شقق الشباب السكنية اليوم غالبًا ما يستأجرها من بالكاد تجرعوا طموح الاستقلال (Getty)
أينما حطّت بك الرحال في بيروت، تجدها غاصةً بمساكن مشتركة وشقق مفروشة جزئيًا. إنها الفضاءات الحرّة الوحيدة في المدينة المكتئبة. فضاءات إسمنتية يركن إليها شبان/ات بنمط عيش يشبههم في عمارات قديمة غالبًا: صور لغيفارا إلى جانب أخرى لأم كلثوم وفيروز معلقة على جدران طليت للمرة الألف. زجاجات بيرة في ثلاجة صغيرة بمطبخ صغير. طاولات أو طبليات خشبية في غرف بسيطة الأثاث. جلسات وآراء سياسية ثورية إلى حدٍّ ما. سجائر والكثير من الأحلام الباهتة.
وكان الشاعر الراحل محمد العبدالله قد قال مرة في شبابه بكلية التربية أواخر الستينات: "فواكه وآراء ونساء"، مكنيًا عن ذلك الوقت الشبابي الذي سمي الزمن اللبناني الجميل في بيروت، فجعل صديقه الروائي حسن داود هذه الكلمات عنوانًا لروايته الصادرة قبل سنوات قليلة في بيروت.
حلم الاستقلال وواقعه
شقق الشباب السكنية اليوم غالبًا ما يستأجرها من بالكاد تجرعوا طموح الاستقلال، فباغتتهم ظروف العيش الصعبة في لبنان، وباتت شققهم الصاخبة ملاذهم الحرّ الرازح تحت رحمة سوق العقارات والمؤجرين والأزمة الاقتصادية الخانقة، وأزمة البطالة الضاربة.
بين فرن الشباك، رأس بيروت، مار مخايل، والأشرفية، انتشرت المساكن المشتركة. مساكن تختلف مشارب ساكنيها وهوياتهم. فمنهم خريجون، طلاب جامعات، باحثون عن فرصة عمل، عاملون بقطاعات الخدمات (المطاعم والمقاهي والملاهي والبارات)، هاربون من بطش عائلات لا تشبههم ونكدها. أكانوا نساءً أم من مجتمع الميم، مهاجرين/ات، لاجئين أجانب، وشبان وافدون من أرياف.. تجمعهم رغبات في حياة موازية في بيروت. حياة قد تكون هجينة في خروجها على مجتمع تقليدي محافظ. لكنها باتت اليوم آيلة إلى الانهيار. فأحلام الشباب اللبناني بالاستقلال في بداية حياتهم، أطاحت بها أعباء مرحلة أطاحت بالبلد كله.
فعندما أرادت نور الجردي (27 سنة، لبنانية) أن تباشر مشروعها الخاص الذي يمكنها من الانتقال من الجبل والسكن في بيروت، اصطدمت بواقع الأزمة المعيشية. ونور درست علوم التغذية وحازت ماجستير فيها من الجامعة اللبنانية، قررت قبيل الأزمة افتتاح مطعمها الخاص بالمأكولات النباتية. وبعدما أقنعت أهلها بأن تسكن في بيروت وتباشر مشروعها وحريتها وحقها في الاستقلال، جاء غلاء المواد الأولية المطرد وإيجار الشقق، ما اضطرها بعد شهور من الاستقلال في شقة تتشاركها مع نساء أخريات، أن تعود أدراجها إلى بيت أهلها في الجبل. وهي قالت لـ"المدن": "بعد انتفاضة تشرين 2019 صرت على يقين بأن لا أمل هنا، بعدما كنت أظن أنه بلد الفرص، وخصوصاً في بيروت حيث أصدقائي. لكن الآن أبحث عن أي فرصة للهجرة".
ينسحب تأرجح سعر الدولار على سوق العقارات وباقي السّلع والخدمات. وباتت الإيجارات محكومة بتفلت سّوق عقارات منهار لا يخضع لقاعدة العرض والطلب، بل لعوامل مختلفة كموقع العقار أو إمكانية دفع المستأجر بالدولار. وتتراوح إيجارات الستديوهات والشقق المشتركة المفروشة في بيروت بالليرة ما بين 2 و10 ملايين ليرة، إضافة إلى تكاليف اشتراك الكهرباء والإنترنت والمياه، ما بين 100 و200 دولار أميركي. وبهذا يقف الشبان والشابات عاجزين عن تأمين هذه الكلفة. لذا يضطرون للعودة إلى كنف عائلاتهم، بعدما عاشوا حياة مستقلة. وكثيرون عازمون على الهجرة.
فئات مهمشة وعقارات
نتيجةً انفتاحها السّابق على الوطن العربي والعالم، والاندماج الحضاري والثقافي والنزعة الغربية التّي سادت منذ أواخر الستينات وصولاً لليوم، ناهيك عن المركزية التّي شغلتها على مستوى القطاعين العام والخاص، شكلت بيروت مقصدًا لأغلبية الفئات المهمشة من نساء ورجال مجتمع الميم، حيث يسود نسبيًا جو من التقبل والتشابه. لكن بيروت اليوم تختنق بالأزمات المتنوعة. وباتت فرص هؤلاء الهاربين من بطش عائلاتهم ومن العنف المجتمعي والأسري بالنجاة والحماية شبه منعدمة.
تشير سارة (اسم مستعار) لـ"المدن" أنها اختارت المساومة على حريتها العلنية مقابل نمط العيش الذي تريد. وبعد سنوات من القمع، أقنعت أهلها بضرورة مغادرتها قريتها البقاعية وإقامتها في بيروت لإكمال دراستها الجامعية، متكلة على بعض المال الذي ادخرته في السنوات الماضية. وحاولت العثور على عمل لتأمين مصروفها، خشية الرجوع إلى أهلها وفقدانها حريتها. وقالت "في حين أمارس حريتي بالخفاء وتحت الرقابة الشديدة، مع هاجس الخوف من العودة إلى البيت، إذا توقفت الجامعة أو نفد المال مني، وبفعل غلاء إيجار الشقة التي اسكنها والأكل والملبس، ها أنا اليوم أرزح تحت وطأة البطالة المقنعة براتب بالليرة وإيجارات بالدولار".
هذه الإزدواجية بالسلوك باتت ثقافة سائدة اعتنقتها شريحة واسعة من النساء ومجتمع الميم، لتفادي بأس عائلتهن. وكانت الجامعة هي الذريعة الأمثل للاستقلال والتحرر والسكن المشترك. غير أنهن اليوم مهددات بترك ببيوتهن وملاجئهن الآمنة المشتركة بسبب ارتفاع معدلات البطالة في لبنان التي بلغت 41.4 في المئة عام 2021.
طلاب الجامعات
يضطر طلاب الجامعات اليوم وخصوصاً الجامعة اللبنانية، للسكن في بيروت، نظرًا لعدم وجود فروع لها في مناطقهم، كما بسبب أزمة السكن الجامعي وحصره بعدد محدود. لذا لجأ أغلب الطلاب لاستئجار شقق مشتركة واستديوهات قريبة من الجامعة، لتوفير تكلفة النقل المرتفع. غير أنهم اضطروا للعمل بدوامين والتخلف عن دراستهم الجامعية. فيما الجامعة اللبنانية منهارة أصلاً. وفي هذا الصدد أشار مارسيل حدرج (22 سنة، لبناني) وهو طالب هندسة في الجامعة اللبنانية، إلى أنه قرر الانتقال إلى بيروت من الجنوب للدراسة الجامعية. ويقول:"لكني تفاجأت عندما منعتني الجامعة من التسجيل في فواييه الحرم الجامعي. وبت الآن أدفع 2 مليون ليرة شهريًا بدل إيجار شقة مشتركة، وأجد صعوبة في تأمينه من عملي وتأمين احتياجاتي بالتوازي، ما اضطرني للتقصير في الدراسة وإهمال المحاضرات الجامعية بسبب دوام عملي".
اليوم ينظر الشبان/ات في لبنان إلى بيروت بسأم وعتب كبيرين. فشوارعهم وفضاءاتهم المنعزلة والأليفة باتت مهددة بالهجران. أكان بسبب سوق العقارات المتأرجح كما يقول السماسرة والمأجِّرون، أو بسبب معدلات الهجرة المرتفعة في أوساط الشباب. كذلك بسبب طمع المأجرين بالفريش دولار.
تعليقات: