العقيد عدنان المالكي
تاريخ مهنة الطب في الخيام.. الجزء(7)
نكبة فلسطين
أدرك شكرالله كرم باكراً خطورة المشروع الصهيوني، الذي خطَّطت له دول الغرب الإستعمارية، وقامت بزرع الكيان المصطنع اسرائيل مكان فلسطين، ليكون بؤرة إستنزاف لشعوب المنطقة، وقد كمِّل دور هذا الكيان، مشروع تمزيق وشرذمة للمنطقة بواسطة إتفاقية سايكس بيكو المشؤومة، التي قسمت المنطقة بأسلوب يبقي فيها عوامل توتر وتناحر مستدامة، ويظل الغرب يغذي هذه الإنقسامات والتوترات، ويعمل بكلِّ طاقاته لإعاقة أي مشروع نهضة حقيقي لشعوب المنطقة، يمكنه أي هذا المشروع النهضوي أن يساهم في تحريرها وخلاصها من هيمنته وتحكمه بمقدراتها وثرواتها ومواردها. لذلك عندما بدأت إرهاصات تأسيس وطن للصهاينة على ارض فلسطين، كان شكرالله كرم كغيره من الوطنيين الاحرار الشرفاء من أبناء المنطقة، متعاوناً ومتضامناً وداعما للشعب الفلسطيني، الذي بدأ جزء منه يتعرض لعملية إبادة، والباقين صاروا يتعرضون لعملية طردٍ من أرضهم بأسلوب ممنهج ومنظم، وبدأت وفود الفلسطينيين اللاجئين على أثرِ هذه الهجمة الظالمة الشعواء، يصلون إلى الخيام، فما كان من الطبيب الوحيد يومها، الدكتور شكرالله كرم، إلا أن يبادر إلى تقديم كل ما يمكنه أن يقدم، لمعالجة آلام هؤلاء اللاجئين، علَّه يستطيع أن يخفف بعض معاناتهم، فحوَّل بيته الذي يسكن فيه مع أسرته، إلى مركز طبي ومستشفى ميداني، عالج فيه المصابين والجرحى الوافدين من اللاجئين الفلسطينيين ومن جيش الإنقاذ، كما إهتم بالأمور الصحية وتقديم المساعدات الإجتماعية والإنسانية للنازحين وتعاون مع المنظمات الإنسانية والمبادرات الشبابية في دعم عرب الحولة ومنطقة الجليل، الذين توزعوا في بيوت الخياميين الذين كانت تربطهم بهم علاقات وصداقات نشأت خلال تنقل التجار الخياميين (المكارية) وغيرهم الذين كانوا يتاجرون أو يعملون في أسواق قرى ومدن فلسطين قبل النكبة، كما عادت عام 1948 إلى الخيام عشرات العائلات الخيامية، التي كانت تقيم في فلسطين حيث كان يعمل أفراد منها، خاصة في مدينة حيفا ومحيطها.
وكانت تربط الدكتور شكرالله كرم صداقة شخصية بالظابط العربي السوري العقيد عدنان المالكي الذي إنضم إلى القوات العربية المقاتلة في فلسطين ضد العصابات الصهيونية عام 1948، وشارك في معركة (تل الريش) ضد العصابات الصهيونية وإنتصر عليهم، كما تمكن من المساهمة في فك الحصار عن جيش الإنقاذ على الجبهة اللبنانية.
الخيام تقدم أول شهيد على طريق تحرير فلسطين
وتجدر الإشارة أن مجموعة من الشباب الخياميين المتحمسين، إنضموا للقتال في معركة المالكية الشهيرة التي حصلت شمال فلسطين، وقد قاتل هؤلاء المقاومون الشجعان إلى جانب أبطال الجيش اللبناني، بقيادة العقيد محمد زغيب، وسطروا معركة مشهودلهم فيها باستبسالم وتضحيتهم، دفاعا عن فلسطين الحبيبة وشعبها المظلوم. ولا زالت ذاكرة الخياميين تحفظ، كيف ذهب حسين قاسم وهبي وإبن عمه علي حسين وهبي (أبو حسين) إلى المالكية، وشاركا مشاركة مباشرة وفاعلة، في الدفاع عن المالكية، ضد هجمات العصابات الصهيونية، وكان لعلي حسين وهبي أخ يدعى محمد، يحمل في جسده آثار إصابة سابقة بداء السحايا، وقد أرسلته والدته إلى المالكية ليعود مع أخيه وإبن عمه الذين كان لكلٍّ منهما أسرة وأطفال هم بأمسِّ الحاجة إليهما، وعندما وصل محمد إلى المالكية ووجد ابن عمه حسين وأخاه علي، أصرَّ عليهما بالعودة معه إلى الخيام، وعندما شعر بوجود ممانعة شديدة منهما للعودة معه، قال لهما "أنا سأبقى معكما لنستشهد هنا جميعاً، عندها أشفقا عليه نظراً لوضعه الصحي وطلب حسين من إبن عمِّه علي العودة مع أخيه المريض محمد حفاظاً على سلامتهما، وهكذا ودّعَ الأخوان علي ومحمد إبن عمهما حسين وعادا إلى الخيام، وظل حسين يقاتل مع إخوانه المجاهدين بكل عزم وقوة، حتى نال وسام الشهادة العظيم، ليكون أول شهيد خيامي قضى دفاعا عن فلسطين الحبيبة. وكان من الشباب الخياميين الذين شاركوا في معركة المالكية يوسف ضاهر خريس، الذي أبلى بلاءً حسناً في المواجهات التي جرت، وعندما أصيب العقيد محمد زغيب في المواجهات الدائرة، حمله يوسف على ظهره، ومشى به مسافة طويلة، حتى تمكن من إيصاله إلى سيارة، نقلته إلى مستشفى في مدينة صيدا، حيث عمل الأطباء على معالجة جراحه، وقبل أن يستشهد العقيد محمد زغيب، قال للعسكريين الذين حضروا إلى المستشفى لمتابعة أوضاعه، "ارجو منكم الإهتمام بيوسف ضاهر خريس"، نظراً لما شاهد منه من إستبسال وإيثار في المواجهات، ونظراً لما شاهد منه من عناية بإخوانه الجنود والمقاومين، ونتيجة لتلك التوصية، تمَّ تعيين يوسف ضاهر خريس جندياً في الجيش اللبناني، رغم كِبَرِ سِنِّه وظل يوسف يخدم في الجيش حتى وصل إلى سن التقاعد.
وقد جرى في الخيام تشييع حافل لحسين قاسم وهبي، شهيد الخيام الأول في الدفاع عن فلسطين، وتم إعتباره شهيداً من شهداء الجيش اللبناني، وقد ترك بعده طفلتين يتيمتين هما (فاطمة التي تزوجت من عبد الكريم سليمان وعلية المتزوجة من رضا العجوز) ولا يزال ضريح الشهيد حسين يوسف وهبي موجوداً وواضح المعالم في روضة الخيام، وهو يستحق من الخياميين إبرازه نظراً للتضحيات الكبرى التي قدَّمها. وللدور الطليعي الذي لعبه.
شكرالله كرم يبحث عن امل لخلاص امته
مثَّلت نكبة فلسطين حالة إنكسارٍ مؤلمةٍ لجيل شكرالله كرم، الذين كانوا يحلمون ويسعون بكلِّ جهدٍ لبناء وطن حرّ، سيِّد ٍ ومستقل، يكونوا فيه قادرين على صناعة مستقبل واعدٍ وجميلٍ لهم ولأبنائهم من بعدهم، وإذ بهم يتفاجؤون بكيان هجين مصطنع، غريب عن نسيجهم الإجتماعي المتجذر المنطقة وعن تاريخهم العريق، وقد قام بزراعة هذا الكيان السرطاني إستعمار معادٍ للإنسانية وكل ما يمت للأخلاق بصلة، وبمرور الزمن راح يتحول هذا الكيان، إلى همٍّ مؤرِّقٍ يعيش في قلوب وعقول شباب جيل لعب فيه شكرالله كرم دوراً نهضوياً، وريادياً مشرقاً وبارزاً، وقد ظل الطبيب الشاب شكرالله كرم، يرصد ويتابع أيَّ حركةِ مقاومةٍ في المنطقة، أو أي مشروع وحدةٍ عربيةٍ يمكن أن يمثل بارقة أمل تساهم في ردع المشروع الصهيوني الخبيث، ومن يقف خلفه من قوى الإستعمار، وقد وجد الدكتور شكرالله كرم وإخوانه الطليعيون من أبناء المنطقة، بارقة أمل كبرى في الدور القيادي المتقدم، الذي مثَّله جمال عبد الناصر، بالنسبة للجماهير العربية الساعية إلى تحرير فلسطين وتوحيد المنطقة، وقد تمكن جمال عبد الناصر في العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين، أن يقود حالة جماهيرية هادرة، على إمتداد العالم العربي، والتي كان بالإمكان، أن تحقق إنتصارات كبرى في مشروع الصراع مع الصهاينة، لولا حجم التآمر الهائل الذي قامت به الأنظمة الرجعية العربية، المرتهِنة إلى قوى الهيمنة العالمية. وهكذا كان الدكتور شكرالله كرم مع الشباب الوطني والعروبي من أبناء الخيام والمنطقة يتألمون كثيراً عند حصول أي إنتكاسة أو هزيمة، على غرار ما حصل في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وعلى غرار نكسة العام 1967، كما كانوا يفرحون ويستبشرون لأي بارقة أمل في مشروع الوحدة والتعاون العربي على غرار ما حصل يوم أُعلِن قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا في شباط من العام 1958.
شكرالله كرم يصالح أحمد بك الأسعد لأجل الوحدة العربية.
وتجدر الإشارة هنا أنه بعد وجود تباين واضح، ولفترة طويلة، في النهج السياسي، حصل تقارب بين الزعيم الإقطاعي الأبرز في منطقة جبل عامل أحمد بك الأسعد وبين الدكتور شكرالله كرم، الذي كان يعتبر من كبار الدعات للتخلص من ظلم وتسلط الإقطاع، نظراً لما يمثله من أذى للناس ومصادرة لحقوقهم، ومن إعاقة لنهوضهم وإلتحاقهم بركب التقدم والتطور الحضاري، ونظراً لما يمثله أيضاً من هدرٍ لطاقاتهم الإنسانية الخيرة.
وقد حصل هذا التقارب بسبب إتخاذ أحمد بك الأسعد موقفاً متضامناً مع مشروع الوحدة العربية بقيادة جمال عبد الناصر، في مواجهة المشروع الغربي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، والذي كان مناهضاً لهذه الوحدة التي تمثل خطراً على وجود الكيان الصهيوني الغاصب وأملاً للشعوب العربية.
وهنا يذكر كرم شكرالله كرم حادثة لطيفة كانت قد ساهمت في تقارب الرجلين بعد خلاف عميق بينهما دام طويلاً، وهي أن أم كامل زوجة أحمد بيك الأسعد كانت تقوم يوماً في زيارة إلى الخيام، وكانت تشارك في حضور مجلس عزاء في حسينية البلدة، وكان النسوة الخياميات ولشدة حبهم لأم كامل وتعلقهم بها يتحوكمون حولها بكثافة داخل الحسينية، الأمر الذي تسبب لها بضيق نفس لدرجة أغمي عليها داخل المجلس، فأسرع الشباب وقاموا بإستدعاء الدكتور شكرالله كرم على عجل لإنعاش أم كامل، وقد حضر الدكتور شكرالله على عجل إلى الحسينية، وعندما دخل وجد أعصاب الخياميات مشدودة من شدة القلق والتوتر على سلامة الحاجة أم كامل، وما هي إلا لحظات حتى نجح الدكتور بإنعشها، وإستيقظت الحاجة أم كامل وإستعادت وعيها، فبدأت النسوة تكبرن وتهلِّلن وتصلين على محمد وآل محمد، وصِرنَ يقتربن من الدكتور شكرالله كرم ويلمسن سترته تبركاً به نظرا لعظمة الإنجاز الذي قام به في إنعاش عزيزتهم أم كامل. وقد ساهمت هذه الحادثة بإذابة الجليد في العلاقات بين الرجلين، حيث عمد بعدها أحمد الأسعد إلى زيارة الخيام وتخصيص الدكتور شكرالله كرم بزيارة إلى منزله شكراً له وتقديراً لجهوده وعرفاناً منه بالجميل لما فعله في إنعاش زوجته يوم أغمي عليها.
شكرالله كرم يلتقي جمال عبد الناصر
ونتيجة لهذا التقارب قام أحمد الأسعد بإشراك الدكتور شكرالله كرم بالوفد الذي إلتقى الرئيس جمال عبد الناصر في دمشق، لتهنئته بنجاح مشروع الوحدة العربية بين سوريا ومصر، وكان وفد جبل عامل يومها هو الوفد الاكبر من بين الوفود اللبنانية التي ذهبت إلى دمشق للقاء وتهنئة الرئيس جمال عبد الناصر بمشروع الوحدة العربية، وقد تألف ممثلو الوفد العاملي الذين التقوا جمال عبد الناصر يومها من خمسة أشخاص فقط هم ( أحمد بيك الأسعد - إبراهيم عبدالله - كامل الاسعد - ورفيق شاهين والدكتور شكرالله كرم).
ولا زال يذكر كرم شكرالله كرم، الذي كان عمره عام 1958 يوم حصل هذا اللقاء حوالي 15سنة، أن خاله الذي كان ظابطاً في الجيش السوري، إصطحبه إلى طرف المنصة التي أطل منها الرئيس جمال عبد الناصر على الجماهير المحتشدة في ساحات قصر الضيافة في دمشق، وكان يقف إلى جانب الرئيس عبد الناصر يومها (الإمام البدر) إمام اليمن ، وكان كلما ذكر جمال عبد الناصر في كلمته التي ألقاها أمام الجماهير، إسم رئيس وزراء العراق (بابان) الذي كان معارضاً لمشروع ناصر الوحدوي يومها، كان يتعالى هتاف الجماهير المحتشدة " الله أكبر على بابان".
الرحيل المفاجىء لقائد مشروع النهضة العربية
لشدة تأثره بجمال عبد الناصر وتيمناً بإسمه، سمى شكرالله كرم إبنه الأصغر جمال، وكان ينتظر مع رفاق دربه وأصدقائه خطاباته ومواقفه بشوق ولهفة، كما كان يبني عليه كجميع الأحرار العرب آمالاً وأحلاماً كباراً، لذلك كان تأثر شكرالله كرم شديدا بالرحيل المفاجىء لجمال عبد الناصر، حيث شعر بالفراغ الهائل الذي تركه القائد العربي الكبير خلفه. وقد عبَّر الدكتور شكرالله كرم عن الفجيعة التي شعر بها بعد وفاة ناصر، كما كان يسميه، وكانت الجماهير الخيامية قد إحتشدت وقامت بتشييع جنازة رمزية لجمال عبد الناصر جابت شوارع الخيام التي تكللت يومها بالسواد. وتم إنتخاب الدكتور شكرالله كرم ليلقي كلمة الخيام أمام الجماهير بهذه المناسبة الأليمة فقال:
"لقد كان أسبوع الآلام والغضب بوفاة ناصر، لقد كان عظيما بين العظماء، لا بل كان أعظم العرب وارفعهم قدراً، رفع إحترامهم في العالم، أطاح بالملكية وأمَّمَ القناة، ووزع الأرض على الفلاحين وبنى السد العالي، وصنع مصر، وكان أبرز وجوه العالم الثالث، وكان صديقاً للشرق ولم يكن عدواً للغرب، ساعد حركات التحرر في كل مكان."
إن هذه الكلمة المختصرة التي تركها الدكتور شكرالله كرم تظهر نموذجاً من النتاج المكتوب القليل الذي تركه الدكتور شكرالله كرم، والذي يلخص عمق الوعي والإنفتاح وبعد النظر لديه، كما يظهر مدى وقوفه الحاسم إلى جانب قضايا الشعوب المضطهدة، ويبدوا في هذه الكلمة المختصرة، أن شكرالله كرم كان صاحب رؤية في تحديد الصفات التي يجب أن يتمتع بها القائد المخلص لقضايا الناس وهمومهم، ليكون جديراً بإلتفاف الناس حول قيادته الواعية والمخلصة، ليصلوا معه إلى أهدافهم المرجوة، كما تظهر كلمته أيضاً مدى تطلع الدكتور شكرالله كرم إلى دور عربي فاعل ومؤثر على مستوى الشعوب المستضعفة على امتداد كلِّ العالم .
المصادر:
زكي إلياس ونا
د.كرم شكرالله كرم
م. مروان ضاهر
علي عبد الحسن عواضة
إبراهيم البصبوص
خليل بطرس حشمة
إبراهيم خليل سمور
محمد علي هيثم
نايف علي مرعي
عبد الأمير أسعد مهنا
حسين علي رشيدي
أحمد وهبي
خليل علي موسى خريس
عدنان إبراهيم سمور
باحث عن الحقيقة
20/03/2022
المرحوم الحاج علي قاسم وهبي ابو حسين
تعليقات: