مشهد لطالما انتظرناه
أجمل ما في المشهد الذي شربته عيون اللبنانيين وإخوانهم العرب، على امتداد ساعات يوم أمس، أنه كان حقيقياً:
العدو حقيقي، بدولته العاتية وجيشه الذي كانوا يخيفون به »الدول«، وإمكاناته التي تتجاوز ما لدى العرب مجتمعين، وبقوى دعمه عالمياً، وهي غير محدودة.
والمقاومة حقيقية، مجاهدوها فتية آمنوا بأرضهم، بعد ربهم، فقاتلوا كأمجد ما يكون القتال، وحين وقع بعضهم في الأسر ظلوا على إيمانهم فلم يضعفوا ولم »يبيعوا« قضيتهم بسلامتهم الشخصية، وظلوا في معركة مفتوحة ضد سجانيهم، معتصمين بإيمانهم، مصدقين تعهّد قيادتهم بأنها لن تنساهم ولن تتخلى عن استعادتهم، مهما طال الأسر.
والشهداء حقيقيون، وهم حين وهبوا دماءهم لأرضهم في فلسطين كانوا يعرفون أنهم يخوضون حرب وجود مفتوحة لا تنتهي بمعركة أو بمجموعة من المعارك، ولا حتى بمجموعة من الحروب، وأن طوابير أخرى من المجاهدين سيأتون بعدهم تحت رايات متعددة الألوان موحدة الهدف...
ثم إن »الشهود« حقيقيون: اللبنانيون جميعاً وقد أسقطوا الخلافات التي فرّقتهم وتقاربوا حتى وحّدهم الموقف لتحية الأسرى العائدين بأكاليل من الغار، جباههم مرفوعة، والابتسامات تشع على وجوههم، يمدون أيديهم إلى »القيادات السياسية« الذين كانوا مختلفين إلى حد القطيعة فإذا بالكل يندفع إلى عناقهم وكأنه قد وجد »المشترك« الذي يعيد اللحمة إلى الصفوف. حتى من كان ذات يوم في موقع مختلف يراهن على »البعيد« وجد في عودة الأسرى فرصة لفك »أسره« شخصياً والتبرؤ من موقع »الابن الضال«.
كان النصر باهراً بحقيقته، وكان عظيماً بحقيقته: تقاطرت الحافلات الحاملة رموزه وأعلامه لتؤكد اللحمة بين أرض فلسطين وأرض لبنان، بينما الجنود الإسرائيليون يحملقون بالموكب المظفر مذهولين.
لقد عاد »المقاتلون« إلى »قواعدهم« وقد غدوا رموزاً مضيئة، تماماً مثل الذي أعطى بدمه اسمه لعملية تحريرهم: الرضوان!
عاد الذين اقتحموا الحدود المكهربة إلى أرضهم يتفقدونها ويسقونها بدمائهم.
دلال المغربي لم تكن وحيدة حين قرّرت أن تعيش وطنها ولو بالانغراس فيه.. ولا هي كانت وحيدة حين عادت لتبقى رمزاً مضيئاً لوطنها الذي سيبقى في الأسر منتظراً الجيل الثاني، الجيل الثالث من »دلال« التي وحّدت المشرق والمغرب عبر فلسطين وبها.
وكثير من رفاق »دلال« ارتاح في تراب وطنه منذ ،١٩٧٩ واثقاً أنه لن يكون »غريباً«، وبعضهم ما زال يبحث في وحدته عن مدخل إلى وطنه.
وكما عاد »الكل« فقد وجدوا »الكل« في انتظارهم عند المعبر في الناقورة، وفي ساحة الناقورة، ثم في مطار رفيق الحريري حيث احتشدت الدولة بكل رموزها: رئيسها العماد ميشال سليمان الذي كان مع الجيش الوطني رفيق سلاح للمقاومة ومجاهديها، المجلس النيابي وقد توحّد، الحكومة وقد عادت منسجمة الائتلافات، الطوائف وقد تلاقت على المشترك، الأحزاب وقد تركت خلفها خصوماتها واشتباكاتها التي كانت في غالبيتها عبثية تفيد »العدو« الواحد بقدر ما تؤذي الوطن الواحد.
كان في الاستقبال كل الذين لم يتمكنوا من المشاركة في وداع هؤلاء الذين قصدوا العدو وواجهوه في عينيه وقاتلوه حتى آخر رصاصة وآخر نفس ثم ذابوا في التراب المقدس..
[ [ [
إنها عودة الروح. إنها عودة الوعي.
عودة الروح إلى لبنان. عودة الوعي إلى العرب، بخطورة العمل العربي المشترك متى صار مشتركاً، وخطورة الانقسام على أوطانهم المهددة بالتفكك جميعاً.
إن هؤلاء »العائدين« قد جاءوا بفلسطين معهم، فقد سالت دماؤهم جميعاً على أرضها، بقدر ما سالت دماؤها على تاريخهم المعاصر.
وهي عودة إلى الميدان وليست خروجاً منه.
إنها مرحلة جديدة وليست إقفالاً للصراع.
فمنذ زمن طويل غابت فلسطين، كقضية، كوطن أسير، عن الاهتمام العام: صارت وكأنها مسألة خلافية ينشق من حولها أهلها، فكيف يتلاقى عليها من كان يتعبهم كبرها، وقد حاولوا جهدهم تصغيرها فما قدروا، وحاولوا طمسها فظلت كالشمس تفضحهم ولا تغيب.
ها هي فلسطين تشع مجدداً على امتداد الوطن العربي الكبير، وقد ملك أهلها النموذج والطريق: الوحدة والمقاومة.
إنها مرحلة جديدة: لم يعد الإسرائيلي نموذجاً للمقاتل الأسطوري الذي لا يُهزم.
لقد افتضح أمره باكياً، معولاً، يستغيث بقيادته
وهو مصفح بدباباته وطائراته وحوّاماته والمدد الأميركي المفتوح.
لم تعد إسرائيل كتلة صماء تعصمها انتصاراتها الدائمة، تقتحم الحدود وتحتل الأرض فتطرد أهلها أو تقتلهم ثم يعود جيشها بلا ضحايا.
ثبت أن الإسرائيلي يمكن أن يُقتَل. ولقد قُتل وقُتل وقُتل، وأُسر، وأُسر، وأُسر، وفرّ من الميدان وهو يصرخ طالباً النجدة.
إنها مرحلة جديدة: لا تقفل الملف، بل هي تفتح باب الأمل مجدداً. تفتح نمطاً جديداً، خطاً جديداً، سياقاً جديداً. تطرح تحديات جديدة، تفرض إعادة النظر بالأسلوب، بالتكتيك... وتؤكد دائماً أن الوحدة شرط النصر. الهدف دائماً واحد، ولا يمكن إنجازه إلا بالوحدة.
[ [ [
ليست عودة الأسرى من فلسطين وداعاً لفلسطين، وليست خروجاً منها.
لعلها ستكون الدليل إليها. سترسم »خريطة الطريق« للعودة وليس لتمزيقها وتفتيتها حتى تذوب في الكيان الإسرائيلي: دولة اليهود!
ليست عودة الأسرى خروجاً من العروبة... إنها أقرب لأن تكون توغلاً في العروبة. إنها تؤكد الانتماء ولا تضعفه. إنها تؤكد وحدة الهدف عبر وحدة الجهاد فوق الأرض الواحدة.
ليست عودتهم تسويراً لأرض فلسطين بالادعاء أننا قد أخذنا مَن وما كان لنا رهينة عند عدونا فيها وكفى الله المؤمنين القتال.. ليست ترسيماً للحدود. إنها تأكيد لوحدة الأرض، بقدر ما هي تأكيد لوحدة الهدف.
فلبنان ليس معبراً إلى فلسطين. إنه شريك في الجهد من أجل تحريرها. ما دامت فلسطين محتلة سيظل لبنان رهينة التهديد الإسرائيلي.
هذا هو التاريخ منذ ،١٩٤٨ بل وقبلها، وحتى اليوم:
لقد قاتلت إسرائيل الفلسطينيين بداية ثم سائر العرب، فقتلتهم واحتلت أوطانهم وأضعفت كياناتهم حتى صارت هشة تذروها الرياح الأميركية مع الريح. وهذا العراق تحت الاحتلال الأميركي شاهد وشهيد.
قتلتهم جيوشاً، وقتلتهم وتقتلهم اليوم دولاً. فهي لا تعترف بحدودهم، إذ لا حدود لها. حدها سيفها وما يطاله.
وقتلتهم وتقتلهم مقاومين كما نشهد يومياً في فلسطين. ومشاريع مقاومين، كما تدل مجازرها ضد الأطفال والنساء. قتلتهم وتقتلهم في كل أرض، من مصر إلى العراق، حتى لا ننسى غارتها على بغداد، ومن تونس إلى الأردن فإلى سوريا وضرب القاعدة العسكرية في دير الزور شاهد، ومن لبنان إلى لبنان.
قتلتهم وتقتلهم نساءً وأطفالاً وشيوخاً، مدارس ومستشفيات ومياتم ودور حضانة ومحطات توليد للكهرباء..
ولقد كان شرفاً للبنان أن ينطلق منه هؤلاء الذين استعادتهم المقاومة في أكفانهم، أمس، فزادت بهم لبنان شرفاً.
[ [ [
لقد شارك في الاستقبال كل الذين لم يتمكنوا من المشاركة في الوداع.. وبالذات كل أولئك الأخوة من الفلسطينيين الذين لم يعرفوا طريق العودة.
كان العرب جميعاً مسمّرين أمام الشاشات يشهدون على نصر مستحق، كما يشهدون به على أنظمتهم العاجزة إلا عليهم، التي تصالح العدو وتقاتلهم، وتسترضي الإدارة الأميركية ولو بلقمة عيش شعبها فضلاً عن كرامته، ثم تنسى مجاهديها وتتركهم لعدوهم الذي يعتبرهم »شهداء« وإن »اعتقلهم« في »مقبرة الغرباء«.
إنه نصر عربي جديد تضيفه المقاومة المجاهدة في لبنان إلى سجلها الحافل بالإنجازات الوطنية والقومية.
إنه إنجاز تاريخي يفخر به لبنان جميعاً: أن يكون أول بلد عربي يغلق ملف أسراه بجهاد مقاومته المحمية بتضامن شعبه وبحماسة جيشه لقضية التحرير.
إنه نصر لكل من جاهد بقتاله، بصموده، بفكره، بقلمه، بالتصاقه بأرضه، بإعادة بناء بيته كلما تهدم..
إنه توكيد جديد، لمن كان »ينقصه« الدليل على أن حرب تموز التي شنتها إسرائيل على لبنان بقرار أميركي، على أن النصر كان لمن صمد مجاهداً لمدة ٣٣ يوماً من النار.
ومن محاسن الصدف أن نستعيد أسرانا فيعودوا إلينا وقد تحرروا، مع »تحرير« الحكومة من إشكالات التأليف وتوزيع الحصص.
ونحب أن نفترض أن هذه العودة المظفرة لأسرانا ستسهم في كتابة البيان الوزاري لهذه الحكومة التي استولدت قيصرياً بشفاعات ووساطات ومساع حميدة ومؤتمرات ومبادرات مشكورة.
لقد عاد أسرانا. ويفترض أن يعيد إلينا هذا النصر وعينا بواقعنا، وأن يعزز ثقتنا بقدرتنا على الإنجاز.
فلنعد إلى توطيد وحدتنا الوطنية التي تعزز دولتنا الموحدة، بقدر ما تعزز انتماءنا العربي الأصيل.
تعليقات: