شكل انقطاع الأدوية رعباً في نفوس المسنين (الأرشيف، المدن)
تعاني دور العجزة في لبنان منذ بداية الأزمة الاقتصادية، من ارتفاع عدد طلبات لجوء مواطنين إليها، من غير القادرين على تلبية احتياجات أهلهم المسنين. وهناك اتصالات يومية كثيرة من أشخاصٍ غير مسنين، بل في أعمارٍ بين الأربعين والخمسين وحتى الثلاثين، يتحدثون عن حاجتهم لمكانٍ يأويهم بعدما فقدوا أعمالهم ومصادر دخلهم بسبب الانهيار الاقتصادي.
وأدت هجرة ألوف العاملات الأجنبيات اللواتي كنَّ ترعين كبار السن في منازلهم، وكذلك هجرة الشباب إلى خارج لبنان، وتراجع الإقبال على الزواج وتدني نسبة الخصوبة، وارتفاع نسبة البطالة وتفاقم الفقر.. أدت هذه الظواهر مجتمعة إلى ارتفاع الطلب على المآوي ودور الرعاية، لما تؤمنه من مأكل ومشرب ومنامة. وهذا فيما الدولة تفرض شروطاً على دور الرعاية، فتمنعها من استقبال أي شخصٍ لم يتعد عمره 65 سنة.
عجز دور الرعاية
ولم تسلم دور الرعاية من الأزمة الاقتصادية التي تعرِّض حياة المسنين إلى الموت في حالات كثيرة. فهي لم تعد قادرة على رعاية المسنين، وباتت خدماتها تقتصر على الأساسيات الضرورية للعيش فقط. ويؤكد المدير التنفيذي في دار الرعاية الماروني، مالك مارون، في حديثه إلى "المدن"، أن الوضع صعب جداً مع تفاقم الأزمة المالية، وأن المؤسسة في طريقها إلى الإقفال إذا لم تتخذ الحكومة إجراءات المناسبة لمساعدتها.
ويضم المركز أكثر من 80 مسناً يتوزعون على غرف الدار ويعانون من حالات صحية متنوعة. وحسب مارون، ارتفعت الكلفة اليومية لكل مسنٍ إلى 330 ألف ليرة لبنانية للشخص الواحد، بسبب انهيار الليرة اللبنانية. وهي تتوزع على طعام وحاجات خاصة كالحفاضات والأدوية ومستحضرات تنظيف. وعليه، فإن كلفة كل مسن تصل إلى أكثر من 10 مليون ليرة لبنانية شهرياً.
تقاعس الحكومة
وتقدم وزارة الصحة بدل إقامة يومي عن كل مسن يبلغ 26300 ليرة، وتقدم وزارة الشؤون الاجتماعية 17500 ليرة لبنانية. ولا يمكن للمسن الاستفادة من مساعدة الوزارتين معاً، بل عليه اختيار واحدة فقط. وعلى الرغم من كل النداءات التي تطلقها دور الرعاية، طالبةً من الدولة تقديم مساعدات نقدية إضافية، إلا أنها تتنصّل، وتجيب: "لا نملك المال الكافي، الدولة مفلسة، وفي انتظار الموازنة".
ومن جهة أخرى، تعتمد مؤسسات الرعاية بشكل كبير على المساعدات الخيرية، التي تقدّم لها من المقيمين والمغتربين. لكن حجز الأموال في المصارف، وصعوبة الوضع المعيشي، قلصتا هذه المساعدات، إضافة إلى أن أولاد المسنين عجزوا عن تقديم أي مبالغ مالية شهرية لأهاليهم، بسبب وضعهم المادي المتردي.
إطفاء المولدات الكهربائية
وعانت دور الرعاية من اشتداد أزمة المحروقات، ومن صعوبة تأمين مادة المازوت لتلبي حاجات المسنين. تحتاج المؤسسة يومياً إلى أكثر من 500 ليتر من مادة المازوت، ويقدر ثمنها بحوالى 1000$.
ولأنها عاجزة عن تأمين هذا المبلغ يومياً بسبب ارتفاع سعر الصرف اليومي، أجبرت على إطفاء المولدات الكهربائية لساعات عدة خلال النهار الواحد. فحرم المسنون من وسائل التدفئة. علماً أن الطاقة الشمسية لا يمكنها تأمين احتياجات المؤسسة وخدماتها. لذا، لم يكن أمامها أي خيارٍ آخر سوى الاعتماد على أشعة الشمس اليومية لتزويد غرف المسنين بالنور، وتزُويّدهم خلال أيام العواصف الشتائية القاسية ببطانيات سميكة وأكواب من الزنجبيل الساخن لتدفئتهم. ثم عمدوا إلى إطفاء التلفزيون في بعض الأحيان، كي لا يتابع النزلاء تداعيات الأزمة الاقتصادية وانقطاع الأدوية، حفاظاً على سلامتهم النفسية.
أطعمة بديلة
وعمدت دور العجزة ومؤسسات الرعاية إلى تغيير النظام الغذائي للمسنين، بسبب ارتفاع أسعار السلع. فتخلّت عن بعض الأطعمة واستبدلتها بأصناف أخرى، وحاولت الحفاظ على كل العناصر الغذائية التي يحتاجها المسنون يومياً.
فتغيرت أصناف وجباتهم اليومية: استبدلت وجبات الفطور التي كانت تتضمن البيض والألبان والأجبان، بالزعتر والزيت! أما وجبات الغذاء، فتحولت إلى أطباقٍ خالية من اللحوم والدجاج إلا في المناسبات. واعتمدت الدور على المساعدات الغذائية التي تصلهم بين فترة وأخرى.
انقطاع الأدوية والحفاضات
حاولت مؤسسات الرعاية توفير الخدمات الأساسية للعجزة. لكن ارتفاع الأسعار الجنوني، أجبرها على المس بالحاجيات الخاصة. فارتفاع أسعار الحفاضات، أدى إلى تقليل استعمالها: "كنا نبدّل حفاضات المسنين 4 إلى 5 مرات يومياً. أما اليوم فتدنت إلى مرتين أو ثلاث. فالحفاض الواحد يكلف 20 ألف ليرة، وهي غير متوفرة في السوق".
وشكل انقطاع الأدوية رعباً في نفوس المسنين الذين باتوا يتوقعون موتهم بين حين وآخر. وعجزت دور الرعاية عن تأمين الأدوية المطلوبة للمسنين الذين يعانون من أمراض مزمنة. واستعانت الدور بالمغتربين لتأمين الأدوية المفقودة من السوق من خارج لبنان. فتكبدت كلفة باهظة لتأمين البعض منها، بعد رفع الدعم عنها وعدم مساعدة الدولة على تأمينها. وبسبب ارتفاع أسعار بعض الأدوية الجنوني، استعانت الدور بأطباء مختصين لإيجاد أدوية بديلة عن الأدوية المفقودة.
يواجه المسنون إذا خريف أعمارهم بلا أمان وبلا رعاية، في الصقيع وقلة الطعام. ويخافون من الموت في غرف المشافي الموحشة، أو على أعتابها، بلا ضمانٍ يكفلهم.
ويعلو أنينهم في أروقة دور الرعاية التي لم تعد إسماً على مسمى، بل صارت خيارهم الوحيد بديلاً عن الشارع وانعدام المعيل. هم يتمنون الموت يومياً كي لا يكونوا عبئاً على أحدٍ. فيواجهون أوجاعهم بصمتٍ أمام عيون قاسية أو بكماء. هكذا هي أحوال مسنّي لبنان!
تعليقات: