أطفال تخلى عنهم أهلهم المعدمون.. تضيق بإيوائهم دور الأيتام


ما أن يسمع اللبناني كلمة "المياتم" (دور الأيتام) حتى تتوارد في ذهنه صورة أطفال في مراكز تضم أيتامًا فقدوا أهلهم وذويهم. وقد لا يعلم معظم اللبنانيين أن أطفال دور الأيتام ومؤسسات الرعاية الاجتماعية ليسوا أيتامًا بل فقراء تخلى عنهم أهلهم بسبب أوضاع اقتصادية واجتماعية.


مشردو الحرب

وهذه الظاهرة ليست وليدة الأزمة الاقتصادية الراهنة التي وسعت رقعتها كثيرًا، بل هي وليدة زمن الحروب الأهلية (1975–1990) وما بعدها.

فحسب شهادة مدرس في القطاع الرسمي للمرحلة الابتدائية والمتوسطة في تسعينات القرن العشرين وحتى العام 2005، أن مدارس عدة في ضاحية بيروت الجنوبية وأحياء بيروتية، كان معضم تلامذتها ممن وضعهم أهلهم في دور أيتام ومآوي، لأسباب شتى: التهجير في زمن الحرب، ومشاكل عائلية وأسرية بين الأمهات والآباء، وكثرة أطفال الأسرة الواحدة، والعجز عن رعايتهم وتعليمهم وإطعامهم.


فقر ويتم مقنّع

واليوم يعيش لبنان تداعيات أزمة الاقتصادية الاجتماعية في عامها الثالث. ودفع الفقر المدقع الذي طال فئات واسعة من الشعب اللبناني، إلى ظهور حالات عجز الأهل عن تأمين أدنى مقومات حياتهم الطبيعية.

وهذا أدى إلى تنازل الأهل عن أطفالهم ولجوئهم إلى مراكز اجتماعية ودور أيتام لإطعامهم والتكفل بطبابتهم وتعليمهم. وهنا ظهرت مأساة اجتماعية جديدة: انسلاخ الأطفال عن منازلهم ورعايتهم الأسرية، وتحويلهم إلى أيتام مقنَّعين منفصلين عن أهاليهم بسبب الحاجة المادية.


أطفال بلا حقوق

تؤكد رئيسة قطاع دار الأيتام الإسلامية السيدة دانيا الصفدية في حديثها إلى "المدن"، أنها لاحظت هذا العام إقبالًا واسعًا لالتحاق أطفال بهذه الدور، ليسوا أيتامًا ولكنهم يعانون من حالات اجتماعية صعبة، حرمتهم من حقوقهم بسبب حاجة عائلاتهم المادية. وهذه الحالات كانت موجودة في السابق، ولكنها تفاقمت واتسعت خلال الأزمة الاقتصادية الراهنة.

ولاحظت الصفدية أن أطفال دار الأيتام الإسلامية كانوا يفتقرون إلى أدنى مقومات الرعاية الاجتماعية، وهم في حال يرثى لها. فبعض العائلات لجأت إلى المياتم بسبب عجزها عن تأمين حاجات أطفالها اليومية، من طعام وشراب، وباتت غير قادرة على التكفل بتعليمهم وتأمين طبابتهم اللازمة. لذا لجأت أسر إلى دور الأيتام لإيواء طفل من أطفالها، لتعمل على تأمين رعايته الاجتماعية. وتسعى إدارة الدور إلى الحفاظ على علاقة الأطفال بأهلهم عن طريق الإجازة الأسبوعية، فتسمح للأهل بزيارة أطفالهم والتواصل معهم هاتفيًا.


تخلي الأهل

لكن ارتفاع تكاليف المواصلات أثر بشكل مباشر على الأطفال وذويهم. وتؤكد الصفدية أن بعض الأهالي انقطعوا عن رؤية أطفالهم، بسبب عجزهم عن تأمين تكاليف النقل لزيارة أطفالهم، أو لاصطحابهم من الدار إلى البيوت وإعادتهم منها إلى الدار.

فذهاب الطفل ليومين في الأسبوع إلى أهله، يترتب عليهم تأمين مأكله ومشربه قبل إعادته إلى بيته الثاني. وبالتالي فهم غير قادرين على تأمين هذا المبلغ. لذا، حالت المصاريف اليومية بينهم وبين رؤية طفلهم، ما أجبرهم على الابتعاد عنه لفترةٍ ريثما تتحسن الأحوال. وتلاحظ إدارة دار الأيتام أن بعض الأهالي يتخلون عن أطفالهم ويتجاهلوهم. لذا تحاول الدار أن تذكر الأهل بأطفالهم وتجمعهم بهم. فالمؤسسة هي الأسرة البديلة التي تؤمن احتياجات رعاية الأطفال وصحتهم النفسية والجسمانية. لذا تحث الأهل الاحتفاظ بعلاقة ما بأطفالهم، فهم أسرته الأولى.


أطفال يفضلون يتمهم

بيد أن بعض الأطفال رفضوا رؤية أهلهم في الإجازة الأسبوعية، وفضلوا البقاء في الدار، بسبب عدم رغبتهم في الخروج. وهنا نلاحظ مدى عمق معاناة الأطفال قبل تخلي أهلهم عنهم لمراكز الرعاية. فالحرمان والعنف الأسري يحملهم على المكوث في الدار وعدم مغادرتها. فالدار تسعى بجهودها إلى تأمين احتياجات الأطفال: وجبات غذائية، طبابة، مختصين لمتابعة حالاتهم الجسدية والنفسية، إضافة إلى تكفلها تعليمهم في مدارس رسمية وخاصة، ودمجهم في النشاطات الثقافية والترفيهية.

ونلاحظ أن الأزمة الاقتصادية ساهمت في تفكك أسر لبنانية، وابتعاد أطفال عن عائلاتهم. وهذا أثاره النفسية خطيرة على الطفل. وعينت دار الأيتام مرشدات وأطباء مختصين ليتابعوا حالات الأطفال النفسية والاجتماعية، وخصصت أوقاتًا للاستماع إليهم يوميًا، وعمدت إلى دمجهم بباقي الأطفال.


تكاليف باهظة

والأزمة الاقتصادية زعزعت أركان مؤسسات الرعاية الاجتماعية في لبنان: أكثر من 53 فرعًا موزعة على مناطق كثيرة. وهي تأوي أطفالًا حالاتهم صعبة، منهم أيتام ومنهم فقراء، أو جعلهم الفقر أيتامًا مقنعين، بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية. لذا تضاعفت جهود دور الأيتام التي تستقبل الأطفال.

وتقول الصفدية أن المراكز الاجتماعية تأثرت بشكل كبير بالأزمة الاقتصادية. فهي تحتاج إلى تكاليف باهظة يوميًا لتأمين حاجات الأطفال. والفرع الأساسي لدار الأيتام الإسلامية في بيروت يضم أكثر من 450 طفلًا. وبسبب انخفاض قيمة الليرة وتحليق الدولار الأميركي، شكل ارتفاع الأسعار ضغطًا كبيرًا على الدور التي تحاول جاهدة للحفاظ على استمرارها، تجنبًا لانهيارها وإغلاق أبوابها. وهذل يؤدي إلى تشرد عدد كبير من الأطفال في الشوارع. وهنا تظهر أهمية هذه المؤسسات ودورها في المجتمع.


أطعمة بديلة

يقدم دار الأيتام يوميًا أكثر من 1500 وجبة طعام للأطفال. وهذه الكمية الهائلة والارتفاع الجنوني لأسعار للسلع، حملت الدور على التخلي عن بعض الأطعمة واستبدالها بأصناف أخرى. وهي استعانت بأخصائيي تغذية لمساعدتها على إبقاء كل العناصر الغذائية التي يحتاجها الأطفال يوميًا، لنمو سليم ومتكامل، مع التخفيف من عبء ارتفاع أسعار الأطعمة.

ويواجه المركز أزمة كبيرة بسبب مادة المازوت التي يحتاجها يوميًا. فهو بحاجة إلى كميات مازوت كبيرة لنقل الطلاب إلى مدارسهم يوميًا وإعادتهم منها. وبحاجة إلى إنارة كل أبنية المراكز، وتأمين وسائل التدفئة. لذا تحاول مؤسسات الرعاية الإجتماعية تأمين الحاجات الأساسية لراحة الأطفال، والتي تنقسم بين الطعام والشراب والتعليم. وهي أجبرت على تجاهل بعض الإصلاحات والتعديلات التي يحتاجها المبنى إلى وقت لاحق. وذلك لإعطاء الأطفال أولوية الاهتمام في ظل هذه الأزمة الصعبة.


حاجة للتبرعات

ومؤسسات الرعاية الإجتماعية ليست قطاعًا انتاجيًا، واستمرارها يعود إلى الهبات والتبرعات التي تتلقاها من الأفراد، إضافة إلى مساعدة وزارة الشؤون الاجتماعية.

ولكنها اليوم بحاجة كبرى إلى المساعدة، للحفاظ على صمودها. كما أنها تسعى لإيجاد حلول سريعة تخفف من الأعباء الضاغطة. ولأنها في طور تأهيل الأطفال ليصبحوا أفرادًا فاعلين ومنتجين في المجتمع، تحتاج إلى التبرعات والمساعدات، لإبقاء أبوابها مفتوحةً أمام الأطفال المشردين، الأيتام والفقراء.


تعليقات: