ارتفعت تكاليف العزاء كثيرًا (Getty)
تعاني العائلات اللبنانيّة من انعدام الثقة بالسلطة ومكوناتها. وقبيل انهيار القطاع المصرفي أقفلت عائلات كثيرة حساباتها المصرفية، ووضعت أموالها في البيوت، فيما حجزت المصارف أموال المودعين.
في البقاع والجنوب -حيث اعتادت بعض العشائر والعائلات على تسيير شؤونها بنفسها بعيدًا إدارة مؤسسات الدولة- ابتكرت في خضم الانهيار الاقتصادي والمالي، بنوكًا عائلية وصناديق تبرعات لتسيير قروض صغيرة لأبنائها، بديلًا عن المصارف.
صندوق الأحزان العائلية
ففي البقاع، أقدم آل خليل، وهم عشيرة كبيرة في اللبوة، على جمع المال شهريًا من أفراد عشيرتهم الكبيرة، للتكافل والتضامن في ما بينهم، ومساندة بعضهم البعض في المآتم. فأنشأوا صندوقًا خاصًا بمناسبات الأحزان، لدفع تكاليف الدفن وإحياء ذكرى الأموات السنوية. فيتبرع كل فرد بمبلغٍ معين، ولما تحدث وفاة في العشيرة، تحصل عائلة الفقيد من صندوق الأحزان على المال اللازم لمراسم العزاء.
ويقول محمد، وهو من آل خليل، إن تكاليف العزاء ارتفعت كثيرًا: غسيل الميت يكلف حوالى مليون و500 ألف ليرة. وحفر القبر مليون و300 ألف. والشاهدة تكلف حوالى 700$، وسوى ذلك الكثير من البن للقهوة وسواها من المآكل عن روح الفقيد. ومن عادات العزاء أن تفتح أبواب منازل العائلة لأكثر من أيام ثلاثة لتقبل العزاء. فتولم مناسف اللحم والدجاج لتوزع عن روح الميت في هذه الأيام. ولدى كل حالة وفاة في العائلة، يذهب الجد الأكبر إلى بيوت أبناء الميت، ويدفع تكاليف العزاء من الصندوق. وعلى الرغم من تخليهم عن بعض العادات التي باتت اليوم باهظة الكلفة، لا يتهاونون بالعزاء أبدًا. فللميت حرمته وطقوس الموت مقدسة يجب القيام بها لأنها من العادات التي يجب ألا تختفي، رغم الانهيار الاقتصادي. وجاءت فكرة الصندوق بعد عجز بعض أبناء العائلة عن دفع التكاليف المذكورة. ومنذ ذاك الوقت يمول صندوق الأحزان مآتم العائلة.
جمعية آل جعفر
أما آل جعفر -وهم عشيرة كبيرة في بعلبك- فأنشأ شطر عشائري منهم جمعية خاصة به، وهي بمثابة مصرف يموله أبناء العشيرة. فيدفع كل منهم مبلغًا معينًا، يتفقون عليه في جلساتهم، ويسحب منه مبلغًا شهريًا حسب الاتفاق وعند الحاجة، . فيقدم كل فرد 100$ أو 150$ شهرياً.
وجاءت هذه الفكرة بعدما حُجزت أموال بعض من آل جعفر في المصارف، وعجزوا عن تحصيل ودائعهم، فكانت الجمعية هي الحل. ويلتزم أعضاء الجمعية بها ويرعى شؤونها كبير العشيرة، أي جدها الأكبر، الذي يكنون له الاحترام ولا يتجاوزونه أبدًا، بل يجلّون كلامه ورأيه دومًا ويستشيرونه في مشاكل العشيرة كلها. فهو الآمر والناهي. وهكذا، يستطيع كل منتسب للجمعية استدانة مبلغ ما من صندوقها، فيقضي به احتياجاته.
واحد من أعضاء الجمعية روى لـ"المدن" أنه استدان من صندوقها 2500$ منذ عدة أشهر. وهو أعزب في العقد الثالث، فاشترى بالمبلغ ليراتٍ من الذهب، لاعتباره أن الذهب لا يفقد قيمته أبدًا، بل ترتفع أسعاره باستمرار. وبهذه الطريقة يستطيع حفظ ماله والاستفادة منه لاحقًا من طريق بيع الليرات عند حاجته للدولار.
وهو يؤكد أن شطر العشيرة المنتسب إلى الجمعية ازداد تماسكًا. فشعر الجميع أنهم يد واحدة، وفي اتحادهم قادرون على مواجهة الصعوبات المعيشية. وخلال فترة تحضير المونة السنوية، تبرعوا بالمال للنساء التي تحضرها. فالبعض تبرع بالباذنجان، والبعض الآخر بالمكسرات، فجهزوا كميات كبيرة من المكدوس ووزعوها على أفراد العائلة. كما ساهموا في تحضير المخللات التي يعتبر تحضيرها من عادات أهل بعلبك السنوية. ووزعوا بعض الحصص الغذائية التي يحتاجونها خلال شهر رمضان، كالحبوب والأرز والزيت.
صندوق التكافل العائلي
في الجنوب جمعت عائلة جواد التبرعات الشهرية من أفراد العائلة الكبيرة، وأودعت الأموال عند مختار الضيعة الذي ينتمي للعائلة نفسها. وهي توزع عند الضرورة القصوى: تكاليف المستشفيات في حال المرض، والأفراح والمآتم، وإذا تخلف أحد أبناء العائلة عن دفع إيجار منزله.
ويقوم المقتدرون من العائلة بالتبرع بمبالغ معينة.أما أصحاب الدخل المحدود فيساهمون بمبالغ متواضعة. وهم غير ملزمين بأي مبلغ. والقسم الأكبر من التبرعات يأتي من أبنائها المغتربين الموزعين بين أميركا وألمانيا. وهم يقومون هناك بجمع تبرعات شهرية ويرسلونها إلى أهلهم في لبنان، عبر الويسترن يونيون، أو يحمل بعضهم المال معه عند زيارته لبنان.
وعائلة آل جواد كغيرها من العائلات الكبيرة، فقدت ثقتها بالقطاع المصرفي والدولة. وتقول الحاجة فاطمة، التي استفادت من صندوق العائلة، إنها تعرضت لوعكة صحية واحتاجت إلى عملية جراحية ضرورية، وهي أرملة في العقد السابع، وأم لشابين. وبسبب الظروف المعيشية الصعبة لم يستطيع أولادها تأمين تكاليف المستشفى. فاجتمع كبار العائلة وقرروا جمع المبلغ المطلوب لمساعدتها، وقدموا لها مبلغ 1000 دولار. وتقدم الجمعية مبالغ مالية تتعدى 30 مليون ليرة للمقبلين على الزواج.
تعليقات: