ابراهيم الأمين: الموت النهائيّ


في كلّ مرة تنفلت فيها عواطف الناس العاديين، يتبدّل شكل الاصطفاف التلقائي لدى هؤلاء. خرج سعد الحريري من الحياة السياسية أم لم يخرج، ورغبةً منه أم غصباً عنه، يبقى الرجل محطّ آمال قسم كبير من جمهور والده. وهو جمهور موجود في لبنان، وسيكون صعباً على أحد ادّعاء القدرة على وراثته أو استمالته في وقت قريب. إلى حدّ يصحّ فيه وصف ما يقوم به بهاء الحريري بأنه لهو صبيّ لن تكون له قامة.

المسألة، هنا، لا تتعلق بما قام به سعد الحريري. مؤيّدوه يغفرون له كل ما يمكن اعتباره «أخطاء». لا يهم هؤلاء أي محاسبة. وهم حاسبوه بأن تعاطفوا معه بصمت، ولم ينتفضوا لكرامته يوم سجنه محمد بن سلمان، وهو أقسى ما يمكن أن يتعرّض له زعيم سياسي. صحيح أنه لم يكن ليطلب منهم حرق السفارة السعودية في بيروت، لكن ليس سهلاً أن يمتنع كل هؤلاء عن إصدار بيان أو موقف، أو إطلاق حتى هتاف ضد ما فعلته السعودية بالرجل. وحتى عندما صبّوا جامّ غضبهم على شركاء الحريري الداخليين، بالغوا في ذلك، لأنهم غير قادرين، أو لا يريدون، تحميل السعودية مسؤولية جزء كبير من مآسي الزعيم الشاب. ما حصل، فعلياً، هو أن جمهور سعد يريده كما هو، ظالماً أو مظلوماً، ولا يريدون خوض حرب لا يريدها.

وقف لبنان أمس أمام ذكرى اغتيال رفيق الحريري. من اعتبروا أن حقّهم وصلهم بما انتهت إليه المحكمة الدولية، ومن يريدون الانتقام له، ومن يرغبون باستمرار المتاجرة بدمائه، كلّ هؤلاء أُسقط في يدهم لحظة قرّر سعد الحريري إقفال البيت حداداً واعتكافاً واعتزالاً. قدرة الرجل على الصمت تحتاج إلى تأمّل، ويمكن الاعتقاد بقوّة، أنّ السعودية لو قرّرت دقّ النفير لكسر نتائج الاعتزال، لن تقدر على تغيير الوقائع من دون الاستعانة بالرجل نفسه. لن يجد آل سلمان عاقلاً أو ذا اعتبار يمكنه ادّعاء تجاوز قرار سعد والسير قدماً. ثمّة خيط مفقود لدى أولي الأمر في الرياض. هو الخيط الذي لا يزال يربط سعد بناسه.

لكنّ القصة لا تقف هنا. ثمة مشهد آخر يجب لفت النظر إليه. ويجب فهم ما يجري دون اعتبار النقد شماتة، والقراءة نكأً للجراح، والتقييم دعوة الى الخراب.

17 سنة مرّت على اغتيال الحريري، 12 سنة منها مثّلت ذروة الاستثمار في دمائه. إلا أن النتيجة التي وصل إليها المريدون أو المستفيدون مما حصل، يمكن اعتبارها اليوم مجرد صفر لا معنى له.

تكفي مراجعة ما قاله الأقطاب والأنصار والمقربون والمعلّقون والسياسيون من فريق 14 شباط، ليدرك المرء حجم الهزيمة القائمة. ليس في كل النصوص سوى الرثاء والشكوى. لا أحد يتحدث عن رفيق الحريري اليوم مع إشارة أمل إلى أن هناك ما يعيد الحياة إلى المشروع. الأصوات خافتة حتى كأنها تُطلق على حياء. الانتهازيون فقط هم من يرفعون الصوت عالياً. ربما يمثل سمير جعجع وفريقه ذروة الوصولية وهو يتحدث عن ذكرى الحريري وكأنها تخصّ مشروعه الفعلي. حتى فعل الشراكة في الموت الذي يمارسه وليد جنبلاط لا يمكن ربطه بمشروع يبتعد عن غاية الزعيم الدرزي بالمحافظة على ما تبقّى من رصيد. أما رفاق الحريري الفعليون، ممن آمنوا به وعملوا معه واستفادوا من نفوذه وكان لهم نصيبهم من إرثه، وواصلوا الطريق مع سعد، فإن أفضل من عبّر عنهم كان باسم السبع الذي لم يجد سوى أن يواسي الراحل لا أن يواسي نفسه بما وصلت إليه الأمور. وهو قال كلاماً قاسياً بحق كل من يريد الاستثمار بصورة خاطئة. أشار بالاسم إلى بهاء. لكنه عاد وحمّل الخصوم المسؤولية عما وصلت إليه الأحوال. لكنّ المفارقة في أن ما قاله السبع، إنما يعكس حال الحلقة الأكثر التصاقاً بمشروع الحريري الأب ونسخة الحريري الابن. وهي الحالة التي آلت إلى نهايات مبكرة، فيها الكثير من عناصر المأساة.


لن يجد آل سلمان عاقلاً أو ذا اعتبار يمكنه ادّعاء تجاوز قرار سعد والسير قدماً

اليوم، يمكن لمن يريد فهم النتائج السياسية لهذه الحقبة من تاريخ لبنان أن يراجع الأرشيف الصحافي فقط، ويعيد قراءة ما كُتب وما نودي به منذ 15 شباط 2005 حتى الأمس القريب، ليدرك أن من قرّر قتل الحريري أو مشروعه نجح في فعلته أخيراً. أمس، بدا الموت كأنه نهائي. وما بقي منه مجرّد عواطف وإرث ضئيل لا يُصرف في سوق الإحباط الشامل. لكن للمشكلة وجهها الآخر عند الذين يفرحون لنهاية مشروع الحريرية. هؤلاء، بكل بساطة، لا يمكنهم التصرف وكأن الخسارة محصورة بقسم من الناس أو فريق من السياسيين. هي خسارة تُلقي بظلها على كل البلاد. والسؤال الذي يجب أن يُقلق خصوم الحريري أكثر من مريديه هو: ماذا عن الغد؟

قد يكون ضرباً من الجنون انتظار مراجعة من قبل فريق الحريري نفسه أو من الذين استثمروا في دمائه. لكن سيكون من العقل أن يلجأ الآخرون إلى مراجعة تستهدف وصل ما انقطع، وبناء ما يمكن أن يصلح أساساً للتفاعل بين الناس من تحت. بين الذين يبكون الحريري الأب والحريري الابن معاً، وبين الذين هالهم ما حصل، وإن كانوا غير مسؤولين عنه. إنه الأساس الذي يحتاج إليه مشروع إحياء الاستقرار الأهلي ولو لفترة من الزمن.

أما الذين يدّعون التغيير، بكل صنوفهم وخيالاتهم وشعاراتهم، فليسوا في حقيقة الأمر سوى التورية التي تحتاج إليها السياسة اللبنانية في مرحلة إعادة إنتاج نفسها. وما التفكير في أن الانتخابات النيابية المقبلة ستفتح الباب للتغيير إلا فعل كذب، كمن يبيع الوهم القاتل لما بقي من أمل عند الناس. كلّ هؤلاء، ليسوا سوى فقاعة، تنتظر من يزيحها برمية نرد واحدة!

تعليقات: