شكرالله كرم.. الطبيب الخيامي والإنسان الرمز (ج3)

الدكتور شكرالله كرم
الدكتور شكرالله كرم


تاريخ مهنة الطب في الخيام الجزء السادس

..

أوائل الأطباء الجامعيين في منطقة مرجعيون

يعتبر رعيل الاطباء الأوائل في جديدة مرجعيون هم: (مجلًي جبارة ، اديب رحال و كامل بركات)

أما الرعيل الثاني فكانوا: اميل شديد وجورج بركات).

وقد تخرج من الخيام الدكتور موسى فارس نعمة الجلبوط قبل الدكتور شكرالله كرم بسنتين وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً.


عودة طبيب الخيام لمعالجة أمراض بلدته المزمنة

كانت القرية اللبنانية في ثلاثينيات القرن الماضي ومنها الخيام ، تشبه أسرة كبيرة من حيث وجود إهتمامات مشتركة فيها ، بين الناس الطامحين للتغيير والتنمية الإجتماعية والإقتصادية والمعرفية ، لذلك فقد كان موضوع دراسة شكرالله كرم للطب في بيروت حدثاً يحضى بإهتمام الخياميين من صغيرهم إلى كبيرهم . الذين كانوا يتابعون بلهفة وشوق أخبار (إبن كرم) كما كان يسميه جيل ألأهل ، وكانت آمالهم المعلقة على مستقبله تزداد وتنمو وتكبر ، خلال مواكبتهم لنمو شخصيته ومعلوماته ونظراً للمميزات الشخصية التي كان يتمتع بها ، وهو الشاب اللطيف ، المتواضع ، المرح ، المثقف وصاحب المعلومات الغنية والنافعة لمجتمعه إضافة لإهتمامه بشؤون الناس في منطقته ، وهو الذي لا ينفك يسأل ويستقصي عن أخبارهم وهمومهم ، وينصح الأهل بضرورة الإهتمام بتعليم أبنائهم رغم القلة ، إلى مستويات علمية متقدمة وفي كافة الإختصاصات ، لأنه لا خلاص ولا مخرج للأزمات التي يعانون منها إلا بالعلم والمعرفة والوعي ، وكثيراً ما كان يسدي النصح ويقدم الملاحظة والتوجيه في الموضوعات التي يمكنه المساعدة فيها . كل ذلك ساهم مساهمة فاعلة بأن يصبح شكرالله كرم بمرور الزمن وتطور تجربته العلمية ، مصدر فخر وإعتزاز للخياميين الذين كانوا يتابعون أخباره ويسألون والديه عنه بإستمرار ويدعون له بالتوفيق والنجاح وأن يعيده الله سالمأً غانماً إليهم. وقد نقل المهندس حسين علي رشيدي عن والدته زينب يوسف مخزوم أنها كانت من المشاركات في إستقبال الدكتور شكرالله كرم مع جموع غفيرة من الخياميين والخياميات عند مدخل الخيام أثناء عودته إليهم حاملا إجازة في الطب والجراحة ، وكانت النساء المستقبلات تحملن جراراً مملوءة بالورود والأزهار ، وكان الشباب يشكلون فريق دبكة خيامية ذائعة الصيت في منطقة جبل عامل نظراً لما يميز هذه الدبكة من حركات فنية جميلة ، إضافة لمراوحة الدبَّيكة في مكانهم لفترة طويلة دون حصول فتور أو رتابة في الحركات . وكان يتقدم المستقبلين لاعبون بالسيف والترس ، وهذه أيضاً ميزة في الفولكلور الخيامي برع فيها مجموعة من الشباب الخياميين وكانوا يُدعَونَ إلى الأفراح وإلى الأحزان لإقامتها بأسلوب فني جميل ومؤثر . وتضيف أم حسين رشيدي أن يوم عودة شكرالله كرم كان يوماً مشهودا في الخيام وقد بارك الخياميون والخياميات بحفاوة وعاطفة بالغة لكرم وزوجته بتخرج وحيدهم ، وكان لهذا الإستقبال الخيامي الحافل أثر كبير على المختار كرم وزوجته زينة الشماي وعلى الدكتور الشاب ، الأمر الذي زاد من شعوره بالمسؤولية إتجاه الخيام وأهلها في الآتي من الأيام.

حلم الطبيب العائد ، هو خلاص الخيام من مآسيها . كان قرار عودة شكرالله كرم للعمل في الخيام ، بعد تخرجه من الجامعة ، يمثل خيارا خارجاً عن المألوف ، خاصة إذا قسنا الأمر بمقياس تلك المرحلة الزمنية ، لأنه كان بإمكان الخريج الكفوء أن يتابع دراساته التخصصية العليا ، إضافة لإمكانية عمله في كبرى مستشفيات العاصمة ، أو إستلام وظيفة في بلد بدأ فيه حديثاً تأسيس وزارة للصحة إضافة إلى نشوء مؤسسات صحية ومراكز طبية ومستشفيات حكومية وخاصة ، مع وجود ندرة في الكفاءآت اللبنانية التي تحتاجها تلك المؤسسات ، وقد تخرج من الخيام وغير الخيام أطباء كانوا سابقين ولاحقين لشكرالله كرم ، وكانت خيارات الغالبية العظمى من هؤلاء الخريجين هي العمل في المدن الكبرى ، والشركات الكبرى ، والوظائف الحكومية العليا ، على عكس خيار شكرالله كرم الذى بدأ يعمل في مجتمع يتعاطى للمرة الأولى مع طبيب من خريجي الجامعات الحديثة بالمعنى الإحترافي للكلمة ، وقبل الدكتور شكرالله كرم كان الخياميون يتداوون بواسطة الطب العربي الذي يعتمد على الأعشاب بشكل أساسي ، والذين تكون أمراضهم متأزمة ينقلون محمَّلين على الدواب إلى مرجعيون التي كان يوجد فيها عيادت للدكتور أديب رحال والدكتور إميل شديد والكتور جورج بركات وهما خريجا جامعات حديثة ولكن كانت تغلب على وصفاتهم الطبية الأعشاب مثل ورق الكينا والبابونج والمريمية وما شاكل . وكان الدكتور أديب رحال وطبيب والدكتور جورج بركات قبل تخرج الدكتور شكرالله كرم ، يأتيان إلى الخيام يوم الخميس ويعاينا مرضاهما في غرفة قرب منزل الحاج أسعد مهنا وكانا ينصُبان ستارةً في تلك الغرفة ، يعاينان مرضاهما خلفها ، وكانت هذه الغرفة هي أول عيادة فتحت في الخيام ، وكان سعيد زلزلة ونعيم أمين علي يعملان كممرضَين مساعدين للدكتور إميل رحال والدكتور جورج في تلك العيادة ، والمرضى الذين تكون أمراضهم أكثر تعقيداً ينقلون محملين على ظهور الدواب أو على عربة تجرها دابة إلى مستشفى رمزي الشاب إبن نبيه الشاب في صيدا ، وكان معظم المرضى قبل تلك المرحلة كما سبق وذكرنا يتداوون بواسطة الأعشاب وما يعرف بالطب العربي.

كما كان البعض في تلك الأيام يتداوى بالسحر والشعوذة وكتابة الطلاسم وطرد الشياطين من أجسام المرضى بعد إشعال البخور، وممارسة طقوس خاصة لهذه الغاية ، طقوسٌ ما أنزل الله بها من سلطان .

تجدر الإشارة أنه في مجتمع يتمتع بمثل هكذا ثقافته صحية ، واجه شكرالله كرم مصاعب كبيرة لتغيير قناعات الناس وغرس مفهوم جديد أذهانهم مفاده أن الزمن قد تغير وأننا أصبحنا أمام عالم وعلومٍ جديدةٍ محكومةٍ لقواعد العقل والإختبار ولا مكان فيها للخرافة . قبل تخرج شكرالله كرم من الجامعة كان موسى فارس نعمة الجلبوط قد تخرج من الجامعة الأميركية طبيباً وعمل في الخيام مدة قصيرة سافر بعدها إلى الأردن وصار الطبيب الخاص للملك طلال إبن الشريف حسين ، وبعد رحيل الملك توظف الدكتور موسى مسؤولاً للإدارة الطبية في شركة البترول العراقية في مدينة طرابلس . فرح والدا شكرالله بعودة ولدهم الحكيم وفرح المحبون والأقارب وبدأ الناس يتناقلون أخبار تخرج إبن المختار كرم وفتحه لعيادة طبية في بيت أهله ، وأن هذه العيادة فيها سرير يستلقي عليه المريض للفحص ، والحكيم لديه سماعة ، يستمع بواسطتها نبضات قلوبهم ، تلك القلوب التي نشأت بينها وبين قلب الدكتور شكرالله بمرور الزمن علاقة حبٍّ ومودةٍ ستظهر آثارها في مفاصل حياة الخيام والخياميين لاحقاً. كان الدكتور شكرالله كرم يجيد فن التعاطي مع مرضاه بأسلوبه اللبق والمُحبَّبْ ، لا سيما مع مرضاه البسطاء الطيبين ، حيث كان يلاطفهم ويسألهم عن حالهم وأحوالهم ، وعن مواسم زرعهم إن كانوا مزارعين ، وعن مواشيهم ودواجنهم إن كانوا من الرعاة ومربي الدواجن ، وعن حرفهم إن كانوا من الحرفيين ، وكان يتابع أخبار مرضاهم الذين عالجهم سابقاً ويطمئن على تحسن أحوالهم ، وما حصل معهم بعد علاجه لهم ، وكان لهذا الأسلوب الأثر البالغ لإنجذاب الناس له ، والترويج لخبراته المميزة وطيبة أخلاقه العالية ، إضافة لتساهله في الأمور المادية ومسامحة من لا يستطيع دفع بدلات العلاج أو تأجيل الدفع إلى مواسم القطاف والحصاد القادم للمزارعين ومواسم ولادة المواشي للرعاة . وآخر الشهر للموظفين ، وهكذا رويداً رويداً بدأ الطبيب الشاب يحتل مكانة وتقديراً في قلوب الخياميين ، كما بدأت تتسع شهرته في البلدات المجاورة للخيام نتيجة تعرُّف التجار الذين يأتون إلى سوق الخميس في الخيام على الدكتور شكرالله وإنجازاته الملفتة ، ثم يعودون إلى قراهم ويذكرون أمام أقاربهم وأصدقائهم حكايات الدكتور المنتشرة بين الخياميين ، وسرعان ما يبدأ أهالي القرى المجاورة للخيام بالمجيء إلى عيادة الدكتور شكرالله كرم لمعالجة مرضاهم ، وكان لكرم الأب ولزوجته علاقات إجتماعية غنية ، وكانوا كلما جاء أحد من معارفهم يوصون شكرالله بالإهتمام به ومراعاته إكراما لهم وكان شكرالله يستجيب لطلبات والديه بكل رحابة صدر وإحترام . وهكذا مع تكرار مثل هذه الحالات بدأ الناس يطالبون المختار وولده الدكتور أن يخصص يوماً في الأسبوع يذهب فيه إلى قراهم ، ويعالج مرضاهم ، وهكذا بدأ الدكتور الشاب إبن المختار يستجيب لرغبة الناس ، حيث إقتنى فرساً يسافر على صهوتها كل يوم إلى قرية ، حيث يعاين المرضى في منازل أصدقاء والده من المخاتير أو في كنيسة البلدة أو في باحة المسجد، ويحمل في خِرجِ راحلته الدواء المتوفر لديه إلى مرضاه ، في زمن لم تكن توجد فيه صيدليات ، أما الحالات المرضية النادرة والمعقدة كان الدكتور الشاب شكرالله كرم يكتب فيها وصفة طبية ، يذهب بها ذوو المريض إلى النبطية أو صيدا أو بيروت ، لشراء الدواء من الصيدليات المتوفرة هناك ،و وهكذا بمرور الزمن راح يَذِيْعِ صيت الدكتور بين الناس في قرى منطقة مرجعيون ، وعلى إمتداد قرى جبل عامل ، وراح يحتل مكانة وتقديرا عاليين في قلوبهم ، نظراً لكفاءته ومروءته وحبه للناس وتعاونه معهم وشعوره بآلامهم وأحزانهم وتسامحه في الأمور المادية معهم. تعاطُف شريحة كبيرة من مستضعفي المنطقة مع الطبيب الشاب ، ترك إمتعاضا لدى ممثلي السلطة الإقطاعية في المنطقة وأثار حساسيتهم ، نظرا لما صار يمثله من رمزية للإنسان الرسالي الذي يعطي بسخاء وجود ، ولا يميز بين الطوائف والمذاهب والإنتماءآت المناطقية الضيقة الأفق ، إضافة لإمتلاكه وعياً ثقافياً وسياسيا حراً وطامحاً للتحرر والتعاطف مع قضايا الفقراء والمستضعفين ومهضومي الحقوق . وكان واضحاً في أداء وسلوك الدكتور شكرالله كرم ، رغم تسامحه وإنفتاحه على الجميع ، أنه حاسم في إنحيازه إلى المظلوم أياً كان ، وضدَّ الظالم أياً كان هذا الظالم ومهما كانت قدرته وسطوته .

الدكتور شكرالله كرم يودع حياة العزوبية

كانت زينة الشمَّاس (أم نعمةالله) كلَّما سنحت لها الفرصة ، تذكِّر ولدها أنها مشتاقة لتفرح به ، وترى له ذرية تُفرِحُ قلبها وتسلِّيها وتُقِرَّ عينها ، وكان الدكتور شكرالله كرم يبتسم لها ويعدها خيراً وينتظر الظروف لتنضج على نار هادئة ، وهو الذي بقيت تربطه علاقات وصداقات في بيروت ، التي كان يزورها بين وقت وآخر ، ليطلع فيها على آخر ما يستجد في عالم الطب والسياسة ، وليتواصل مع أصدقاء له أحبهم وأحبوه ، وكان من جملة أصدقائه طبيب من آل عبيد من أُسرة درس عدد كبير من أبنائها مهنة الطب ، ويرجع أصل عائلة عبيد إلى بلدة مشتى عبيد ، في منطقة وادي النصارى سابقاً (وادي النضارى حالياً) ، التي تقع قرب مدينة حمص في سوريا ، وقد جاء عدد منهم لاحقا إلى بيروت وطرابلس ودمشق وحمص . التي كانت تابعة جميعها في ذلك التاريخ إلى بلاد الشام ، وكان لصديق الدكتور شكرالله إبنة عمًّ تأتي لزيارتهم من سوريا ، تدعى وداد عبيد ، التي تعرَّف إليها الدكتور شكرالله كرم أثناء إحدى زياراتها إلى بيت عمها في بيروت عام 1942، وحصل إعجاب متبادل بين الطرفين أدى لاحقاً إلى إتفاق على شراكة في الحياة ، تبع هذا الإتفاق عقد قران وحفل زواجٍ عامرٍ في الخيام ، وقد شارك الخياميون والخياميات في ذلك الحفل بكل طوائفهم وألوانهم وطبقاتهم إضافة إلى جزءٍ لا بأس به من أهالي المنطقة المحبين لكرم و لولده ولأسرته ، حيث تكرَّر مشهد إستقبال الدكتور شكرالله بعد تخرجه من الجامعة مع إضافات وتحضيرات فنية وزغاريد وردات وهتافات جميلة ومعبرة من جملتها ( يا رب السما العالي يا الله ، الخيام بتدعي إحمي شكرالله ) .

ساهم زواج الدكتور شكرالله كرم في إخراجه من الشعور بالوحدة التي كان يعاني منها قبل زواجه ، وكان شكرالله محباً للأولاد ومنسجما مع بيئته التي كان عدد أفراد الأسر فيها يدور في فلك العشرة أفراد . وهكذا نتيجة لإنغماس الدكتور شكرالله كرم في عمله الذي كان يحتل معظم وقته كانت السيدة وداد عبيد مسؤولة عن تفاصيل الإعتناء بأفراد الأسرة من طعام ولباس وتعليم وتوجيه ، إضافة لمساعدتها حماتها أم نعمةالله في متابعة شؤون الأرزاق وتحضير المونة الشتوية وعصر الزيتون وخلافه . وقد عاونها الزوج الحبيب المنفتح ، عندما كانت تسمح له أوقاته ، كما كان يتناقش معها في كيفية توجيه الأبناء ومساعدتهم في بناء شخصياتهم الحرة والقادرة على إدارة شؤونها وعلاقاتها مع الآخرين وإتخاذ القرارات المناسبة في القضايا التي تواجهها في حياتها. وقد أظهرت زوجة الدكتور شكرالله كرم تفهماً كبيراً للوقت الكبير الذي يقضيه زوجها في عمله في خدمة الناس ، وفي تحويله القسم الأكبر من المنزل ، إلى مايشبه المركز الطبي ، الذي كثيراً ما كان يستخدم كمستشفى ميداني لإستيعاب الحالات الطارئة التي تسببها الأزمات والحروب . وهكذا كان يرتاح الدكتور لشعوره أن شريكة حياته هي شريكة فعلية له في حمل هم الناس الذين يحبهم ويحبونه . وقد أثمر هذا الزواج المنسجم أسرة مكونة من ( كرم ألإبن البكر - سامي - جمال - سميرة – سعاد وساميا ) .

شكرالله يفجع برحيل كرم . الأب (المربي والسند).

لم يمضِ عام واحد على تخرج الدكتور شكرالله ، حتى فُجِعَ بفقد أحب إنسان إلى قلبه ، وهو والده ومربيه وموجِّهُهُ في طفولته وصباه ، وهو الذي كان يشعر بوجود أبيه إلى جانبه ، أنه يستند إلى رجل خبير بأمور الحياة ، ويُعتمد عليه في الشدائد وفي حالات غدر الزمان ، فشعر بالمرارة والأسى والوحدة بعد هذا الفقد الجلل ، خاصة أن والدة توفي نتيجة إصابته بنوع من الحمى التي يسببها حليب الماشية ، ولم يكن لها علاج في تلك المرحلة ، فحزن الدكتور شكرالله لهذا المصاب حزناً شديداً ، كما تجدد حزن والدته التي لم تكن قد فكَّت حدادها أصلا على ولدها البكر نعمة الله ، الذي فقدته وهو في ريعان شبابه ، ولكن بقي لها العزاء بولدها الوحيد الباقي بقربها من أبنائها ، خاصة أنها كانت تشاهد إنجازاته وإستفادة الناس من خبراته وأفكاره وإحسانه إليهم ، وتعاطفهم معه ، وإلتفافهم حوله ، وكانت دائمة الدعاء له والإفتخار به ، وظلت تعمل وتدير الرزق الذي تركه زوجها ، رغم طلب الدكتور والأقارب منها أن ترتاح ، ولكن إخت الرجال أم نعمة الله لا تؤمن بأي معنى للحياة بدون عمل وإنتاج ، خاصة أن صحتها

بقيت قادرة على الإستجابة لإرادتها الحديدية التي لا تعرف الكلل أو الملل.

شكرالله كرم ، يعيش مآسي الحرب العالمية الثانية

شكرالله كرم الذي ولد في الحرب العالمية الأولى التي عانى فيها الناس ويلات الجوع والأمراض والتجنيد الإجباري والفقر والموت ، بدأ يشعر في بداية حياته العملية وبعد وفاة والده بإقتراب الحرب العالمية الثانية ، وقد كانت الخيام في تلك الحرب منطقة مواجهة بين الدول العظمى المتحاربة وحصلت فيها معركة حامية الوطيس بين دول المحور بزعامة ألمانيا النازية ، ودول الحلفاء بزعامة بريطانيا وقوات فرنسا الحرة ، وكانت هذه المعركة قريبة من المنزل الذي كان يسكن فيه الدكتور شكرالله كرم مع والدته ، لأن منزله كان يعتبر من المنازل الواقعة أقصى الخيام شمالا ، ويبعد مئات الأمتار عن الموقع الذي أنشأته قوات فيشي في أول منطقة جبلي في الخيام ، حيث يروي الخياميون أنه نتيجة المعركة والمواجهة المباشرة بين المتحاربين تعرضت الخيام لقصف مدفعي عنيف من بطاريات المدفعية التي نصبها الجيش الإنكليزي في جنوب سهل الخيام كما أغارت الطائرات الإنكليزية على موقع قوات فيشى في منطقة الجلاحية ، وبعد عملية القصف المركزة ، شنت قوات الحلفاء هجوماً عنيفاً على الموقع وحصلت مواجهة بالسلاح الأبيض في محيط مركز قوات فيشي والذي لم يكن يبعد كثيراً عن منزل الدكتور شكرالله كرم ، وقد إستمرت المواجهات بين الجيوش المتحاربة على أرض الخيام مدة 36 يوم وتهجَّر خلالها عدد كبير من العائلات الخيامية إلى منطقة حلتا في سفح جبل الشيخ ، حيث إنتشروا في بساتين التين والزيتون وبعض الكهوف الموجودة في تلك المنطقة ، وروى كثير من الخياميين الذي عاينوا مواقع المواجهات في منطقة الجلاحية ، بعد إنتهاء المعارك التي حصلت فيها عمليات كرٍّ وفرٍّ كثيرة أن مئات القتلى والجرحى ظلت فيها الجثث منتشرة على مساحة واسعة من أرض المعركة ، لفترة طويلة ، حتى أنتنت فيها تلك الجثث وإنبعثت منها روائح لا تحتمل ، قبل أن تدفن هذه الجثث في مقابر جماعية ، وهنا كان للدكتور شكرالله كرم مشاركة فاعلة في إسعاف ومداواة الجرحى بغض النظر عن إنتمائهم وبغض النظر عن موقف الدكتور السياسي من الأنظمة التي ينتمي إليها هؤلاء الجنود ، لأن الغلبة في مثل هذه الحالات لدى الطبيب الشاب هو للشعور الإنساني المطلق ولتخفيف آلام الجرحى المتألمين والمعذبين بقدر الإستطاعة ، بغض عن النظر عن جنسيات وإنتماء هؤلاء الجرحى والمصابين ، الذين يعرف الدكتور شكرالله كرم في قرارة نفسه أنَّ أنظمة غازية ومحتلة صاحبة مشاريع معادية لإنسان هذه المنطقة ، هي التي تأتي بجيش غالبيته من المرتزقة الأفارقة الذين تلزمهم بريطانيا على خوض حروبها التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، ورغم ذلك فقد شاهد الناس كما شاهدت القوات المتحاربة ، الدور الإنساني اللافت الذي قدمه الدكتور شكرالله كرم بكل صدق وتفانٍ وإخلاص ، فقررت قيادة جيش الحلفاء في المنطقة أن تقدم له بعد إنتهاء المعركة ، هدية شكر وما يعرف بوسام الخدمة الإنسانية في زمن الحرب ، ولكن الدكتور الإنسان ، شكَرَ الذين عرضوا عليه تقديم الوسام والهدية وطلب منهم تقديمهما إلى عائلتين محتاجتين من أبناء الخيام لمساعدتهما في شراء ما يحتاجان إليه ، وهكذا إندهشت لجنة جيش الحلفاء من هذا الموقف المستهجن من الطبيب الخيامي الشاب وهم الذين لم يكونو مدركين لحقيقة الدافع لدى الدكتور شكرالله كرم لمعالجة جنودهم في أرض المعركة ، ولم يكونوا قادرين على إستيعاب أن أمثال شكرالله كرم لا يستثمرون إلا في خدمة الناس المحتاجين أياً كان هؤلاء المحتاجين ، ولا طمع له في وسام أو تقدير أو هدية ، وهنا تحديدا يظهر معدن عظمة الرجال ، الأمر الذي يحتاج إلى أصحاب قلوب واعية لإدراكه . وفي النهاية إستجابت لجنة جيش الحلفاء لطلب الدكتور النبيل والمؤثر وهذا ما كان يحصل أمام أي عرض مماثل يقدَّم للدكتور شكرالله ، فكان يكبر في عيون محبيه ومريديه ويُقدَّر في عيون الحاقدين عليه ولكنهم يظلوا حاسدين له ويزداد حقدهم عليه ويتضاعف ، لأنهم كانوا يتأذون من هذا المستوى في نبل أخلاقه وصدق سريرته ، الذَيْنِ كانا يزيدان الناس إقتناعاً بالدكتور وبنهجه ، ومن حيث لا يقصد ، كان الدكتور شكرالله يفضح بسلوكه هذا كل المدَّعين بأنهم حاملون لهمِّ الناس وهم لا يقدمون لهم شيئاً يذكر رغم إستطاعتهم وقدرتهم على فعل الكثير.

وقبل مغادرة هذه النقطة تجدر الإشارة إلى حصول مجزرة في الخيام خلال الحرب العالمية الثانية ، نتيجة ملاحقة طائرة حربية إنكليزية لخيَّال خيامي هو عبدالله نصار، والذي حصل أن عبدالله كان عائداً إلى منزل اهله في الخيام ، في منطقة العريض الغربي قرب منزل الحاج خليل حيدر ، وكان سكان الحي يختبؤون نتيجة ظروف الحرب الدائرة في المنطقة في بيت أهله الذي دخله ، ، ولمجرد الشبهة ودون وجود معلومات مؤكدة لدى قائد الطائرة ، حول المنزل الذي دخل إليه عبدالله نصَّار ، إن كان منزلاً عادياً أو مركزاً عسكرياً لقوات فيشي . قامت الطائرة بقصف ذلك المنزل ودمّرته فوق رؤوس المختبئين فيه ، وقد إستشهد في تلك الواقعة عدد كبير من النساء والأطفال والرجال ، ومنهم الخيال عبدالله نصار وزوجته وسعيد مهنا ومحمد قاسم باشا وأخوه وأسعد خليل الجلبوط وعلي محمد عليان ، ولا شك أن الخياميين بعد حصول تلك المذبحة الأليمة إستنجدوا بالدكتور شكرالله كرم ليعالج جرحاهم ، ولا شك أن الطبيب الشاب شعر بعظمة المأساة والمظلومية التي وقعت على أهله الذين يدفعون ثمن صراع دائر بين قوى آتية من خلف البحار البعيدة نتيجة أطماع وطباع وغايات عدوانية ضدَّ الشعوب المستضعفة . وقد ساهم هذا النوع من الأحداث في إنضاج تجربة الدكتور شكرالله كرم وزاد تعاطفه مع اهله الخياميين وسكان المنطقة عموماً ، نتيجة مظلوميتهم ونتيجة إعتداء القوى الساعية للهيمنة على بلادهم وثرواتهم وآمالهم وأحلامهم .

ومن الأحداث المهمة التي حصلت في معارك الحرب العالمية الثانية أيضاً ، والتي دارت رحاها في الخيام ، يذكر محمد علي هيثم (إبو أسعد) ، أنه في العام 1942 كان هو في سن الخامسة عشر ، وفيما كان يهم بالدخول إلى ساحة الخيام تفاجأ بوجود جنود فرنسيين راجلين تابعين لحكومة فيشي ، ومعهم ظباط يركبون على ضهور الخيل ويسير أمامهم حوالي خمسين خيامي من الفتية والشباب والعجزة ، يرفعون أيديهم فوق رؤوسهم ، حيث كان الفرنسيون يستخدمونهم كدروع بشرية أثناء مهاجمتهم للثكنة العسكرية الواقعة في أعلى نقطة شمال الخيام ، وعندما شاهد الجنود الفرنسيون محمد علي هيثم ضموه إلى الدرع البشري المستخدمينه في هجومهم ، فمشى معهم مسافة ، ثمَّ تحيَّن الفرصة وهرب مسرعاً داخل أحد الأزقة ونجى بنفسه منهم ، وقد علم لاحقاً أنهم تعرضوا لإطلاق نار من الثكنة ، وتمكن الأهالي من الفرار من أمام الجنود الفرنسيين وعادوا إلى منازلهم .


* المصادر

زكي إلياس ونا

د.كرم شكرالله كرم

م. مروان ضاهر

علي عبد الحسن عواضة

إبراهيم البصبوص

خليل بطرس حشمة

إبراهيم خليل سمور

محمد علي هيثم

نايف علي مرعي

عبد الأمير أسعد مهنا

حسين علي رشيدي

عاطف أبو عازر

عبد الأمير علي مهنا

* عدنان إبراهيم سمور

باحث عن الحقيقة.

12/03/2022

تعليقات: