ديموقراطيّة الغرب ع المقاس

أفارقة وعرب هربوا من حرب أوكرانيا
أفارقة وعرب هربوا من حرب أوكرانيا


صُدم العالم بعد سماعه تعليقات عدد من المعلقين والمراسلين التابعين لوسائل الإعلام الأميركية والأوروبية التي قارنت بين ضحايا الغزو الروسي لأوكرانيا "المسيحيين المتحضرين الذين يشبهوننا من ذوي الشعر الأشقر والعيون الزرقاء"، بأولئك "المشرقيين" القادمين من سوريا وأفغانستان. وأكثر هذه المنصات كانت يسارية، ليبرالية، طالما ادعت قيم المساواة وعالمية حقوق الإنسان.


حرام علينا حلال لهم

كما لحظنا تجاهل تلك الوسائل المفارقة المدهشة بين ما كانت دولهم ومنظماتهم ومثقفوهم يطالبوننا به من عدم خلط السياسة بالرياضة والسياحة والتجارة والتعليم، وبين الإجراءات غير المسبوقة ضد الرياضيين والسياح ورجال الأعمال والطلاب الروس، بحرمانهم من المشاركة والزيارة والعمل والتعلم في أوروبا وكندا، ومصادرة أملاكهم وعقاراتهم وتجميد حساباتهم البنكية، وطردهم من الجامعات والمدارس والمؤتمرات والمناسبات الرياضية.

وحتى حكومات سويسرا والسويد والنمسا وفنلندا التي طالما التزمت الحياد في الصراعات الدولية، سرعان ما واكبت الحملة المحمومة ضد روسيا، وطبقت عقوباتها وإجراءاتها. ولم تتوان منصات التواصل الاجتماعي كـ"تويتر" و"فايسوك" و"إنستغرام" عن مراقبة حسابات المدافعين عن وجهة النظر الروسية أو إلغائها. وبعض دول أوروبا، كجمهورية التشيك سجنتهم وغرّمتهم.

وفيما كان الغرب يصنّف الجماعات المقاومة لغزوه واحتلاله بلداناً شرق أوسطية بالإرهابيين، صار يحرّض مواطنيه على الانضمام الى المقاومة الأوكرانية، ويدعمهم بالمال والسلاح. وفيما كانوا يسمون مقاطعة الحوثي حصاراً إنسانياً، سارعوا هم الى إقامة الحواجز براً وبحراً وجواً على روسيا.


كندا الحقوق

لم يكن هذا الأمر غريباً أو مفاجئاً للمتابعين في الدول النامية، فقبل ذلك تجاهلت أحزاب اليسار الغربي ومنظماته وإعلامه المفارقة الكندية. فحكومة كندا الحالية تسيّدت في العقد الأخير التيار الليبرالي اليساري، وصمّت آذان العالم بمحاضراتها عن حقوق المرأة والإنسان وكبار السن والمثليين، عن حرية الرأي والتعبير والصحافة، عن حق التظاهر والاعتصام والتجمهر، ولو بالقوة! فوقفت في صف المزارعين في الهند الذين تظاهروا عاماً كاملاً بالإضراب عن العمل وبسد الطرق الرئيسية في البلاد، ومع حق "الإخوان المسلمين" الذين أغلقوا قلب القاهرة شهوراً، وحق المدافعين عن حقوق السود عندما احتلوا أو حاصروا الميادين والشوارع ومقار الشرطة في أميركا.

وطالما طالبت كندا دول العالم الثالث بإطلاق سراح المشاغبين والمتخابرين مع الأعداء والجواسيس واحترام حقوقهم المدنية. واستقبلت نائبة رئيس الوزراء، وزيرة خارجيتها، فتاة سعودية متمردة على تقاليد بلادها وأسرتها، وخارجة على دينها ومجتمعها في مطار العاصمة الكندية بعد تحريضها على الهروب وتسهيل وصولها الى كندا. واستوعبت غيرها من المغرر بهم، وفتحت لهم منصات إعلامها للترويج لأفكارهم وتحريض أقرانهم، تحت رايات المثلية والنسوية والتحرر الجسدي والأخلاقي.


كندا الأمن

هذه كندا حتى شهر مضى. وهذه شعاراتها ومبادئها وقيمها التي صالحت بها العالم وخاصمت. وإن كانت أشد وأقسى على دول عن دول. فمع الصين وإيران وبورما وفرنسا مثلاً، حرصت على تهذيب لغة الخطاب، والتعامل بدبلوماسية أو بتجاهل مع أشد أنواع التنكيل والقمع والمخالفة لكل ما تؤمن به. ومع دول كالهند والسعودية ومصر، ترفع عقيرتها بالاعتراض، وتمد يدها بالتدخل، وتصل حماستها الى حد استخدام سفاراتها واستخباراتها في التحريض والاحتواء والتهريب، وأراضيها للاستضافة والحماية والتشجيع.

أما اليوم، فكندا التي أقامت الدنيا ولم تقعدها على واقعة الجمل، في ميدان التحرير، تمارس كل يوم واقعة الخيل في ميادينها، رغم أن الواقعة الأولى لم تتكرر ولم يُصب فيها مخلوق، والثانية تكررت واعتلت أجساد النساء والعجائز.

وكندا التي طالما اعترضت على قوانين الطوارئ في الدول النامية، قفزت إليها دفعة واحدة، ومن دون تردد بإحياء قانون وضع عام 1988 لمواجهة الحركة الانفصالية العنيفة في مقاطعة كيبك الانفصالية، لاستخدامه هذه المرة ضد سائقي الشاحنات المعارضين للحجر بعد العودة من الولايات المتحدة لغير المطعّمين منهم، ولكل من يؤيدهم ولو باستخدام بوق السيارة أو التبرع بأربعين دولاراً أو التعاطف معهم في وسائل الإعلام!


إعلام اليسار

ولأن اليسار ملة واحدة، فقد خرست الحكومات الليبرالية والمنظمات الحقوقية، وتعاطف الإعلام اليساري معها، ووصل الحال بصحيفة "واشنطن بوست" الليبرالية التي طالما وبّخت الدول الأفريقية والآسيوية والأفريقية على أي تعسف من هذا النوع، الى نشر قوائم المتبرعين لحركة المعارضة الكندية، والاتصال بهم واحداً واحداً لمناقشتهم في جدوى هذه المعارضة!

ولم تهتم قنوات كـ"سي ان ان" و"فرانس 24"، وصحف كـ"نيوورك تايمز" و"الغارديان" بالتركيز على صور الثمانيني الذي تعاون على ضربه وأسره رجال الشرطة، أو العجوز التي طحنتها حوافر الخيل، أو النساء والأطفال الذين أصيبوا في هجمات قوات مكافحة الشغب، كما فعلوا خلال تغطيتهم تظاهرات حقوق السود في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب! ولا غرابة، فهم أنفسهم الذين حاسبوا قوات الأمن على عدم التعامل بالقوة الكافية والرادعة مع أنصار ترامب في تظاهراتهم ضد نتائج الانتخابات الرئاسية، وهم من تقبّلوا عنف عسكر رفيقهم ماكرون مع أصحاب القمصان الصفراء في فرنسا.


مكيال الغرب

الكيل بمكيالين، والمبادئ على المقاس، والتطبيق على القياس ليست جديدة في عالم السياسة والإعلام، ولكنها كانت أكثر تخفياً واحترافية، وأقل بجاحة وصفاقة في الديموقراطيات الغربية. نعم، ألفنا ذلك التناقض والتحيز والتباين في بعض أحزابنا وإعلامنا، عند الكثير من مثقفينا ونخبنا، فهذا القومي والبعثي والناصري ينحاز للفارسي والتركي العجمي، ويتحالف مع الإسلاموي والولائي والطائفي المتطرف، ضد العروبي والتنموي والمتسامح. وهذا الليبرالي العلماني يهاجم الرجعية دهراً، ويطالبها بالانفتاح الثقافي والفكري، وفتح أبوابها لرياح التغيير، وتمكين المرأة والشباب والطوائف، فإذا فعلت واصل هجومه ومعاداته، واتهمها بالتغريب والانسلاخ عن القيم والأخلاق!

لا نبرّئ أنفسنا من هذا كله، ولكننا كدول ونخب سياسية وفكرية، لم ندّع يوماً أننا سادة العالم، ولم نحاضر غيرنا في أنظمته وأسلوب حياته، ولم نتدخل في شؤونه الداخلية. لم ننصّب أنفسنا حكاماً وقضاة وجلادين، ولم نفرض على غيرنا اتّباع طريقتنا، وحاربنا وحوربنا من أولئك الذين كفرونا لأننا لم نفعل.


الأمن القومي

ولذلك فإن من حقنا اليوم أن نذكر يسار الغرب، وكندا أنموذجاً، بأن الأمن القومي خط أحمر، وأن مسؤولية كل حاكم أن يحميه ولو بالقوة. هكذا فعل رئيس الوزراء جاستن ترودو بتفعيله نظام الطوارئ، وهكذا فعل والده من قبل تجاه الانفصاليين في شرق البلاد. وهكذا فعل الديموقراطي باراك أوباما عندما وجه الاستخبارات الأميركية بخطف أو قتل تقني المعلومات في الـ"سي آي أيه"، إدوارد سنودن. بعد هروبه الى روسيا. وهكذا فعل أسلافه الرؤساء باغتيال زعماء حركة الحقوق المدنية، كمالكوم إكس ومارتين لوثر كنغ، وقمع الاشتراكيين والمناوئين لحرب فيتنام في الستينات والسبعينات، وسجن كل من يثبت تخابره مع الدول والأحزاب الشيوعية خلال الحرب الباردة.

وبغضّ النظر عن مدى عدالة هذه الممارسات، فكل قضية تستحق مناقشة مستقلة، وكثير منها جرائم تستحق محاسبة مرتكبيها، إلا أنها تشير جميعها الى نفاق الغرب عندما يتعلق الأمر بأمنه مقابل أمن غيره. فالساسة والنخب الفكرية والإعلام، بقدر تطرف بعضهم دفاعاً عن القيم والمثل، يختلف الموقف ويتأرجح بين التجريم والتأييد بحسب مرتكب المخالفة. فإن كان من أهل الدار تنادوا "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، ليس بالمعنى المقصود للحديث الشريف، أن تنصره بردعه عن ظلمه، ولكن بالمفهوم الجاهلي. وإن كان مرتكب المخالفة من الحزب أو التيار أو الفكر المخالف لهم، أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، طلباً للتغيير، والثأر وانتصاراً للمبدأ والضحية.


خيارات العرب

وعليه، أرى أن أمام العرب ثلاثة خيارات. إما أن نتجاهل حملاتهم المسيسة لقضايانا، أو نرد عليهم بالمثل، رغم قصور إعلامنا عن إعلامهم، وسطوتنا عن سطوتهم. والخيار الثالث، وهو الأفضل، أن نأخذ منهم ما يوافقنا، فربما "صدقك وهو كذوب"، ونترك ما لا يوافقنا. فالحرية والعدالة وحقوق الإنسان مبادئ إنسانية وفيها مشتركات كثيرة. وفي أدياننا السماوية وثقافتنا العربية ما يوافقها، والشكر لمن ذكّرنا بها، بغض النظر عن نيته.

أما ما يخالف قيمنا ومبادئنا وأسلوب حياتنا، كالمثلية والتحرر الجنسي والحرية التي تتعدى على حرية الآخرين، أو الفردية التي تتقدم على مصلحة الجماعة، فنرفضها ونرفض أهلها ونجاهر برأينا فيها على كل المنابر الدولية. وليشربوا البحر أو ليبلطوه!


* المصدر: النهار العربي

تعليقات: