«حيّ الجورة»: صيتٌ سيِّئ يغلب بؤس المقيمين

يحاذر جيران الحي في برج البراجنة من الدخول إلى حيّ الجورة (هيثم الموسوي)
يحاذر جيران الحي في برج البراجنة من الدخول إلى حيّ الجورة (هيثم الموسوي)


عندما تقرّر الدخول إلى حيّ الجورة، المرميّ في أطراف برج البراجنة، يخطر لك أن تترك محفظتك في البيت ولا تحمل إلا هاتفك لإبلاغ العائلة في حال تعرّضت للخطف أو أي اعتداء آخر. فهذا الحيّ هو في مخيّلة كثيرين بؤرة مخيفة تجمع عصابات السرقة والنشل وحتى الخطف، وتنشط فيه شبكات تجارة المخدرات علناً. هنا نسمع كثيراً عن طاولات الحشيشة التي تفترش شوارعه، وعن كمية سلاح ورصاص في البيوت تفوق المعقول. ولأننا نتحدّث عن حيّ سكني تعيش فيه عائلات من رجال ونساء وأطفال يمارسون طقوسهم اليومية فيه بشكل طبيعي، كان لا بدّ من زيارته.

ما إن تطأ قدماك أرض "حيّ الجورة" حتى ينبّهك رجل يقود دراجة نارية: "خلّي تلفونك من جوا، بيسرقوه". تمشي بحثاً عن شيء غير مألوف، فلا تجد. الحياة طبيعية هنا. رجال منهمكون بأعمالهم في محالّ مواد استهلاكية وتصليح سيارات وغيرها، ونساء يتوجهن إلى بيوتهن حاملات أكياس الخُضر، وأطفال يلعبون في الشارع. الحيّ بائس ويشبه إلى حدّ بعيد المخيّمات الفلسطينية في أبنيته المتداعية، زواريبه الضيقة، وجوه أبنائه الشاحبة، وأسلاك الكهرباء التي تتشابك في ما بينها وتنخفض لتضرب رؤوس المارّة في بعض الأحيان.


تهمة باطلة؟

ولأن الانفلات الأمني في حيّ الجورة يبدو وهمياً، كان لا بدّ من الاستفسار من أبنائه عن سبب هذه "التهمة الباطلة". يؤكد جميع من نسألهم، أنه قبل نحو ثماني سنوات كان الناس يعرضون الحشيشة والمواد المخدرة ولا سيما "السيمو" في وسط الحيّ وأطرافه في وضح النهار، وينادون عليها كما لو أنهم ينادون على البطاطا. لكن، مع دخول القوى الأمنية إلى الحيّ وإزالة طاولات الحشيشة، "تغيّر الوضع كثيراً، وتراجعت حوادث السرقة باستثناء سرقة الدراجات النارية، كما قلّت النزاعات التي تُشهر فيها الأسلحة". فهل خرج حيّ الجورة من دائرة الفلتان الأمني ولم يبق غير سمعة سيئة تلاحقه؟ "طبعاً لا"، يجيب أحد سكان الحيّ، "فتجارة المخدرات لم تتراجع أبداً لكنها لم تعد على عينك يا تاجر، وصار التجار يبتكرون طرقاً خاصة للتحايل على القوى الأمنية وكبساتها. فثلاث طرقات على باب المنزل، مثلاً، تشير إلى وصول "البضاعة"، وإشعال الولاعة مرات متتالية على الشارع يعني "أنا بشتري".

الدهاليز الضيقة، حيث جدران البيوت المتهالكة تحكي عن الفقر المدقع وعن بطالة الشباب، وعن تشرّد الطفولة. تلفت كمية صور الرجال المعلّقة والتي تحمل أسماءهم مسبوقة بعبارات تنعَى "الفقيد والمغدور"، لتعرف في ما بعد أن هؤلاء جميعهم قُتلوا إما بسبب نزاعات داخلية، أو إثر اشتباكات مع القوى الأمنية.

تصل إلى بناء من طبقتين تتبادل فيه سيدتان أطراف الحديث. تسألهما: "ما الذي يخيف الناس من هذا الحيّ؟ لم أجد شيئاً مخيفاً". ترد إحداهما بطريقة ساخرة: "بدّك تجي بالليل وتشوفي". توضح: "ليلاً، ينشط تعاطي المخدرات وتصبح الحشيشة تسلاية الشباب داخل المنازل أو إلى جانبها".

يحاول أحد الشباب تلميع صورة الحيّ الذي يقطنه، فيقول: "الناس هنا طيّبون، وكل الحديث عن الفلتان يعود إلى تاريخ أسود منذ عشر سنوات وصم الحيّ إلى ولد ولده". يطلّ صديقه ويكذّبه: "شو من عشر سنين، بعدهن لهلأ". فيحاول الأول أن يخرج نفسه من الموقف بالقول: "كلّ واحد حرّ في التعاطي أو عدمه، المهم أن البسطات اختفت". في هذه الأثناء، يصل جاره، شاب نحيل، يركض بسرعة البرق باتجاه منزله. يسأله: "هل تحشّش يا فلان؟". فيجيب من دون أن يقف أو ينظر إليه: "هنا، الكلّ بحشّش".


العلاقة مع الجيران

ارتبط حي الجورة بالحشيشة ارتباطاً وثيقاً. ويلقي البعض التهمة على مخيم برج البراجنة الذي يشكل أحد مداخله ومخارجه "ما يسهل عملية التهريب"، علماً أن المخيم لم يعد مصدراً أولَ لشراء الحشيشة، فـ"الواحد منا ينزل من قريته ومعه "المونة""، كما يقول أحدهم. هل في ذلك "لطشة" لأهل بعلبك؟ يجيب: "في هذا الحيّ يسكن السوري واللبناني من أهل الجنوب والبقاع والشمال، والحشيشة ليست حكراً على فئة دون سواها". تفشّي التعاطي في الحي لا ينفي وجود فئة لا علاقة لها بكلّ هذه الأجواء سكنت الحي نظراً إلى تدني الإيجار أو لأنها ورثت بيتاً وحياة صعبة فيه.


في الحيّ الكثير من المظلومين الذين تُمنع عنهم المخدرات وتتوفر لهم كلّ دوافع تعاطيها

لا يخاف سكان هذا الحي من العيش فيه، اعتادوا على صوت الرصاص ورائحة الحشيشة وكلّ مظاهر الفلتان الأمني. تقول فتاة عشرينية: "لا أخاف من العودة في ساعات متأخرة من الليل إلى منزلي. الناس في الخارج يخافون من حي الجورة، لكنني أجده عادياً". وفعلاً، يخاف جيران هذا الحي من دخوله كما تقول إحدى المقيمات في عين السكة: "لا تنام بين القبور ولا تشوف منامات وحشة"، رغم أننا التقيناها خارجة منه: "كنت أشتري أغراضاً من المخيم ودخلته من دون أن أدري". مع ذلك، لا تمانع من تكرار التجربة "ما دمتُ في الستين من عمري، لا ألبس ذهباً، ولا أحمل مالاً".

لحيّ الجورة أربعة مداخل: حيّ الأكراد، مخيم برج البراجنة، عين السكة ومدخل أفران الولاء. تختار الأخير مخرجاً، غير راضٍ عن جولة حملت روايات وأحاديث عن "فلتان" الحي من دون أيّ دليل. لكن مهلاً، ما بال هذا الشاب الجالس على دراجته النارية متكئاً على الحائط، ويحمل سيجارة؟ استراق النظر إليه يكشف عن وجه شاحب وعينين حمراوين، يحكي بصوت ضعيف كلاماً غير مفهوم. تكاد تشعر بنشوة الانتصار لولا ما يبقى في بالك من نصائح أحد شباب الحي: "لا تكتبي كلاماً سيئاً عن حيّ الجورة. ففيه الكثير من الطيبين والمظلومين الذين تُمنع عنهم المخدرات ولكن تتوفر لهم كلّ دوافع التعاطي".

تعليقات: