شهداء الجيش بسلاح العشائر: دم مهدور مرتين.. بلا عدالة

لا ملاحقة ولا محاكمة لمن يقتل جنود الجيش اللبناني (المدن)
لا ملاحقة ولا محاكمة لمن يقتل جنود الجيش اللبناني (المدن)


بعلبك- الهرمل أو "خزان الدم"، المحافظة اللبنانية المزدحمة بالتناقضات والاشتباكات والأزمات، المهملة والمهمشة على الصُعد كافة، لم يُتح لشبانها سوى حلم بوظيفة حكومية تؤمن معيشتهم، تمثلت غالبًا بالتطوع في المؤسسة العسكرية. لكن هذه الضمانة سرعان ما تتلاشى. فدماء هؤلاء الشبان تهدر في نزاعات مسلحة مع العشائر البقاعية وارتكابها الجرائم والأفعال اللاأخلاقية باسم عاداتها وتقاليدها. ولا مبادرة فعلية جادة من السلطات اللبنانية لوقف هذا التفلت وصدّه.


وعود وتأجيل

وعودٌ شتى وتأجيل مستمر. هذه هي كوةُ الأمل اليتيمة لأهالي فقدوا أبناءهم. عشرات من أفراد الجيش اللبناني قضوا في الأعوام الأخيرة، لا في صدّ عدوٍ خارجي ولا في الدفاع عن حدود وطنهم، بل في دوامة موت عشوائي ومجانيّ في مواجهة مسلحي عشائر متفلتين من سلطة القانون والدولة. ولا تزال الوعود الرسمية لذوي شهداء الجيش بالعدالة والقضاء والمؤسسة العسكريّة، وعودًا.

أفادت والدة جندي شهيد -فضلت عدم ذكر اسمها تجنبًا لمضايقات قد تلحق بها وبعائلتها، وقضى ابنها في مداهمة الجيش حيّ الشراونة أو حيّ الجعافرة في مدينة بعلبك سنة 2018- إنها "حتى اليوم، ورغم الوعود الرسمية ومحاولاتي مع عائلتي للتواصل مع المسؤولين، للتحقيق في قضية ابني الذي سفك دمه في منطقته، وهو يؤدي واجبه العسكري، لم نصل إلى نتيجة. والحجة أن القتلة المعروفي الأسماء والمحكومين غيابيًا بالأشغال الشّاقة المؤبدة ودفع غرامات، هم من الطفار الهاربين، ويصعب توقيفهم لأنهم متوارون عن الأنظار. وهم يسرحون ويمرحون في مدينة بعلبك بغطاء عشائري وحزبي".

لا يخفى أن هذا التفلت المستشري في منطقة البقاع الشمالي محمي بغطاء سياسي وعشائري. وبات أي خارج على القانون هو من الطفار، أي المتوارين والناجين من تنفيذ الحكم بحقهم. وتحت تسمية الطفار المتوارين تقاعست السلطات الأمنية والقضائية والجيش في القبض على الجناة ومحاسبتهم، واكتفت بوعود باهتة. وقالت والدة الشهيد: عندما استشهد إبني، انهالت التعازي والوعود، من وفود رسمية، ومن قائد الجيش وسواهم. وكنا في البداية رفضنا استلام جثة ابننا حتى توقيف الجناة. غير أن قائد الجيش وعدنا بالثأر القريب والعدالة. وتكفلت قيادة الجيش بحفل التأبين الذي كان مفعمًا بالوعود والعزاء والتعويضات. غير أن التعويضات المالية لم تُغنينا عن العدالة والثأر لمقتل ابني على يد الزعران. ولن نلجأ أبدًا إلى الأحزاب التّي أمنت الغطاء لهؤلاء الجناة، لأخذ حق ولدي. ولدي الثقة بمؤسسة الجيش التّي يعمل أولادي كلهم في خدمتها".

تبدو الهوة واسعة بين وعود التأبين وعمل القضاء. فبعد البروتوكول -وفود رسمية وأوسمة تلقى على كفن الشهيد، باقات ورد وبذلات مرقطة، وحمل الفقيد إلى مثواه الأخيرعلى وقع نشيد الموتى وعويل النساء وخُطب لا تنتهي من الضابط ومختار القرية عن ميزاته وحسناته وتفانيه في خدمة الوطن- ينتهي الأمر. وتشير الوالدة إلى أنها رغم المتابعة الحثيثة، لم تر سوى التأجيل المتعمد والبيروقراطية الفادحة والاستهتار في التعاطي مع قضية ابنها. والقضاء لا يعمل على تحقيق العدالة. وحالها في هذا حال باقي الأسر التّي فقدت أبناءها الجنود.


ثارات وتسريبات أمنية

تعودت العشائر البعلبكية على تبرير كل جرائمها وخروجها على القانون، وتسترها الدائم على ذلك (معظم العشائر من الطائفة الشيعية وتتبع مباشرةً الثنائي الشيعي) بتقاليد الثأر العشائري التي تشمل قوى الأمن والجيش والقضاء. وهذا ما يحول دون اعتقال أو توقيف المجرمين، أو محاولة السيطرة الرسمية على المنطقة وطفارها الذين يسرحون فيها وفي جرودها ويمرحون.

وفي هذا الصدد قال أحد البعلبكيين المطلعين على الشأن العام في المدينة: "عند كل مداهمة للجيش، يفر المشتبه بهم والجناة. وذلك بسبب التسريبات الأمنية التّي يقوم بها أفراد في الجيش تابعين للأحزاب والعشائر. وينتهي الأمر بتغاضي القوى الأمنية والجيش عن استكمال ملاحقاتهم الطفار المجرمين. وسرعان ما تعود المنطقة إلى دوامة الكرّ والفرّ الوهميين. وانتهج أبناء العشائر مذهب الثأر حتى ضد القوى الأمنية والجيش. وكلما قام الجيش بعملية دهم يسارعون إلى إطلاق النار بأسلحتهم المهربة والثقيلة والتّي تؤمنها لهم وتحميهم أحزابهم السياسية".

تواصلت "المدن" مع عدد من أهالي الشهداء الذين أصروا على إخفاء هوياتهم لخوفهم من تبعات أي تصريح، أكان من مؤسسة الجيش باستخباراتها، ومن رد فعل العشائر التي قُتِل أبناؤها في مداهمات أو في مواجهات أو حتى على الحواجز. وأجمع الأهالي على أن مؤسستي الجيش والقضاء تتقاعصان عن إبلاغهم بأي مستجدات إن طرأت أو حتى التوسع في التحقيق وتوقيف الجناة جديًا. رغم كل الوعود التّي صادق عليها قائد الجيش شخصيًا.


عفوٌ عام وسلطة متواطئة

كل شيء يثير الجدل في المشهد البقاعي اليوم: جرائم وحوادث، سوق سوداء منفلتة، عشائر مُسلّحة، موتٌ مجاني بحجة الشّرف والثأر، تسيب عام، استهتار رسمي، انتخابات وجوهٍ مكررة، وخزان مقاومة مزعوم تبريرًا لكل هذا الموت والخراب في منطقة متروكة للإهمال وتقاعس سلطات واستهتارها بحياة مواطنيها وأرضها، وتركتها فريسة للتسيب واللاقانون والنسيان.

وعلى الرغم من كل المطالب بالعفو العام عن المطلوبين والطفار، وإنصافهم بعدالة اجتماعية، يتأرجح أهالي المتضررين منهم بين التخوف والترقب الدائمين، ويفقدون الثقة تدريجيًا بحكم قضائي عادل أو بمبادرة رسمية. ففي حين أن أسماء الجناة باتت معروفة بأحكام غيابية، تراءى للبعض أن هذا تصريح ملتوٍ أصدرته دولتهم، ليأخذوا حقهم بأيديهم، ويعمدون إلى الثأر لأولادهم بالأسلوب نفسه. وبذلك يقعون في دوامة لامتناهية من الخروج عن القانون والتفلت، على قاعدة: يوم مواطن ويوم طافر. وهنا يقع اللوم الأكبر على هذه السّلطة المتواطئة بأحزابها وفاسديها، والتي دفعت بأهالي منطقة لا يمتلكون جامعة حكومية واحدة في إطارهم الجغرافي، إلى انتهاج اللاقانون في سبيل عيشهم وحقوقهم.

تعليقات: