المعاملات الإدارية شبه مستحيلة في لبنان.. كلفةً ووقتاً

شهر كامل لأي معاملة، ويجب إرفاق الطلب بمبلغ مناسب رشوة بل إكرامية للموظف (مصطفى جمال الدين)
شهر كامل لأي معاملة، ويجب إرفاق الطلب بمبلغ مناسب رشوة بل إكرامية للموظف (مصطفى جمال الدين)


يُعاني لبنان منذ ما قبل الأزمة الاقتصادية وأزمة كورونا العالمية، من تدنّي مستوى خدمات المواطنين الإدارية. وازدادت هذه الخدمات سوءاً في السنوات الأخيرة الثلاث، لأسباب عدة: حضور الموظفين المتقطع إلى عملهم في الإدارات الرسمية، فقدان المال اللازم لتقديم الخدمات، واعتماد الإدارة اللبنانية إدارية أساليب بالية مرّ عليها الزمن.


إدارة متخلفة ومفلسة

لم يتمكن علي حويلي بعد من الحصول على بطاقة هوية جديدة بسبب البطء الإداري. وتلك القديمة عليها صورته طفلاً، ولم تعد مقبولة في إدارات ومعاملات كثيرة. لذا صار يضطر للحصول على إخراج قيد فردي، كلما دعته الحاجة. ويقول علي إن صلاحية جواز سفره انتهت منذ مدة ويريد تجديده، فحجز موعدًا عبر المنصة التي أطلقها الأمن العام، وبدأ تحضير أوراقه: صورة شمسية، إخراج قيد فردي، إفادة مختار خاصة بطلب الحصول على جواز السفر.

يسكن علي الشاب في بيروت، وسجل قيد نفوسه في إقليم التفاح بالجنوب. وللحصول على إخراج القيد عليه الذهاب إلى قلم النفوس في بلدته الجنوبية. والرحلة تكلفه نحو 400 ألف ليرة بدل محروقات. بعدما مررنا بفترة فقدان الأوراق اللازمة لإخراج القيد بسبب كلفتها. والكلفة هذه تُعتبر الأدنى التي يحتاجها أي مواطن يسكن المدينة، ويريد الحصول على إخراج القيد من دائرة نفوسه.

وجمع علي المستندات اللازمة لجواز السفر، ليكتشف بعد أيام أن الأمن العام قرر تغيير شروط الحصول على جواز السفر، فباتت شبه تعجيزية. و"طار موعده" في الأمن العام، ولا يعلم إن كان يمكنه الحصول على موعد. إذ بات متعذراً الحصول على جواز سفر غايته السياحة، على سبيل المثال.


محرقة الوقت والمال

ما يسري على جواز السفر وإخراج القيد، يسري على المعاملات الإدارية كلها: السجل العدلي، إجازة سوق سيارة.. إلخ. وعانى المواطنون من فقدان الطوابع البريدية، كذلك الطوابع المالية. فإداراتها، كغيرها من الإدارات، تشهد غياباً للموظفين، وفقدانًا للأوراق اللازمة.

فموظفو الإدارات لا يدامون إلا في أيام قليلة محددة في الأسبوع، شأن معلمي المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية، لأسباب يعرفها الجميع: رواتبهم لا تكفي لكلفة النقل.

وتُعتبر الوثائق المذكورة أعلاه من الخدمات البسيطة التي لا تحتاج وقتاً. وهي باتت مكلفة مادياً، ومعقدة إداريًا، والحصول عليها مقتلة للوقت. وهناك وثائق أخرى تحتاج وقت أطول بكثير. فعلى سبيل المثال يحتاج طلب الحصول على سند تمليك بدل عن ضائع من أمانة السجل العقاري إلى حوالى شهر كامل وأحياناً أكثر، في حال لم يُرفق الطلب بالمبلغ المناسب رشوة بل إكرامية للموظف.

وآليات الحصول على المستندات الإدارية في لبنان لا تزال على حالها منذ زمن ما قبل الحرب في السبعينات: دفاتر وسجلات مهترئة. وإذا كانت غير مكلفة ماديًا آنذاك، عندما كان عدد سكان لبنان لا يتجاوز مليوني نسمة، صارت اليوم في زمن الفقر والفاقة، عالية الكلفة، بل كثر لا يستطيعون تحملها. وهو باب واسع للهدر والرشى. فعندما تكون الخدمة مرتبطة بشخص الموظف، يصبح لزاماً إرضاءه كي لا تتأخر المعاملة. لذلك انتقلت كل الدول المتطورة إلى العصر الرقمي، الذي يُعتبر من الإصلاحات الأساسية والواجبة لمواجهة الفساد من جهة، والانتقال إلى إدارة العصرية تسهّل حياة المواطنين. لكن أين نحن اليوم في لبنان من هذا كله؟! فإذا كنا لم نطور الإدارة في زمن الوفرة، فكيف لنا اليوم أن نفعل ذلك في زمن الانهيار الكبير.


عقلية الفساد

في آذار من العام 2018 أعدت وزيرة التنمية الإدارية عناية عزالدين مسودة "استراتيجية التحول الرقميّ لتسهيل المعاملات الإدارية بهدف تعزيز الشفافية والمساءلة والوصول إلى نموذج رشيد في مختلف إدارات الدولة". إلا أنها كباقي المشاريع لم تُنفّذ بعد. وتقول عزالدين في حديثها إلى "المدن": "أعددنا استراتيجية دولية حسب المعايير العالمية، وعمل عليها معنا البنك الدولي، وهي تؤمن خدمات المواطنين بأسعار جيدة وشفافية وسرعة. ليصير يكفي المواطن أن يدخل عبر بوابة واحدة معروفة ليشاهد أمامه الإدارات كمؤسسة واحدة، فيقدم طلبه من دون الركض لتأمين أوراق المعاملة، ويدفع عبر منصة واحدة. لكن مع الأسف لم تسمح العقلية اللبنانية لهذه الإستراتيجية أن تُقر". وتكشف عز الدين أن الوزراء رغبوا بأن يُقسّم التمويل على وزاراتهم. وبعضهم ذهب لاعتبار الربط والتكامل بين الوزارات مناقض لاتفاق الطائف.

وكان يُفترض بالمشروع الذي كان سيمول من البنك الدولي، أن يكّلف 400 مليون دولار، وينقل لبنان خلال 4 سنوات إلى دولة رقمية، لا على صعيد الخدمات فقط، إنما التعليم أيضاً. لكن هذا كله لم يتحقق، لأن هناك من أراد أن تبقى أبواب الهدر والفساد مفتوحة، وأن نُنفق الأموال على منصات متعددة، كالتي نراها اليوم.


لا أمل قريباً

لا تزال الاستراتيجية صالحة للتطبيق بغض النظر عن مرور الزمن. وحسب وزيرة التنمية الإدارية الحالية نجلا رياشي عساكر، فإن "النية" موجودة لوضعها على طاولة الحكومة، مشيرة في حديثها لـ"المدن" إلى أن المشكلة أو العائق قد يكون عمر الحكومة، واعدة أن تبذل جهدها لإقرارها، لما لها من أهمية قصوى.

تعليقات: