إبقاء الوضع اللبناني في حال الاستنزاف (Getty)
يختلف تعامل اللبنانيين مع الانتخابات النيابية عن سابقاتها من الاستحقاقات. حتى القوى السياسية تسلك سلوكًا مختلفًا في الحماسة والتجييش اللذين يستعران كلما اقترب موعد الانتخابات.
السؤال الكبير
لكن لمن ينتخب اللبنانيون ولماذا ينتخبون؟
هذا السؤال الجذري الكبير يبرز ضياعًا أكبر في خيارات الناس، كحالهم حيال ما لديهم من ودائع في المصارف، أو من نماذج اقتصادية ومالية خبروها ويختبرونها في حياتهم. وعندما خرج اللبنانيون في انتفاضة 17 تشرين، كانت غالبيتهم من الطبقة الوسطى التي سُحقت في هذه الأيام. وهم خرجوا للمطالبة بتحسين نمط العيش والخدمات، ويجدون أنفسهم اليوم غارقين في اليأس والضياع، وتتملّكهم وحدة قاسية لا تدفعهم إلا إلى الهجرة.
تستطيع القوى السياسية رفع شعارات عالية السقف لخوض انتخاباتها، مستخدمة شعارات حرب الوجود والحفاظ على البقاء. كما تستطيع استخدام اللغة الشعبوية التي تمنعها من الذهاب إلى الالتزام بشروط صندوق النقد، أو إقرار الكابيتال كونترول وغيره.
لكن هذه القوى كلها في مكان والناس في مكان آخر. حتى تعليق الآمال على الانتخابات أو على ما يليها من أوهام، ترتبط بما يأتي من أدوار ومبادرات خارجية، كأنها تحمل الترياق إلى البلد المعتلّ والمسموم. لكن ذلك لا يبدو أكثر من أوهام أو تمنيات يمنّي اللبنانيون أنفسهم بها، لعلها تنتشلهم من قيعان جهنم.
طريق الانهيار الكبير
بين العامين 2005 و2022، سنوات حفلت بمحطات وتحولات سياسية، إقليمية ودولية، وقوى تصارعت على السلطة وتآلفت، خاضت التسويات وعقدت الصفقات، وعادت إلى الصدام في ما بعد. فسلكت الوقائع الطريق الوحيدة التي لم تتغير: المسيرة إلى هذا الانهيار، وجنهم التي كانت احتمالًا يلوح في الأفق.
لذا يبدو السؤال وجيهًا اليوم: ما الذي تعنيه هذه الانتخابات؟
الفريق المعارض لحزب الله تمكن من الفوز في الانتخابات النيابية في العامين 2005 و2009. لكنه لم يستطع الحكم، ولم يتمكن من الخروج من عباءة التسويات والتنازلات تحت شعار الديمقراطية التوافقية. وفي العام 2011 حدث انقلاب على الأكثرية، فجاءت حكومة انقلابية. ومنذ ذلك الحين مهد حزب الله لسيطرته على السلطة في البلاد. وهي تكرست في تسوية العام 2016. ومن وقتها إلى اليوم ولبنان يسير على طريق الانهيار الكبير، ووصل إليه ويتخبط فيه.
الانقلاب والإخضاع
في هذه المراجعة السريعة يبدو للبنانيين المشتتين الضائعين اليوم، نموذج حزب الله بوضوح أمامهم. ونتائج الانتخابات المزمعة ستكون إياها وربما أسوأ، في حال حقق الحزب عينه الأكثرية النيابية. أما نموذج خصوم الحزب فواضح أيضًا ما يمكن أن يفعلوه. فعلى الرغم من نيلهم الأكثرية في دورتين سابقتين متتاليتين، لم يتمكنوا من فرض ما يريدونه. بل عملوا ما يمليه عليهم الأمر الواقع الذي فرضه حزب الله عليهم.
وهذه القاعدة احتكم إليها الجميع، بما فيهم حاكم مصرف لبنان والمصارف. ولنا في ذلك نموذجان: الأول عندما أعلن رئيس جمعية المصارف السابق فرنسوا باسيل رفضه الاستمرار في سياسة إدانة الدولة، معتبرًا أن السياسة النقدية والمالية غير سوية. فهُدِّد باسيل بالقضاء وزجه في السجن، ومورست عليه ضغوط أجبرته على الاعتذار والتراجع.
النموذج الثاني يتمثل باتخاذ مصرف لبنان والمهجر قرارًا بتطبيق إجراءات صارمة من حزمة العقوبات الأميركية. فتعرض المصرف لرسالة تفجيرية دفعته إلى التراجع، ودفعت حاكم المصرف المركزي إلى إيجاد ابتكارات مكنته من الالتفاف على سياسة العقوبات. لقد التف الحبل حول عنق الحاكم. وتحول أسيرًا. فالجميع يحتاج إليه، على الرغم من الحرب المستمرة ضده من رئيس الجمهورية ميشال عون.
فلنبدأ من جديد
هذان النموذجان مرآة لسقوط القطاعات والمرتكزات كلها: سقوط بيروت الأساسي في انفجار 4 آب، فانهيار مقومات الدولة اللبنانية كلها، وتداعي مؤسساتها وقطاعاتها المصرفية والمالية والاستثمارية والتجارية والتعليمية والصحية.
حاليًا المسار نفسه مستمر: اختلاف بين القوى على الكابيتال كونترول، وانقلاب في الأدوار. ففي الأيام الأولى لحصول الانهيار كانت الكتل النيابية المسيحية مثلًا، مؤيدة لمثل هذا القرار الذي رُفض شيعيًا، أي الثنائي الشيعي. اليوم انقلبت الآية: المسيحيون يقاطعون جلسة اللجان المشتركة، فيما الثنائي الشيعي متحمس لإقرار الكابيتال كونترول، ولكن بصيغة غير مفهومة. وكأنها تحتوي على مبدأ عفى الله عما مضى. بمعنى أن ما وقع قد وقع، فليصفّر العداد ونبدأ من جديد.
النتيجة معروفة سلفًا
هذه الممارسات والآليات ستستمر بعد الانتخابات. فلا ينتظر اللبنانيون شيئًا جوهريًا. والتحركات الديبلوماسية لا تخرج عن سياق الفولكلور، أو لزوم العمل وإبراز الحضور، وسط كلام ديبلوماسي يُضخ حول استعداد لعقد مؤتمر دولي لحلّ الأزمة اللبنانية.
لكن الأزمات تتعاظم دوليًا في لبنان وفي منطقة الشرق الأوسط كلها، في ضوء الحرب الروسية على أوكرانيا. وهي حرب دولية في قلب أوروبا. ومن شأنها أن تغير قواعد النظام العالمي.
أما واقعة الانتخابات اللبنانية من هذا المنظار، فهدفها ليس أكثر من إبقاء الوضع اللبناني في حال الاستنزاف والتأجيل والتسويف. والسنوات الفائتة وحدها خير مثال ودليل على ما يأتي بعد الاستحقاق، بصرف النظر عن فوز أي من الطرفين أو الخيارين بالأكثرية.
تعليقات: