سعر الصرف للانفلات: سلامة أحرق دولاراتنا ثم فشل!

\
\"مجزرة\" الدولار التي أشرف عليها سلامة فضيحة تستحق التدريس (الأرشيف، دالاتي ونهرا)


بحلول يوم الأربعاء 9 آذار، كان سعر صرف الدولار في السوق الموازية (أو السوداء) قد ارتفع ليلامس في بعض ساعات النهار حدود 23 ألف ليرة لبنانيّة للدولار الواحد، فيما أقفلت محال الصرافة على سعر 22,550 ليرة للدولار في نهاية اليوم. باختصار، عاد الدولار ليحلّق من جديد في السوق الموازية، بعيدًا عن سعر صرف المنصّة، الذي لم يتجاوز كمعدّل وسطي في هذا النهار حدود 20,550 ليرة للدولار. الكارثة الفعليّة لا تقتصر على عودة سعر صرف الدولار مقابل الليرة للارتفاع السريع، بل في انفلاته بعيدًا عن سعر المنصّة، التي يعمل على أساسها مصرف لبنان. فضبط سعر السوق الموازية عند مستويات توازي سعر المنصّة، وإبقاؤها تحت سيطرة مصرف لبنان، مثّلا أبرز أهداف تدخّل مصرف لبنان الأخير في سوق القطع، فيما يمثّل انفلات السوق الموازية عودة إلى نقطة الصفر.


استنفاد القدرة

باختصار، أحرق رياض سلامة منذ شهر كانون الأوّل الماضي، وعلى مدى ثلاث أشهر، نحو 1.37 مليار دولار من احتياطاته في تدخّله الواسع في سوق القطع، بهدف خفض سعر صرف السوق الموازية أولًا، وضبطها عند مستويات منصّة صيرفة التي يتحكّم بها ثانيًا (راجع "المدن"). ومنذ ذلك الوقت، كان من الواضح أن ما يجري لا يمثّل إلّا محرقة موصوفة للدولارات، لكون عمليّة ضخ الدولار وخفض سعر صرف الدولار بشكل مرحلي، لا تتوازى مع أي خطة أو رؤية نقديّة على المدى الأطول. مع الإشارة إلى أن تدخّل مصرف لبنان وضخ الدولار جريا عبر التعميم 161 أولًا، الذي نص على تحويل سحوبات المودعين النقديّة من الليرة إلى الدولار بسعر المنصّة، ثم عبر قرار بيع الدولار بلا سقوف عبر الفروع المصرفيّة بسعر المنصّة.

وتمامًا كما كان متوقّعاً، استنفد اليوم مصرف لبنان قدرته على التدخّل وضخ الدولارات بالطريقة نفسها، وفشل في الاستمرار بضبط سعر السوق الموازية عند حدود سعر المنصّة. فعاد سعر الصرف في السوق للارتفاع بمعزل عن سعر المنصّة. بمعنى آخر: عادت سوق القطع إلى المربّع الأوّل كما كانت في شهر كانون أوّل، وكأن شيئًا لم يكن. أمّا العودة إلى سعر الصرف المرتفع في السوق الموازية، والذي تجاوز قبل شهر تقريباً حدود 30 ألفاً مقابل الدولار، فباتت مسألة وقت لا أكثر، إذا استمرّ الضغط على سعر صرف الليرة كما حصل أمس واليوم. في كل الحالات، المسألة الأكيدة اليوم أصبحت أن "مجزرة" الدولار التي أشرف عليها سلامة طوال الأشهر الثلاثة الماضية كانت فضيحة تستحق التدريس، كنموذج عن السياسات النقديّة المتخبّطة والعبثيّة.


محدودية الاحتياطات

تتعدد الأسباب التي أوصلت مصرف لبنان إلى مرحلة الفشل في ضبط سعر السوق الموازية، والعودة إلى مرحلة ما قبل تدخّله الأخير. أوّل هذه الأسباب تكمن في اقتصار تدخّل مصرف لبنان على مبدأ ضخ الدولار، بغياب أي تصوّر لكيفيّة تأمين سوق قطع متوازنة ومضبوطة على المدى الطويل، مع تأمين مصادر للعملة الصعبة لتلبية الطلب عليها. هذا العامل، ترافق مع عامل آخر هو محدوديّة الاحتياطات المتبقية في مصرف لبنان، والمستخدمة في عمليّة ضخ الدولار، التي تقتصر اليوم على نحو 11.9 مليار دولار، من بينها 1.13 مليار دولار من أموال حقوق السحب الخاصّة (إلّا إذا كانت هذه الأموال قد "طارت" في مغامرة حرق الدولار الأخيرة). وهذه الأرقام تعني أن مصرف لبنان قد استخدم أصلًا نحو 1.7 مليار دولار من احتياطات المصارف الإلزاميّة، التي أودعتها المصارف كضمانة المودعين، والتي لا يفترض أن يتم المساس بها.

أخيرًا، استجد عامل إضافي خلال الأيام الماضية، تمثّل في زيادة أسعار المواد الأساسيّة على المستوى العالمي، ما أدّى إلى زيادة الطلب على الدولار لاستيرادها. وهذا العامل سرّع من وتيرة استنزاف دولارات المنصّة، التي يؤمّنها مصرف لبنان من احتياطاته للحفاظ على توازن سعر الصرف، ما أدّى إلى تسريع فقدان مصرف لبنان للسيطرة على سعر الصرف. مع الإشارة إلى أن هذا العامل سيستمر بالضغط طوال المرحلة المقبلة على سعر الصرف، بمعزل عن مستقبل عمليّات مصرف لبنان في سوق القطع.


السلطة التنفيذية

في كل الحالات، في الحالة العاديّة، كان من المفترض أن تكون قرارات حاكم مصرف لبنان الأخيرة –المتعلّقة بضخ الدولارات- موضع مساءلة أمام السلطة التنفيذية، لكونها تمثّل نموذجاً من نماذج الأخطاء الفادحة في تسيير الأعمال، والتي يتحدّث عنها قانون النقد والتسليف في سياق تعداد الأسباب المحتملة لإقالة الحاكم. مع العلم أن عبارة "الخطأ الفادح"، تستدعي حسن النيّة بالحاكم، لناحية الأسباب التي دفعته للتورّط في "محرقة الدولار" التي قام بها خلال الأشهر الثلاثة الماضية. لكنّ سبب عدم المساءلة يصبح واضحًا إذا تذكرنا أن ما جرى لم يكن إلا نتاج طلب صريح من السلطة التنفيذيّة، التي يبدو أنها لم تعد تدير الشأن المالي وفقًاً لأي خطّة أو تصوّر متكامل واضح المعالم.

تعليقات: