهلة هوّة لا تزال تتّسع بين المعارف العامّة وتلك التي تحتكرها وتستعملها النّخب الحاكمة، فبفضل علوم الأحياء، بيولوجيا الأعصاب وعلم النّفس التّطبيقي، توصّل "النّظام” إلى معرفة متقدّمة للكائن البشري، على الصّعيدين الفيزيائي والنّفسي، أصبح هذا "النّظام” قادرا على معرفة الفرد المتوسّط أكثر ممّا يعرف نفسه، وهذا يعني أنّ النظام – في أغلب الحالات – يملك سلطة على الأفراد أكثر من تلك التي يملكونها على أنفسهم.


أدوات نشر الجهل


· بعض وسائل الاعلام:

وسبقت الاشارة اليه فهو اداة خطيرة من خلالها يتم صناعة كيانات اعلامية موجهة، تتبنى لغة خطاب واحد ومتكرر، لترسيخ الفكرة المراد نشرها في الاذهان فهو بمثابة مشروع جهات ذات نفوذ يعتمد على استخدام رموز مهمة بالمجتمع للاستفادة من شعبيتهم في ذلك


· نخبة سياسية مصطنعة:

حيت يتم تكوين كيانات سياسية تابعة ولها ولاء تام، تقوم بالتأصيل السياسي والتشريعي لماتريده تلك الجهات ذات النفوذ القوي لتكون الذراع السياسي في معركتها ضد العدو.


· مستغلو الخطاب الديني:

حيث يتم استخدام مجموعة من رجال الدين الذين تتم صناعتهم واستقطابهم، هدفهم الاساسي تطويع بعض النصوص الدينية وجعلها حجة ودليل لتبرير مواقف معينة بغرض التأثير على العامة.

وبهذا فعلم الجهل يستخدم في عالم التجارة والتسويق والدعاية الى غيرها من المجالات الحياتية المختلفة للتاثير والتحكم بتفكير الجمهور من اجل تسويق توجهات سياسية معينة والترويج لها ليتم اقناع الشعوب بها، حيث يعتمد ذوو النفوذ في ذلك على ثلاثة امور مهمة وهي:

1. بث الخوف لدى الاخرين من عدو مفترض.

2. ترتيب الاولويات وفقا لمعركة وهمية.

3. وضع معايير مضللة لحالة النجاح المطلوبة.

فالبداية تبدأ من افتراض الجهات ذات النفوذ ومن يواليها ان هناك عدو يتربص بالبلاد وهو في الاغلب كل من يعارض ويعترض على مواقف او اخطاء هذه الجهات، حيث يتم حشد الراي العام بخطورة هذا العدو المفترض وان مواجهته تستدعي توحد الجميع خلف هذه الجهات، وان ترتيب الاولويات يستدعي عدم الحديث عن اي حريات او انجازات او حل مشاكل او رفع مستوى المعيشة، ولكن ترتيب الاولويات يستدعي فقط الوقوف خلف تلك الجهات ذات النفوذ لمواجهة هذه التحديات, لتتحول بعد ذلك معايير النجاح من انجازات وحريات الى مدى نجاحها في مواجهة التحديات والبقاء على الدولة، مع ابقاء الوضع على ما هو عليه.


ماذا بعد؟

إن الجهل في عالمنا الرقمي ليس مجرد انعدام المعرفة بالأشياء، وانما هو معرفة كيفية تصنيع الجهل وتسخيره لاهداف تجارية او مالية او سياسية أو عسكرية فيتم توزيعه عن طريق ادوات ترتبط بالعلاقات العامة والتي تعتبر المجال الاساسي والاصلي لصناعة الجهل، فهذا المجال هو الابن الاصيل للحكومة الامريكية على حد تعبير تشومسكي فعن طريق لجانه تم تضليل الرأي العام الامريكي والزج به في الحرب العالمية سابقا وغزو العراق لاحقا، بما كان يعرف باسم لجنة الاعلام الامني والذي يسير عل خطط ممنهجة تستند على اساسيات علم الجهل من خلال القنوات الثلاث او ما أشرنا اليه سابقا باسم ادوات علم الجهل.

ونجد الى جانب العلاقات العامة فن التسويق والاعلان والاعلام واستعمال كافة وسائل الاقناع التي تعد من الوسائل التي سخرت في استخدام وتطوير صناعة علم الجهل سواء في الاوساط الامريكية او الاوربية او العربية.

فمعاناة اغلب الدول خاصة هذه الاخيرة الغارقة في الوحل حتى النخاع، ووصول هذه المجتمعات الى حالة متردية في كل المجالات، بسبب صناعة علم الجهل الذي بات سلعة يومية تنشر وتساق على الشعوب من جهات ذات نفوذ ومصالح، والصمود امام كل هذه القوى يتطلب منا جهودا ذاتية ووعي مستقل يبحث عن الحقيقة بعيدا عن العاطفة والامنيات والاحلام.

ما نحن بصدده كارثة انسانية بل اعتبرها جريمة في حق الانسان فعندما نستغل تفكيره على اعتباره وعاء فكري معرفي يستقبل معلومات ويلغي معلومات من خلال قناعاته ومبادئه وايديولوجياته وحريته، ونقوم بإلغاء كل هذه البنية المعرفية الثقافية للانسان بتحويل العلم وكل ما يتصل بالمعلومات والبيانات بواقعنا الورقي كان او الرقمي الى سلاح وأداة تلغي الانسانية داخل الشخص، تقتل ملكة العقل الحر في التعبير بالرفض او القبول عن مواقفه في الحياة، تفرغ كيانه من الابداع والابتكار بتحويله الى مجرد تابع وخاضع لمشروع خطير لا يهمه الا اعطاء الاولوية لمصالحه ولو على حساب فئة أخرى، للقضاء على الية النقد الذاتي البناء الذي يصنع الانسان والاجيال، ومثل ما تدار افهام البشر على هذه الارض الكبيرة بيد مجموعة من الانانيين العديمي الانسانية وهوسهم في تضليل الآخرين عن الحقيقة وجعلهم مجرد قطيع تابع لا حول له ولا قوة.

لابد لنا من النهوض مما نحن فيه وفتح بصيرتنا لنرى الخطر الذي يهدد اجيالنا المستقبلية فيكفي ان نجيب على هذه الاسئلة لنعرف من اين الخلاص لما يحاك لنا من وراء الكواليس.

· كيف نسينا النواميس الالهية واضعنا سنة الله في اقوالنا وافعالنا، واضعنا الاخلاق الكونية التي بها تولد الحضارات؟

· كيف يتم اخراس وقمع المعارضة المثقفة والعلماء، وتشويه سمعة كل مثقف او عالم شريف وتلفيق تهم الفساد والعهر لافقاد الناس الثقة بهم او اغتيالهم؟

· كيف يتم توظيف تقنية اللعب على الغرائز والعواطف في الاعلام والاتصالات والانترنت والالتفاف على التفسير العقلاني الواقعي مقابل الغيبي؟

· كيف يتم افتعال الازمات الاقتصادية والاجتماعية، مع وجود حلول لها، فقط لارغام الناس على قبول حلول صعبة ولو على حساب حقوقهم الاجتماعية وتعطيل الخدمات؟

· كيف يتم اقحام الدول والجهات الخارجية والتدخل بقرارت مصيرية للشعوب دون وجه حق؟

· كيف يتم توفير غطاء لشرعنة الحروب بداواعي تاريخية او جيوسياسية... وتخريب مجتمع كامل وتشريد ابنائه؟

· كيف يتم توهيم الناس بصناعة حقائق معينة والتسويق لها باسم الدين او ايدولوجية معينة؟

· كيف يتم استغلال النزعات الطائفية والمذهبية والعرقية، لتفجير الدول من الداخل وزعزة المؤسسة الامنية فيها واحداث الفتن والبلبلة؟

· كيف يتم شل الدول بمؤسساتها المختلفة، ونشر سياسة تجويع المجتمعات لضرب البنية التحتية للسيكولوجيا المجتمعية؟

· كيف يتم استغباء المجتمعات واضفاء الديموقراطية على قرارات مصيرية وتمريرها؟

· ماهو الغزو الثقافي وكيف بدأ، وما علاقته بالحروب الناعمة التي حلت محل الحروب العسكرية؟

ثمّة كثير من الشواهد التي لابد من إعادة النظر بشأنها حتى يتم توظيفها لما فيه مصلحة العامة، وحتى ننور بصيرة المجتمعات بما يحصل لها من استغباء، ووأد عذرية عقول أجيالنا: الربيع العربي، داعش، صناعة السجائر على سيقان السيدات، برامج حوارية واكتشاف المواهب وصناعة النجوم.. والمخفي أعظم فما نعيشه ونتعايش معه ليس أمرا طبيعيا فمجتمعاتنا تم تحويلها الى مفاقس كبيرة لتوليد الانحراف والجهل وكل ما هو مخالف للطبيعة البشرية.


*بوشرى إحساسا (أديبة وكاتبة صحفية مغربية)

تعليقات: