جرادي: كفانا بحثاً عن أوطان.. فلنبنِ وطناً (علي علوش)
الطبيب الياس جرادي مرشح للانتخابات النيابية على لائحة "معًا نحو التغيير" عن المقعد الأرثوذكسي في دائرة الجنوب الثالثة. وهو من بلدة إبل السّقي الجنوبية الحدودية، وللمرة الأولى ينخرط في العمل السياسي العام في منطقته وفي لبنان الذي عاد إليه سنة 2010. فمن هو الطبيب الياس جرادي، وكيف يقدّم نفسه مرسحًا للانتخابات؟
فنُّ الطاقة الإيجابية
في مكتبه بمستشفى بيروت التخصّصي للعين والأنف والأذن والحنجرة قرب المتحف الوطني، التقيتُ طبيب العيون الياس جرادي لنصف الساعة بين عمليتين جراحيتين، لأطّلع منه على دوافعه ورؤيته للترشُّح إلى الانتخابات النيابية عن المقعد الأرثوذكسي في دائرة الجنوب الثالثة.
كانت المستشفى خالية إلا من حلقة مساعديه الطبية صبيحة نهار الجمعة العظيمة في 15 نيسان الجاري. وكان يرتدي ثياب غرفة العمليات، منتظرًا تحضير مريضه الثاني لعملية جراحية. وأول ما لفتني في إطلالته شعره المبعثر الهائج مثل أجمةٍ صغيرة من عشب بريّ. جسمُهُ يميل إلى الطول والتناسق في حركته السريعة وحيويته الفائضة. وفي نهاية لقائنا صعدتُ خلفه من الطبقة الثالثة إلى الرابعة في المستشفى، فإذا به يجتاز كل ثلاثٍ من درجات السلم في حركة واحدة. وكنت سألتُه أثناء حديثنا عن مصدر طاقته الإيجابية، ليس الجسمانية فحسب بل النفسية والأخلاقية أيضًا، وإن كان كسِبها من إقامته وحياته وعمله في أميركا، إلى جانب إقباله على تمارين رياضية.
أعجبه السؤال واستحسنه في غمرة تدفّق كلامه المتسارع، وقال: علّمتني أميركا أن عليك السعي إلى ما تريده عملًا وشغلًا، فلا يظل قولًا وفكرة. والطاقة الإيجابية فنٌّ وإتقان، وتركيز على الإيجابيات في الحياة، لا على السلبيات. ويجب استثمار الطاقة بشغفٍ واندفاع وحب. ونحن لا نستجدي الحياة وفرح الحياة، بل نصنع الحياة والفرح بها. والشخص الغني مثلًا، غنيٌّ بالمال الذي يصرفه ويستثمره، وليس بالمال الذي يدّخره في المصرف. وأنا مثل معظم اللبنانيين، خسرتُ في المصارف الشطر الذي لم أستثمره من أموالي التي جنيتها من عملي في الخارج ونقلتها إلى لبنان. وعندما راح بعض أصدقائي يقولون لي أن أسحبها من المصرف وأحوّلها إلى الخارج عشيّة الأزمة المالية، رفضتُ ذلك معتبرًا أنه مخالف للخيار الذي أقدمتُ عليه شغوفًا بنقل إقامتي وعملي إلى بلدي ووطني، وحجَزَ المصرفُ ذاك الشطر من مالي.
شغف صوفيّ بالأرض والوطن
بعد دقائق قليلة من حديثنا كان كلامه قد أوحى لي -أنا المتشائم اليائس من أي نشاطٍ سياسي عام في لبنان اليوم- أنه شديد الحماسة والتفاؤل والإيجابية والاندفاع في وطنيته اللبنانية المستلّة كلماتها وعباراتها من أدبيات التعلّق البديهي الشغوف بالأرض والعمل والعطاء والوطن. أرضُ المنبت والولادة والأهل، والعمل فيها وإحيائها، طبيعةً ونبتًا وزراعة. لكنه شغف يميل إلى تصوِّفٍ وطني غنائي قديم ومتوارث، تلابسه حداثة شبابية حرّة ومنطلقة، ومنها يستمد طاقته وإرادته على انخراطه في العمل العام والترشُّح إلى الانتخابات النيابية المزمعة. ويشمل شغفه مشاريعه في إحياء العمل الزراعي وتحديثه في بلدته الجنوبية الحدودية، إبل السقي. وهي بلدة الحكّاء الراحل سلام الراسي، الشغوف بجمع تراث الأجداد من الأمثال الشعبية وروايتها وتدوينها، واشتهر بكتابه الأول "لئلا تضيع" في مطلع السبعينات. وكان الراسي موظفًا في مصلحة التعمير المكلّفة بإعادة إعمار ما دمّره زلزال ضرب بعض المناطق اللبنانية سنة 1956. وفي روايته حكايات أمثاله كان يلفظ في عاميته المحكية حرف القاف صحيحًا مشدّدًا، على طريق قدامى التقليديين، على خلاف تخفيفه ولفظه ألفًا في العاميّة المحدثة الدارجة.
وأنا المستمع إلى الطبيب الخمسيني اليوم، الياس جرادي ابن بلدة الراسي، استغربتُ لفظه حرف القاف على تلك الطريقة القليدية القديمة إياها، في محكيّته السريعة المتدافعة على لسانه. كأنه في هذا مقيم على ذلك الإرث أو التراث القديم الذي امّحى من ذاكرة مجايليه وأمثاله وعن ألسنتهم، منذ ما قبل شتات الحروب وهجراتها في لبنان.
من عمّر ما مات
الياس جرادي المولود سنة 1967 ابن أسرة عاميّة في إبل السّقي. فوالده كان "دركيًا" في سلك قوى الأمن الداخلي. وأسرته عصاميّة عاش أبناؤها الثمانية مع والدهم ووالدتهم على راتب "الدركي" المحدود والقليل، فتعلّموا جميعًا في مدارس رسمية، وتنقّلت إقامتهم من قريتهم الجنوبية إلى بعض بلدات البقاع، حسب تنقّل خدمة والدهم في السلك العسكري الحكومي. ولما عادت الأسرة سنة 1984 للإقامة في إبل السّقي، لم تدُمْ إقامتها طويلًا فيها بسبب الأوضاع الأمنية المضطربة. وروى إيلي: منذ صغري أدركتُ وأدرك إخوتي أننا إذا لم نعتمد على أنفسنا ونعمل في استنبات الأرض وزراعتها، لن نستطيع الذهاب إلى المدارس ونتعلّم، لأن راتب والدنا المتواضع لن يكفي معيشتنا، فنشأنا متطبّعين بطباع الفلاحين، ولا أزالُ على هذا الطبع، وعلى شغفي بالأرض وبرائحة ترابها حين ينهمر المطر في الشتوة الأولى، وحين كنتُ أعود من المدرسة وأبدّل ثيابي في البيت، وأذهب إلى الحقل وأعمل فيه حتى المساء.
ومن التعليم الثانوي الرسمي انتقل الياس جرادي إلى الجامعة اللبنانية. فدرس الطب وتخصّص في طبابة العين، ثم في جراحتها بجامعة في الولايات المتحدة الأميركية، حيث أمضى سنوات هناك بين الدراسة والعمل والأبحاث والمختبرات الطبية، قبل انتقاله للعمل في السعودية، ثم إلى دبي بين سنة 2004 وسنة 2010. ومن دون أن ينقطع عن دبي وأميركا، بدأ يتردّد إلى لبنان، ونقل عمله وإقامته إليه مع أسرته منذ سنة 2015. وهو يقول إنه منذ سنة 2010 بدأ رحلة استعادته وطنه لبنان وانتمائه إليه من جديد. والعودة هذه لم يكن هدفها البحث عن عمل في تخصّصه الطبي فقط، بل الشعور بانتماءٍ مفقود، لا يُستعاد ويتحقّق إلا بتلك العلاقة المباشرة، العملية والعاطفية بالأرض الموطن الأول والأخير. لذا تملّك في إبل السقي وقرية الماري الحدودية القريبة منها أرضًا زراعيةً تبلغ مساحتها 200 دونمًا، هي مساحة شغفه بالأرض وغرسها واستنباتها بساتين مثمرة، ليكون مزارعًا شغوفًا بعمله الذي يحب ويشعره بالانتماء إلى الوطن، وشغوفًا بمشهد الناس الذين يعملون في الأرض ويستنبتونها.
وفي حديثه شبه الصوفي عن شغفه بالأرض والوطن والعودة إليهما، تهيّأ لي أو ظننتُ أن هذا الشغف ينطوي على حنين رومنطيقي أليم، يريدُ صاحبُهُ بعث ماضٍ بلديّ قديم يتخيّله الياس أليفًا وممتلئًا بالفطرة والوئام والرضى، فيجدّده ويحدّثه بما كسبه من إقامته وحياته وعمله هناك بعيدًا من الأرض الأولى الأم التي عاد إليها بعد انقطاع، مشتعلًا بذاك الحنين الذي حوّله مشروعًا زراعيًا حديثًا، يعمل فيه مهندسون وخبراء ومزارعون من أبناء منطقته. وهو روى أنه قال لزوجته غداة عودته إلى لبنان إنه يريد العيش والإقامة في المكان الذي يشعر فيه أنه ترك الدنيا كلها وعاد إليه ويربطه به رباطٌ أصلي أول، كذاك الذي يربط الأميركيين بديارهم الأصلية الأولى أو الرحميّة، أماكن ولادتهم وأهلهم، تلك التي يتركون أعمالهم وديار إقامتهم ويعودون إليها في عُطل أعياد الميلاد والفصح.
هكذا عاد الياس إلى قريته الأولى إبل السقي، وأنشأ فيها مشروعه الزراعي الحديث، وشغَّل فيه كثيرين من أبناء القرية وجوارها. وهو ختم حديثه عن العودة قائلًا: أريد أن أشيّد بيتًا حيث أموت (وهو شيّده فعلًا)، وحين يتوافد الناس للعزاء بي، يجلسون دقائق تحت داليةٍ زرعتها، فيأكلون لقمة رحمة ويقولون: من عمّر ما مات.
جيل الأمل
وتحدّث الياس جرادي عن الجسم الطبي في لبنان، فقال إنه في الحضيض ويعيش مأساة أفرغته من معظم العاملين فيه، أطباء وممرضين ومتخصصين تقنيين وفي البحث. ثم استطرد قائلًا: لا قيامة لأمةٍ بلا أقانيم ثلاثة: التعليم والقضاء والصحة. وهذه قطاعات ضربتها بقوّة أزمة لبنان الراهنة. وقد يكون جيل الشباب هو الأمل في قيامة البلد من عثراته. فهم الفئة الأكثر تحرُّرًا في المجتمع، والرهان عليهم في الانتخابات المرتقبة، لأنهم يحملون روح الثورة والرغبة في التغيير والقدرة عليه. وقد يكون جيلي الذي عاش في الحرب وهمّشته الحرب، جيل التقوقع والهزيمة والهروب، وأسير هزيمته التي أردتُ الخروج منها بعودتي إلى لبنان والانخراط في العمل العام. وعندما يسألني البعض: لماذا تعود في موسم الهروب والهجرة؟ أقول: كفانا تيهًا وبحثًا عن أوطان. الوطنُ لا يمكن الحصول عليه بالمصادفات. الوطنُ يُبنى ولا يُعطى.
وفي هذا السياق استعاد محدثي قولًا من مقدمة ابن خلدون في الأعراب: يتنقل الأعرابي بحثًا عن الكلأ، بدل أن يزرع ويقيم ويستوطن. واللبناني مثل الأعرابي يهاجر بحثًا عن وطن بدل أن يبني وطنه وينشئه. وهو غالبًا ما يبحثُ عن شخصٍ يلقي عليه اللوم والمسؤولية عن مشكلته، فيلوم الزعيم والنظام بدل أن يلوم نفسه ويتساءل لماذا سلّم أمره للزعيم؟ 90 في المئة من اللبنانيين تعوّدوا الهتاف لزعمائهم: بالدم والروح. وقد تكون هذه الانتخابات فرصة اختبار لقدرة فئات واسعة من اللبنانيين على التغيير، وخصوصًا جيل الشباب.
تعليقات: