الفن في لبنان من الانتداب الفرنسي إلى الاستقلال

قيصر الجميل، المستحمات
قيصر الجميل، المستحمات


في نهاية 1974، وتحت عنوان "الفن المعاصر في لبنان" صدر في بيروت كتاب باللغتين الفرنسية والإنكليزية عرض فيه إدوار لحود سيرة أربعين فناناً تشكيلياً بحسب الترتيب الزمني، أولهم داوود قرم وحبيب سرور وخليل الصليبي، مع مقدمة من سبع صفحات تختزل تاريخ هذه الفن انطلاقاً من القرن السابع عشر. بعد هذا المجلد، توالت الإصدارات الخاصة بالفنون الجميلة في لبنان، وتضاعف عددها في العقدين الأخيرين، وآخرها بحث مميّز صدر حديثا عن "دار كتب" تتناول فيه مهى عزيزة سلطان تاريخ "الفن في لبنان، من الانتداب الفرنسي إلى الاستقلال (1920-1943).

أصدرت مهى عزيزة سلطان في 2006 كتاباً بعنوان "رواد من نهـضة الفن التـشكيلي في لبنان، القرم وسرور والصليبي، 1870-1938"، وهو في الأصل دراسة أكاديمية جامعية، ويمكن القول إن كتابها الجديد يشكّل خير تكملة لهذا البحث. فهو يأتي في ثلاثة فصول، تسبقها مقدمة، وتليها خاتمة طويلة تختزل هذا البحث وتطرح الأسئلة العديدة التي تثيره. تنطلق الباحثة من زمن إعلان الانتداب، وتبرز التحولات والتقلبات التي عرفها المجتمع منذ تأسيس الكيان اللبناني في 1920، وما أثاره هذه التأسيس من إشكاليات جدلية.

تتجاوز الباحثة بلباقة ووعي، الصراعات القومية التي ظهرت إلى العلن منذ تشكيل لبنان، وتستشهد بالباحث فيليب حتّي الذي أقرّ بأن فرنسا "وجدت البلاد في أسوأ فترة من تاريخها"، وعمدت إلى حركة عمرانية واسعة ساهمت في نهضة هذا الكيان الفتيّ. في ذلك الزمان، برزت النزعة الفينيقية في مواجهة العصبية القومية السورية والعربية، واشتدّ الصراع على الهوية، لكن هذا الصراع لم يؤثر بشكل كبير على الفن. في الواقع، تبدو توجهات الفنانين واحدة تشكيليا، بالرغم من اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية والسياسية. دخلت "لوحة الحامل" بلاد العالم العربي في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وافتتنت بها السلطة الحاكمة والطبقة الأريستوقراطية، وشاركها في ذلك أعلام النهضة. بدأت مسيرة الرسم فعلياً تحت عنوانين رئيسيين: الحج إلى الغرب ومعاهده، والبحث عن تسجيل الملامح الوطنية في النتاج الفني. وحملت هذه الملامح الوطنية وجوهاً متعددة، منها الديني والجغرافي والتاريخي، غير أنها توحّدت فنيا بشكل كبير، إذ غلب عليها الطابع الأكاديمي الأوروبي بشكل لا لبس فيه.

في لبنان، ازدهرت هذه التجارب في ظل الانتداب، وبرزت في مرحلة إعمار بيروت وصعود الطبقة البورجوازية. سار الفنانون اللبنانيون على خطى الفنانين المستشرقين، ورسموا على طريقتهم، كما تشهد لوحاتهم، ومنها لوحة المَحمَل الشريف التي أنجزها فيليب موراني في 1932، وتصور "وداع الحجاج قبل انطلاق رحلتهم من دمشق، عاصمة الأمويين التي لُقّبت بباب الكعبة ومفتاحها، حاملين معهم الستارة المقدسة". بدأت إقامة الصالونات والمعارض الرسمية في بيروت منذ مطلع عهد الانتداب، وكان أولها معرض أقيم في ساحة البرج وافتتح في حضور الجنرال غورو في 1921. جمع هذا المعرض فنانين لبنانيين وفرنسيين، وشكّل انطلاقة لتقليد استمر بشكل ثابت في السنوات التالية. هكذا شهدت بيروت سلسلة من المعارض الجماعية، منها معرض نظمه الفنان اللبناني سعدي سينوي، أقيم في مبنى بورتاليس في شارع كليمنصو، وضم مجموعة من التشكيليين اللبنانيين والسوريين.


صدمة العري

تتوقّف مهى عزيزة سلطان أمام "صدمة العري" التي أثارتها أعمال يوسف الحويك وجورج قرم في 1921، ثم تنتقل إلى مرحلة التحولات وما حملته من مرارة ومعاناة تشهد لها الرسائل التي بعث بها خليل الصليبي إلى تلميذه قيصر الجميل يوم كان يتابع دراسته في باريس سنة 1927، كما تتقصّى خطوات الفنانين الأوروبيين الذي حطّوا في بيروت، والأثر الذي تركوه. إلى جانب هؤلاء، حلّت في لبنان مجموعة الفنانين الروس، منهم بوريس نوفيكوف الشهير بـ"رسام البحار" وبول كوروليف، "رسام الطوابع البريدية ومصمّم العملات اللبنانية والأوسمة والأوراق الرسمية منذ عهد الانتداب إلى ما بعد الاستقلال". في تلك المرحلة، نُصبت بعض تماثيل يوسف الحويك في الساحات العامة، منها تمثال الشهداء في ساحة البرج في 1930، وتمثال يوسف بك كرم في اهدن سنة 1932. أثار نصب الشهداء سجالا، ويُظهر البحث ان المواقف المعادية لعمل الحويك حملت "ابعادا سياسية بحتة تعود بجذورها إلى صداقته للأمير فيصل الذي نادى به المؤتمر السوري ملكاً على سوريا"، وأدت هذه المواقف في نهاية المطاف إلى إزالة النصب في 1959، واستبداله بنصب النحات الإيطالي مازاكوراتي.

افتتنت سائر أطياف المجتمع اللبناني بعالم الفن كما يبدو. احتفلت "جمعية الكشاف المسلم" بمصطفى فروخ في 1927، وهلّل له "أبناء العصر الجديد". انتقل لبنان من المعارض الفنية الجماعية إلى المعارض الفردية، وكان أولها معرض فروخ في الجامعة الأميركية، سنة 1929. في تلك السنة أنجز فروخ لوحته الشهيرة، "السجينتان"، وهي لوحة ذات طابع استشراقي تمثل امرأة عارية الصدر ترنو إلى عصفور كناري في قفص على عتبة نافذتها، استوحاها الفنان من لوحة لخليل الصليبي تعود إلى 1913. شكل "الجسد الأنثوي مجازا لاختراق المجتمع" بحسب تعبير فروخ، وعبّر عمر الأنسي عن هذا الموقف في لوحته الذائعة الصيت "في المعرض" سنة 1932، وجاءت هذه اللوحة "كبيان انتقادي ساخر في وجه التزمت البيروتي، ورفضه لفن العري، في مجاهرة صريحة للتباين الحاصل في الذوق الأوروبي المتمدن والذوق المحلي المحافظ"، كما تقول مهى سلطان.

عرض الأنسي هذه اللوحة في المعرض الذي أقامه في "مدرسة الصنائع والفنون" في 1932، "وفيها تظهر ست نساء محجبات متشحات بالأسود يتحلّقن حول لوحة معلّقة على جدار المعرض وقد صُدمن لأنها تصوّر عاريتين على شاطئ البحر، بينما يظهر في أعماق اللوحة لكأنه في غرفة ثانية من المعرض، رجل وامرأة يتحدثان بحماسة عن اللوحات المعروضة، ويرتديان لباسا أوروبيا عصرياً". وقد استعاد فروخ هذا المشهد بشكل مغاير في رسم كاريكاتوري معروف يعود إلى 1933. في الخلاصة، شغف عمر الأنسي بالعري كما شغف به قيصر الجميل، واحتل هذا الموضوع حيزا مهما من نتاجهما، كما احتل حيزا في نتاج العديد من الفنانين المعاصرين لهما، وبات تقليدا متبعا كما يستدل من قول أمين الريحاني في معرض أقيم في بيروت سنة 1940: "لا يتم معرض بدون العري".


الانطباعية اللبنانية

في توثيق منهجي متقن، يرصد هذا البحث المعارض التي أقيمت في "مدرسة الفنون والصنائع"، كما يرصد حركة المعارض التي أقيمت في تلك المرحلة، في رعاية عدد من الجمعيات التي أنشئت لهذه الغاية، ومنها "الجمعية الفنية" و"جمعية أصدقاء الفنون". شهدت هذه الساحة بروز عدد من الفنانات، أبرزهن بلانش لوياك عمون التي أقامت معرضا فرديا في السان جورج سنة 1938، وماري حداد، شقيقة ميشال شيحا، "رسامة البدويات" التي سطع نجمها قبل ان يقضي عليها ولاؤها للدكتور داهش، مؤسس الداهشية الذي اضطهد وسجن في عهد الرئيس بشارة الخوري.

انتقلت الأعمال الفنية اللبنانية إلى الخارج من خلال المعارض الكولونيالية والدولية في باريس ونيويورك، وتبلورت اتجاهاتها الفنية المتعددة. اتجه الحويك وجبران نحو الكلاسيكية الرومنطيقية، وبدا فيليب موراني مستشرقا من الشرق، وظل جورج قرم أمينا على ميراث والده. في المقابل، برزت الانطباعية المحلية مع مصطفى فروخ وقيصر الجميل وعمر الأنسي، وتميز صليبا دويهي بانتقاله تدريجيا من الكلاسيكية إلى الانطباعية إلى التوجهات الحديثة. في هذا الخضم، برز فنان فرنسي أقام في بيروت وحمل لواء الحداثة، هو جورج سير "الناقد والفنان المجدّد" الذي "أطلق ثورة الرسم في لبنان " بحسب تعبير حورج نقاش في 1960.

في قراءة نقدية خجولة لهذه الانطباعية المحلية، تقول الباحثة بأن هذه المدرسة ظهرت "بعد مضي ستين عاما على ظهور الانطباعية" كما أشار فيصل سلطان، وهي "مبسطة جدا كي لا نقول بدائية" كما كتب نزيه خاطر. في هذا السياق، رأى جوزف أبو رزق ان قيصر الجميل "تخلّى عن هم التشكيل ووحدة البناء لصالح العفوية، ومن الصعب، وفق معطيات رؤيته المنقادة إلى إلهامات الذاكرة، تعريف انطباعيته". في نهاية الأربعينات، ظهر جيل جديد من الفنانين تخلّى عن هذه الانطباعية بشكل كامل، فباتت جزءا من الماضي، غير انها لم تفقد بريقها، كما يُظهر هذا الكتاب.

عمر الأنسي، في المعرض، 1932
عمر الأنسي، في المعرض، 1932


مصطفى فروخ، السجينتان، 1929
مصطفى فروخ، السجينتان، 1929


صليبا الدويهي، منظر من دوما، أواخر الأربعينات
صليبا الدويهي، منظر من دوما، أواخر الأربعينات


فيليب موراني، المحمل الشريف، 1932
فيليب موراني، المحمل الشريف، 1932


الكتاب في نسختيه الغربية والفرنسية
الكتاب في نسختيه الغربية والفرنسية


تعليقات: