شكرالله كرم.. الطبيب الخيامي والإنسان الرمز (ج5)

الدكتور شكرالله كرم
الدكتور شكرالله كرم


تاريخ مهنة الطب في الخيام الجزء الثامن


عظمةٌ، يصنعها المزج بين المهنية المتفوقة والنبل البشري الخالص.

متابعة لسيرة حياة شكرالله كرم، لا بد من تخصيص جزء خاص بمآثر الرجل الطبية والإنسانية، خاصة أن شكرالله كرم، كان لديه تداخل كبير بين الشق المهني الطبي المتألق، وبين المشاعر الإنسانية النبيلة التي تجلت في أدائه وتعاطفه مع الفقراء من أبناء منطقته، وهذا المزج الصادق هو الذي أكسب إبن الخيام، وطبيب الفقراء هذا الموقع الطليعي المتقدم، الذي ترك أثراً بكل من عرفه، بحيث لم يبقَ بيت في الخيام أو منطقتها، إلا وللدكتور شكرالله كرم فيه خدمة وحكاية، يرويها أهل هذا البيت بتأثر وتعلق بالرجل، الذي لم تعهد المنطقة نموذجاً إنسانياً قبله، على شاكلته.


كيف يتقاضى شكرالله أجره.

لم يكن شكرالله كرم يتقاضى أجراً مباشراً من مرضاه الفقراء، الذين كانت نسبتهم مرتفعة جداً في النصف الأول من القرن العشرين، وكانوا يمثلون أغلبية أهالي الخيام والمنطقة, ولا زال يذكر الخياميون أنه حصل في مرات عديدة، أن يأتي الطبيب شكرالله لمعاينة مريض أو مريضة في بيتهم، وبعد إنتهائه من عمله، ومشاهداته لحالة الفقر المدقع التي يعاني منها أصحاب البيت، وعندما يبدأ الرجل بإدخال يديه إلى جيوبه أو تمد المرأة يدها إلى عبها بحثاً عن النقود ليدفعا للطبيب أجره، كان الدكتور شكرالله كرم يبلغهم وهو يبتسم أنه لا يريد إلا سلامتهم ويقول لهم : "إنَّ ما فعلته أمر بسيط لا يستحق الأجر" ويخرج من المنزل، ويخرج خلفه كلُّ أفراد الأسرة حيث يدعو له الكبارر بالتوفيق وأن يبارك الله له في رزقه وفي ذريته. وقد يتفاجأ البعض منهم أنه وضع مبلغاً من المال تحت وسادة المريض أو المريضة، علَّ هذا المبلغ يساهم في سد بعض حاجاتهم الكثيرة.

وكان الناس يهتمون بتقديم أجود ما لديهم من ضيافة عندما يدخل إلى بيوتهم مثل ( كاسة رز بحليب - كاسة لبن - صحن تين - بعض التمر أو بعض الحلوى إذا توفرت ) وكان هو يمازحهم ويلاطفهم ويسأل عن كبار السن ويترحم على موتاهم.

وكانوا بسبب تحمُّله للعناء من أجلهم دون مقابل يرسلون الهدايا إلى بيته عربون شكر لجهوده، وكانت هداياهم (سلة تين أو سلة بيض أو بعض اللبى في موسم ولادة الغنم والماعز أو كمية من الزهورات البرية) وكان يشكرهم على لطفهم ويقول لهم لا داعي لتتكلفوا أرجوكم.


شكرالله كرم ودفترالديون.

إقتنى شكرالله كرم دفتراً يسجل عليه ديون مرضاه، الذين لا تكون لديهم القدرة على دفع بدلات العلاج مباشرة رغم ضآلتها، لأنه لم يكن يطلب مقابل علاج مرضاه خاصة الفقراء منهم إلا مبالغ رمزية، وكان كثيراً ما يسامح من لا تساعده الأوضاع على السداد، وقد يطول الدين أحياناً سنوات ويبقى الطبيب يلبي مرضاه دون تأفف لأن رسالة الطبيب الحقيقي إنسانية قبل كل شيء، وكان للأساتذة والعسكر والمتقاعدين في القرى معتمدي قبض رواتب، بحيث يُحضِر معتمد القبض رواتب الموظفين الحكوميين آخر كل شهر ويأتي إلى ساحة البلدة حيث يَحضُر الدكتور شكرالله كرم ويستلم ما أمكن من ديونه ويراعي من كان يمر في ضائقة مالية بسبب ظروف خاصة يمر بها.

يروي خليل علي موسى، أنه إلتقى عصر أحد الأيام بالدكتور شكرالله كرم، قرب دكان عبد الامير عيسى في الساحة فقال له الدكتور"لي في ذمتك حساب"، وأخرج دفتر الديون من جيبه، فضحك خليل علي موسى وقال له" هذا صالح حسان، لماذا لا تطالبه بالدين الذي لك عليه؟ فأجابه الدكتور شكرالله أن صالح حسان يقضي الدين المتوجب عليه عندما يفلح لي كرم الزيتون في موسم الحراثة، وهكذا كان يتقاضى طبيب الفقراء شكرالله كرم، جزأً مهماً من ديونه بإستخدام مبدأ المقايضة مع أصحاب المهن والحرف والحوانيت في الخيام.

شكرالله كرم يمزق دفتر الديون.

لقد مثَّل يوم زفاف كرم شكرالله كرم عام 1974، مناسبة لتعبير الخياميين وأهالي منطقتها، عن مدى حبهم وإمتنانهم وتعلقهم بطبيب الفقراء ومفخرة الخيام والإنسانية، الدكتور شكرالله كرم. حيث حضر الخياميون بصغارهم وكبارهم وحتى العجزة، ليشاركوا شكرالله كرم وأسرته فرحتهم وكذلك فعلت فعاليات كثيرة من سكان المنطقة، وكانت العروس فرنسية تدعى (آن ماري) وهي زميلة دراسة للعريس في كلية الطب وكانت يتيمة الأب، وقد صُدِمَت العروس ووالدتها كما صدم المرافقون للعريس في موكب العرس القادم من بيروت، بحجم الحشود التي بدأت تستعد لإستقبال موكب العرس منذ الصباح الباكر على مداخل برج الملوك والقليعة وجديدة مرجعيون والخيام، وعندما وصل الموكب ألى برج الملوك أولاً، أنزل الحشد العريسين، وتم حملهما على الأكتاف، وبدأت النسوة تجلِّي العريسين وتزغرد، وبدأت الجماهير المحتشدة بالتصفيق ورمي الورود والأرز على الحضور وعلى العريسين، وكانت فرحة غامرة قلما شهدت المنطقة مثلها، وبهذا المستوى من الصدق والعفوية، خاصة أن المشاركة كانت من كل ابناء المنطقة وبمشاركة كل الفئات الشعبية ومن كافة الطوائف والمذاهب ومن كافة الطبقات الإجتماعية، وقد تكرر هذا المشهد في القليعة ومرجعيون، وعندما وصل موكب العريسين إلى الخيام كانت الشوارع المحيطة ببيت الدكتور شكرالله كرم تغصُّ بالمحتشدين وكانت فرحة لم تشهد الخيام سابقة لها، لدرجة أن العريسين دخلا إلى منزلهما بصعوبة، وخرجا منه إلى الكنيسة للتكليل أيضاً بصعوبة، حيث رافق العروس بدل والدها المتوفي، الدكتور نجيب أبو حيدر وزير التربية في حكومة الشباب والدكتور سمير الحاج رئيس دائرة الجراحة النسائية في مستشفى الجامعة الاميركية وهما صديقان للعريس. وقد إكتظت الكنيسة بالحضور لدرجة أربكت الخوري والضيوف الحاضرين.

في نهاية إحتفال العرس الحدث، تأثر الدكتور شكرالله كرم لما رآه بأم عينه من عاطفة صادقة غمره بها الخياميون وأهالي منطقة مرجعيون تقديراً منهم لخدماته الجليلة لهم وإخلاصه في خدمتهم، فوقف على شرفة منزله وحمل دفتر الديون أمام الحاضرين ومزقه إرباً وقال للمحتشدين "هذا العمل يا اهل الخيام إمتنان من شكرالله كرم لكم فرداً فرداً، على هذه الحفاوة التي غمرتموني وغمرتم أسرتي بها. حقاً أنتم جديرون بالتضحية التي ضحيتها من أجلكم".


شكرالله كرم خبير بأمراض الخيام الوراثية

نظراً للفترة الزمنية الطويلة التي أمضاها الدكتور شكرالله كرم وهو يعالج الأجيال المتعاقبة من أبناء بلدته والمنطقة، صار قادراً على تحديد وتقدير الأمراض المتوارثة من جيل إلى جيل، عبر القرابات المتداخلة بواسطة الآباء والأمهات وتشعباتها الكثيرة، كما سمحت له مهنته وحاجة الناس إلى خبراته الطبية وغير الطبية، أن يدخل كل بيت من بيوت الخيام، بدون إستثناء، وأن يتعرف على أفراد الأسر فرداً فرداً، وهو الذي كان يعرف جيل آبائهم وأجدادهم من خلال علاقة والديه بهؤلاء الناس الذين أحبهم وتعلق بهم، وقد إستفاد في تنظيم وتوظيف هذه المعلومات بذاكرة حادة تميز بها منذ أيام طفولته الأولى.

نتيجة لكفاءته وذكائه فقد تمتع شكرالله كرم بجرأة في تشخيص الأمراض وتوقع ما يمكن أن يحصل للمريض بسبب مرضه في مستقبل الأيام، وغالباً ما كانت تقديراته تصدق وتتحقق، الأمر الذي ضاعف ثقة الناس بكفاءته وقدراته على التشخيص والتقدير، لأن هذا النوع من الأداء العلاجي لم يكن لهم سابق تجربة معه.

ومن خلال معاينة الناس لهذه التجارب مع الدكتور شكرالله كرم حصل تصنيف غير معلن للعائلات، وقابلية إنتشار أنواع محددة من هذه الأمراض في بعض الأسر، فبعض العائلات مثلاً يكثر فيها إحتمال الإصابة بأمراض القلب، وعائلات أخرى معرَّضة للإصابة بأمراض الجهاز الهضمي أو الجهاز التنفسي أو السرطان أو الزهايمر وغيرها الكثير.


من مآثر الدكتور شكرالله كرم الطبية

تدخل في الحالات الطارئة.

عَلِم شكرالله كرم أن زوجة جاره علي محمد عطوي إستدعت الداية للولادة وكان يحتمل أن تكون الولادة متعسرة، وهو الذي أنقذ أعداد كبيرة من النساء مع أطفالهم نتييجة تدخله في لحظات حرجة من عمليات الولادة، وقد مرَّ الدكتور من أمام دكان محمد عطوي (عنتر) وسأله "كيف الأوضاع بالنسبة لولادة أم حسين؟" فأجابه أن الداية حضرت منذ بعض الوقت ونحن ننتظر، فذهب الدكتور شكرالله مشوار وغاب حوالي ساعة ونصف، وأثناء عودته سأل جاره محمد عطوي مجدداً " طَمِّنِّي شو صار؟" فقال له يبدو أن الولادة متعسرة، وبمجرد أن سمع من جاره هذه الإجابة حمل حقيبته ودخل مسرعاً إلى البيت، حيث كانت المرأة تعاني من مخاض الولادة، وكانت الداية وبعض الاقارب يحيطون بها وهم يشعرون بحالة من اليأس والإرباك، فقام الطبيب بفحص ضغطها ووجده هابطاً إلى مستوى خطير ومقلق، فعمل على إنعاشها ومساعدتها حتى تحسن وضعها وتمكنت في نهاية المطاف بأن تضع مولودها أسعد بخير وسلام. ويروي ولدها عبدالله، أنها من شدة المعاناة والإنهاك في عملية الولادة، بقيت مريضة بعد وضع طفلها لمدة تزيد عن الشهر حتى تعافت وإستعادت نشاطها نتيجة متابعة الدكتور شكرالله كرم لوضعها الصحي وهو الذي لولا مبادرته وتدخُّله في الوقت المناسب لكانت حصلت مأساة عائلية لا يعلم غير الله مدى تأثيرها وتداعياتها على جميع أفراد هذه الأسرة.

لا شكَّ أن مثل هذه الوقائع كانت تصبح مادة يتناقلها الناس في منازلهم ومحلاتهم في الخيام وتزيد من الرصيد المعنوي والذي هو رصيد عظيم بالأصل لطبيب الفقراء لدى الخياميين وأهل المنطقة عموماً.

ولأسرتنا قصة مشابهة مع الدكتور شكرالله كرم، مفادها أن أمي تعسرت في ولادتي حيث عجزت الداية التي كانت تساعدها عن إنجاز مهمتها، الأمر الذي حمل والدي على إستدعاء الدكتور شكرالله على وجه السرعة، وبعد معاينة الدكتور لوالدتي، قال لأبي: " يا إبراهيم طِير فيها على صيدا، لأن وضعها صعب" وبالفعل قام والدي بنقل والدتي إلى مستشفى رمزي الشاب في صيدا، حتى تمكنت بعد معاناة طويلة أن تلدني بسلام، ولولا تدخل الدكتور شكرالله في الوقت المناسب لكانت حياة أمي وحياتي مهدَّدتان، ولما كنتم تقرؤون اليوم سيرة حياة طبيب الفقراء الدكتور شكرالله كرم، الذي ندين له أنا ووالدتي ببقائنا احياء.

وكثيراً ما كان الدكتور شكرالله كرم يلتقي بأشخاص، ويرى علامات مرضية بادية على مُحيَّاهم، فيوقفهم وينبِّههم إلى ضرورة متابعة وضعهم الصحي قبل أن يتفاقم ويزداد سوءاً، على غرار ما يروي عنه زكي إلياس ونا، وهو أنَّ شيخ من المارية كان موجوداً في سوق الخميس في الخيام، وعندما رآه الدكتور شكرالله كرم ووجد حبة في خده، إقترب منه وأمعن النظر بالحبة، ثمَّ قال له "أتمنى عليك يا شيخ، أن تذهب غداً إلى المستشفى، لأن وضع الحبة التي في خدِّك لا يحتمل تأجيل العلاج. وبالفعل ذهب الشيخ في اليوم التالي إلى المستشفى، وقام بإجراء الفحوصات والتحاليل اللازمة، حيث تبين أنه مصاب بداء الدودة الكلبية، التي في حال إنتشارها في الجسم، تؤدي إلى وفاة المريض، وصَدف أن إصابة الشيخ كانت في بدايتها، لذلك تمّت معالجته ونجى بسبب التنبيه المبكر للدكتور شكرالله.

شكرالله كرم يوظف علاقاته لخدمة مرضاه .

يقول زكي إلياس ونا: "مرضت زوجةَ أخي ذات يوم وصارت بحاجة إلى إجراء عملية جراحية، ولم يكن بمقدور أخي تأمين بدلات العملية، فقصدت الدكتور شكرالله كرم وعرضت عليه الوضع كما هو، فسألني كم لديكم من المال؟ فأجبته أن ليس بمقدورنا تأمين أكثر من خمسين ليرة لبنانية، عندها فكَّر الدكتور شكرالله قليلاً ثم قال لي: "أعطني الخمسين ليرة" وكتب رسالة، ووضعها مع الخمسين ليرة في ظرف، وقال لي: "إذهب إلى رمزي الشاب، وسلِّم لي عليه، وسلِّمهُ هذه الرسالة"، وبالفعل ذهبنا أنا وأخي وزوجته، وسلمنا رمزي الشاب رسالة الدكتور شكرالله كرم، وبلغناه تحياته، وقد أدهشتنا ردَّة فعله، حيث إبتسم وقبَّل الرسالة، لأنها تذكِّره بحبيب عزيز وغالٍ على قلبه، ثم أدخل زوجةَ أخي إلى المستشفى وأجرى لها كل ما تحتاج إليه من تحاليل، وبعد ذلك أجرى لها العملية الجراحية، وشُفيت بإذن الله، ولم يتقاضى منا أي قرشٍ، زيادة على الخمسين ليرة التي كانت في الظرف، وكان كل ذلك إكراما وتقديرا لطبيب الفقراء الدكتور شكرالله كرم.


المصادر

1- كرم شكرالله كرم .

2- خليل علي موسى خريس. 3- إبراهيم خليل سمور .

4- عبدالله علي عطوي.

5- محمد إبراهيم ضاوي.

6-خليل ابراهيم سمور.


عدنان إبراهيم سمور.

باحث عن الحقيقة.

27/03/2022

تعليقات: