ترتبط التطوّرات الميدانية الأخيرة بتحرّكات سياسية موازية بدأها «الائتلاف المعارض» و»الحكومة المؤقتة» (أ ف ب )
يواصل أبو محمد الجولاني، بغطاء تركي، اشتغاله على اجتذاب جماعات من بين الفصائل التابعة لأنقرة، إلى صفّه، وآخرها جماعة «أبي عمشة» التي تُظهر انفتاحاً متزايداً على «هيئة تحرير الشام». وعلى رغم محاولة الفصائل من جهة، و»الائتلاف المعارض» من جهة أخرى، وقف مسار تغوّل الجولاني ضدّ مناطقها، إلّا أن هذا المسار يبدو أنه متواصل ومتسارع، بدفْع من تركيا التي تريد إخضاع مناطق نفوذها لقيادة موحّدة وقوية وموثوقة
دمشق | على مدار الشهرَين الماضيَين، تصاعدت الخلافات بين الفصائل التابعة لتركيا في ريف حلب الشمالي، على خلفيات عدّة، بعضها يتعلّق بالسيطرة على معابر التهريب وبعضها الآخر لأسباب وجودية. أزاح ذلك الستار عن ملفّات فساد مالي وأخلاقي، تمّ تصويب معظمها نحو جماعة «العمشات» التي تسيطر على مناطق عدّة في عفرين، أبرزها منطقة الشيخ حديد الحدودية، والتي أظهر زعيمها، «أبو عمشة» (محمد الجاسم، قائد «فرقة السلطان سليمان شاه»)، انفتاحاً متزايداً على «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة)، التي يتزعّمها أبو محمد الجولاني، الأمر الذي ضاعف مخاوف الفصائل المنتشرة في ريف حلب الشمالي من توسّع الجولاني.
آخر تطوّرات الصراع الفصائلي جاءت هذه المرّة عبر بوّابة حاولت الفصائل إضفاء طابع «شرعي» عليها، عن طريق تشكيل لجنة للتحقيق في انتهاكات «فرقة السلطان سليمان شاه»، أصدرت بدورها قرارات بـ»عزل أبو عمشة وخمسة قياديين آخرين من مناصبهم، بالإضافة إلى عدم تسليمه أيّ منصب قيادي من مناصب الثورة لاحقاً»، وهو قرارٌ قوبل بدعم كبير من تشكيلات عدّة، أبرزها «غرفة القيادة الموحّدة – عزم» التي تضمّ جماعات مختلفة، من بينها «هيئة ثائرون» التي تُعتبر «سليمان شاه» إحدى مكوّناتها.
وعلى رغم هذا التهليل الكبير، شكّكت مصادر معارضة في قدرة الفصائل على تطبيق قرارات «اللجنة»، في ظلّ القوّة الكبيرة التي يتمتّع بها «أبو عمشة» وفصيله مقارنة ببقيّة الفصائل من جهة، والعلاقة القوية التي تربطه بتركيا من جهة أخرى. وتجلّت تلك العقبات سريعاً في لقاء جمع بين قياديين من الفصائل وضبّاط أتراك، حذّروا من مغبّة الاقتراب من «أبي عمشة»، مع الأخذ في الاعتبار القرارات المتعلّقة بالقياديين الخمسة الآخرين، والذين سيتمّ إعفاؤهم ونقلهم إلى تركيا، الأمر الذي يفسّر تراجع «الحكومة المؤقّتة» عن تأييدها للقرار، بعد أقل من 10 ساعات فقط على إصدارها بياناً أكدت من خلاله دعمها له.
وبعيداً عن التفاصيل المتداخلة والمتشابكة للهيكلية الفصائلية، وتوزّع القوى في مناطق السيطرة التركية شماليّ سوريا، والتي تشهد تقلّبات وتغيّرات مستمرّة، تفتح التطورات الأخيرة الباب على مصراعَيه أمام اشتداد الصراع الفصائلي القائم بالأساس، الأمر الذي ينتظره الجولاني لقضم ريف حلب الشمالي.
ويُعتبر «أبو عمشة»، الذي ينحدر من ريف حماة وكان يعمل سابقاً سائقاً لجرّار زراعي، أحد القياديين المقرّبين من أنقرة لِما قدّمه من خدمات عدّة أبرزها عمليات التهجير القسرية التي مارسها فصيله ضدّ الأكراد في ريف عفرين. كما يُعدّ من أبرز الشخصيات التي عملت على تجنيد وتدريب وإرسال مقاتلين إلى ليبيا وأذربيجان تنفيذاً لأوامر أنقرة، الأمر الذي يوضح سبب حرص الأخيرة على استمراره. وإلى جانب «أبي عمشة»، يملك الجولاني، بدوره، حظوة كبيرة في تركيا، يضاف إليها الانفتاح الأميركي المتواصل على جماعته، التي ترى فيها واشنطن فرصة لضمان حالة عدم الاستقرار في الشمال السوري.
بدأ «الائتلاف» و«حكومته» عمليات مراجعة داخلية، كما فتحا الباب أمام إجراء تحقيقات وتشكيل محاكم
وفي وقت عبّرت فيه تركيا، بشكل علني، عن غضبها من «حالة الفوضى» التي تشهدها المناطق التي تسيطر عليها، وطلبات الفصائل المتزايدة من السلاح والأموال، يشكّل تمدّد الجولاني أو تحالفه العلني مع «العمشات»، فرصة بالنسبة إلى أنقرة للتخلّص من هذه الأعباء المالية المتزايدة، بالإضافة إلى فرض حالة من الاستقرار في مناطقها من قِبَل شخصيات تَعتبرها «قوية وموثوقة»، وتتمتّع بقدرة عالية على «التمويل الذاتي».
ويدور في كواليس الفصائل الحديث عن سيناريوات عدّة قد تشهدها مناطق ريف حلب الشمالي، أبرزها استعانة «أبي عمشة» بصديقه الجولاني، الذي سيجد في هذا الطلب فرصة لا تُعوَّض للتمدّد إلى ريف حلب، المنطقة التي توفّر له، بالإضافة إلى توسيع مساحة سيطرته، السيطرة على معابر تهريب لا تُقدَّر بثمن.
وبينما تزداد حالة الاضطراب في ريف حلب الشمالي، بدأ الجولاني عمليات «تنظيف» واسعة لمحافظة إدلب ممّا تبقّى من مقاتلين أجانب، إذ أكدت مصادر «جهادية» أن تعميماً جديداً أصدره الجولاني، يطلب من جميع «الجهاديين» غير السوريين مغادرة المحافظة مع عائلاتهم إلى مناطق محدّدة في ريف حلب، بعيدة عن الحدود التركية، وعن مناطق إقامة المشاريع السكنية، وفق توصيات أنقرة، خشية تسرّب هؤلاء المقاتلين إلى تركيا، أو التشويش على عمليات إعادة توطين السوريين التي تعمل عليها تركيا، لضمان تجذير حزام موالٍ لها قرب حدودها. كذلك، يواصل الجولاني عمليات تجنيد وتدريب مقاتلين، بمشاركة ضبّاط أتراك، حيث تمّ أخيراً تخريج دورتَين لمقاتلين جرى تدريبهم على عمليات القنص والاقتحام واستخدام مضادّات الدروع، وتوزيعهم على تشكيلات عسكرية ضمن خطّة إعادة تنظيم واسعة للقوّات المقاتلة، نفّذتها «تحرير الشام» بإشراف تركي مباشر.
وترتبط التطوّرات الميدانية الأخيرة بتحرّكات سياسية موازية بدأها «الائتلاف المعارض» و «الحكومة المؤقتة»، خوفاً من تمدّد الجولاني إلى مناطق يُفترض أنها تخضع لسيطرة قوّات تابعة لهما، بعد زيادة الدعم التركي لـ»هيئة تحرير الشام»، وعدم قدرة «المؤقّتة» على ضبط الفصائل المتصارعة على الأرض. وفي هذا السياق، بدأ «الائتلاف» و»حكومته» عمليات مراجعة داخلية، كما فتحا الباب أمام إجراء تحقيقات وتشكيل محاكم لمحاسبة بعض القياديين، الأمر الذي انتهزته الفصائل لمحاولة إنهاء وجود «أبي عمشة»، الذي يمثل بالنسبة إليها خطراً وجودياً، وباباً لتسرّب الجولاني وجماعته إلى مناطق سيطرتها. لكنّ هذا التسرّب يبدو أنه بات أقرب من أيّ وقت مضى، في ظلّ الرغبة التركية المتزايدة في توحيد المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية قرب حدودها، تحت قيادة موحّدة وقوية وموثوقة، وتحظى بقبول أميركي.
تعليقات: