سجل زواج القاصرات ارتفاعاً قياسياً في إيران، نتيجة أوضاع اقتصادية متردية فاقمتها العقوبات الأميركية، وتحديداً ارتفاع التضخم وتزايد نسبة الفقراء، بالإضافة إلى صراعات بين المحافظين والإصلاحيين منعت رفع السن القانونية.
- تزوجت الطفلة الإيرانية فرشته علي في عمر العاشرة من رجل يكبرها بثلاثين عاما في منطقة تربت حيدرية بمحافظة خراسان الرضوية، شرقي إيران، بعدما فشلت محاولاتها لثني والدها الفقير عن الأمر، وخضعت في النهاية لرغبته، كما تقول شقيقتها راضية علي، والتي طلبت تعريفهما بهذين الاسمين حفاظا على خصوصيتهما، وتتابع بأسى: "فرشته أصابتها حالة مرضية تشبه الاكتئاب بعد فترة من الزواج، ومستمرة معها حتى اليوم على الرغم من تراجع حدتها، بعدما تركت زوجها منذ عامين عقب وفاة والدها".
ويخالف زواج فرشته المادة 1401 من القانون المدني، الصادر في عام 2002، والذي يحدد السن القانوني للزواج بـ 13 عاما للفتيات و15 عاما للفتيان، بالرغم من انضمام إيران في عام 1993 إلى الاتفاقية العالمية لحقوق الطفل، والتي تنص في مادتها الأولى على أن الطفل عمره لا يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه، وفق إفادة المحامي أريا عسكري، الحاصل على شهادة الدكتوراه في القانون الدولي.
ومع صغر العمر القانوني السابق، لكن الزواج في سن أقل ممكن أيضاً وفق القانون ذاته، والذي ينص على أن يكون ذلك بإذن الولي الشرعي شريطة "مراعاة المصلحة وفق تشخيص المحكمة"، كما أوضح عسكري، الذي لفت إلى استغلال النص السابق لتزويج القاصرات، حتى مع العمل بالمادة 50 من قانون حماية الأسرة المقر في البرلمان عام 2012 والتي تنص على عقوبات متنوعة بحق من خالف منطوق المادة 1401 وتزوج من فتاة في سن أدنى من 13 عاما بدون استيفاء الشروط، إذ يحكم على الزوج بالحبس من 6 أشهر إلى عامين، وإذا أدى الزواج إلى فقدان عضو أو مرض دائم لدى القاصر فيحكم على الزوج بدفع الدية والحبس من 6 أشهر إلى عامين، لكن في حال توفيت الزوجة، يلزم القانون الزوج بدفع الدية الكاملة مع الحبس من 5 إلى 10 سنوات، كما تنص المادة 50 على حبس الولي أو المكلف برعاية القاصر من 6 أشهر إلى 5 سنوات في حال كان له "تأثير مباشر" أدى لارتكاب الجرم المنصوص عليه بالمادة التي تؤكد أن هذه العقوبة تشمل أيضا المأذون الشرعي.
ويكتنف القوانين ذات الصلة غموض وإبهام في نقطة مفصلية، وفق المحامي عسكري، الذي يوضح أنه على الرغم من تحديد العقوبات لكن القانون لم يقطع بمصير الزواج، إن كان سيبقى نافذا أو أنه سيبطل؟ أو أنه سيصبح نافذا إذا رضيت به الزوجة القاصر.
ارتفاع قياسي
سجل زواج القاصرات من أعمار 10 إلى 14 عاما، رقما قياسيا في العامين الأخيرين، بلغ 9753 حالة، خلال فترة الربيع (من 21 مارس/ آذار وحتى 22 يوليو/ تموز 2021)، أي زاد بنحو 32 في المائة مقارنة مع الفترة نفسها من عام 2020، فضلا عن تسجيل 45522 حالة تزويج للبنات من أعمار 15 إلى 19 سنة خلال الفترة ذاتها، وفق ما وثقه معد التحقيق عبر بيانات مركز الإحصاء الإيراني، المنشورة بتاريخ 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021.
9753 حالة زواج لقاصرات في أربعة أشهر
وعلى الرغم من الارتفاع السابق، إلا أن الزواج بشكل عام سجل تراجعا تاريخيا بنسبة 36 في المائة خلال السنوات التسع الأخيرة، وفي المقابل زادت نسبة الطلاق نحو 28 في المائة، وفق أحدث بيانات نشرها المركز الحكومي ذاته في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
لماذا تتصاعد الظاهرة؟
تتصاعد ظاهرة زواج القاصرات في مناطق محددة من البلاد أكثر من غيرها بسبب سيطرة عوامل ثقافية واجتماعية، وفق ما رصدته البرلمانية السابقة وأستاذة علم الاجتماع بالجامعة الحرة في طهران الدكتورة بروانة سلحشوري.
وتتصدر خراسان الرضوية وآذربيجان الشرقية وسيستان وبلوشستان وخوزستان المحافظات الإيرانية الـ31 في انتشار زواج القاصرات، وفق دراسة علمية نشرتها فصلية "حقوق الطفل" التابعة لجمعية حقوق الطفل العلمية الإيرانية الأهلية، خلال خريف 2019، وتضيف سحلشوري، متحدثة لـ"العربي الجديد"، أن الثقافة الإيرانية في التعاطي مع زواج القاصرات مختلفة حسب المنطقة، "إذ صار سن الزواج مرتفعا في المدن الكبرى، وخاصة طهران، بمعدل أكثر من 30 عاما في بعض المناطق، لكن في المدن الصغيرة والقرى يقل العمر بشكل كبير".
وترتبط الظاهرة في أحد أسبابها بالمشاكل الاقتصادية المتفاقمة في البلاد، ما دفع بعض الأسر إلى تبكير تزويج بناتها القاصرات، كما تذكر سلحشوري،وحسب البيانات الرسمية المحدثة المنشورة على الموقع الإلكتروني لمركز الإحصاء الحكومي، فإن نسبة التخضم في البلاد بلغت 43.4%، في حين وصلت نسبة البطالة إلى 8.9%، غير أن جهات حكومية وغير حكومية ترى أن الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك، وخاصة معدل البطالة، الذي تقدره بـ 24 في المائة، بحسب بيانات نشرها مركز البحوث التابع لمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، كما زاد الفقر خلال السنوات الأخيرة بشكل لافت على خلفية الأزمة الاقتصادية الناتجة عن العقوبات الأميركية الشاملة، إذ يؤكد مركز دراسات الرخاء الاجتماعي التابع لوزارة التعاون والعمل والرخاء الاجتماعي في بحثه المنشور بتاريخ 4 أغسطس/ آب 2021 على موقعه الإلكتروني، أن أكثر من ثلث الشعب الإيراني البالغ عددهم 85 مليون نسمة، يعيشون تحت خط الفقر بعدما ارتفع المعدل خلال العام الماضي إلى نسبة 38 في المائة.
بالإضافة إلى ما سبق، ساهمت الدعايات الإعلامية المتزايدة منذ عدة سنوات، "في مناطق محددة ومن قبل وسائل إعلام موجهة" في ارتفاع زواج القاصرات، حسب سلحشوري، التي قالت إن "جبهة الصمود (بايداري) المحافظة والتي تمثل التيار الأصولي المتشدد، تقف وراءها بينما كان ينبغي أن تقوم هي وغيرها بتثقيف المجتمع لرفض الظاهرة".
زادت نسبة الطلاق بنحو 28 في المائة خلال عام 2021
وتؤيد ما ذهبت إليه سلحشوري الناشطة في مجال حقوق الأطفال والمتخصصة في علم الاجتماع الدكتورة رائحة مظفريان، مؤلفة كتاب "غرة" (العقدة) بشأن زواج القاصرات ومنتجة أفلام عن حقوق الأطفال، منها "1401"، والمستوحى من المادة القانونية المحددة لسن الزواج.
وتربط مظفريان في إفادتها لـ"العربي الجديد"، بين قروض الزواج وتزايد الظاهرة، إذ تزداد القروض المقدمة لأصحاب الأعمار المتدنية، ومن هم أقل من 23 عاما من الفتيات وأقل من 25 في حالة الأزواج، مشيرة إلى أن بعض الأسر تحاول "الخروج من الفقر لكن هذا السلوك يعيد إنتاج الفقر".
ووافق البرلمان الإيراني، في موازنة العام الجاري المنشورة على موقعه الإلكتروني، على تخصيص 70 مليون تومان (2500$) لمن يتزوج، لكنه رفع المبلغ إلى 100 مليون (3500$) تمنح في حال كانت أعمار الزوجين أقل من 23 عاما للبنات وأقل من 25 عاما للبنين، وهو ما ساهم في انتشار زواج القاصرات، وفق الناشطة مظفريان، التي تلفت إلى أن زيادة نسبة القروض لفتيات أعمارهن أقل من 23، يشمل أيضا القاصرات في سن 10 سنوات.
والمفارقة أن هؤلاء القاصرات غير مخولات قانونيا بالتصرف في هذه القروض، إذ تقول الدكتورة مظفريان لـ"العربي الجديد"، إن القوانين المالية لا تسمح للأطفال دون سن 18 عاما بفتح حساب بنكي بشكل مستقل، لكن يمكن لأوليائهن فتح الحساب بأسمائهن، غير أنهن ممنوعات من سحب الودائع من دون إذن الولي أو حكم المحكمة، ولذلك يحصل ولي الأمر على هذه القروض، وتضيف، هؤلاء الفتيات لا يمكنهن رفع دعوى في المحكمة بشكل مستقل إذا رفض الزوج دفع النفقة مثلا إلا بإذن الولي الشرعي.
ويوضح المستشار القانوني في السلطة القضائية، حميد رضا إبراهيمي لـ"العربي الجديد" ما سبق مشيرا إلى أن القانون الإيراني لم يحدد سنا معينة لمباشرة استيفاء الحقوق القانونية، لكن وفق تفسيرات للمادة 1210 من القانون المدني وملاحظاتها المستوحاة من مادة قانونية ألغيت عام 1982، يُعتبر من هم دون الثامنة عشرة من غير الراشدين، و تُحظر مباشرتهم لحقوقهم بشكل مستقل.
إعادة إنتاج المعضلة
تعيد ظاهرة زواج الأطفال إنتاج المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، كما يوضح الدكتور أحمد بخارايي، رئيس قسم القضايا والأمراض الاجتماعية في جمعية علم الاجتماع، موضحا أن هذا الزواج ينتشر غالبا في المناطق الفقيرة، وبالتالي فإن استمرار الظاهرة يؤدي إلى إعادة إنتاج الفقر وما يرتبط به من مشاكل ثقافية، متسائلا: "هل يفهمن ماذا تعني هذه الحياة؟ ماذا تعني الأمومة؟ هذا الفقر الثقافي ينتقل من الطفلة التي تتزوج ومنها إلى أولادها وهكذا يعاد إنتاج مشاكل المجتمع".
ويعد النمو الجسدي من أهم مؤهلات الزواج والحمل والولادة، لكن البنات دون 18 عاما من عمرهن "قد لا يبلغن هذا النمو"، بحسب بحث علمي محكم، نشرته فصلية "المرأة والصحة" التابعة للجامعة الحرة الحكومية بعنوان "تبعات زواج البنات في سن مبكرة".
وأكد البحث أن أهم التبعات الصحية لهذا الزواج تتمثل في "الانفصال المفاجئ للأطفال عن عالمهم والاضطرابات النفسية التي يفرزها ذلك، والعجز الجسدي للقاصرات عن الإنجاب ومشاكل الحمل المبكر، والتي قد تؤدي أحياناً إلى وفاة الأم والمولود حين الولادة، وعدم القدرة على الولادة الطبيعية بسبب عدم اكتمال نمو الحوض".
لكن زواج القاصرات يفرز أيضا تبعات اجتماعية خطيرة، حسب البحث العلمي المذكور الذي يشير إلى أن هذا النوع من الزواج يحدث خللا في حياتهن الاجتماعية، فيحرمهن من الدراسة التي تعلمهن مهارات الحياة، مما يؤسس لديهن شعورا ناقما على المجتمع، خاصة في ظل غياب الفهم لطبيعة الحياة الزوجية وعدم امتلاك المهارات اللازمة، ما يعرضهن لـ"العنف المنزلي" بسبب الفارق الكبير في السن، وأحيانا ينتهي الأمر إلى الهروب من البيت وظهور ظاهرة "الأرامل القاصرات".
مقاومة أيدلوجية تمنع مواجهة الظاهرة
يشكو بخارايي من وجود "مقاومة أيديولوجية" تؤثر على محاولات مواجهة ظاهرة زواج الأطفال، مشيرا إلى أنها تحول دون أن تلعب مؤسسة التعليم والتربية والإعلام والمؤسسة التشريعية أدوراها المفترضة في هذا المجال.
ويشير الخبير المختص بخارايي إلى محاولات مشرعين إصلاحيين في الدورات البرلمانية السابقة رفع سن الزواج في البلاد، لكنهم أخفقوا بسبب المقاومة الكامنة في الطبقة العميقة الخفية، والتي تحتضن القناعات والمعتقدات الدينية، مشيرا إلى أنها تشكل عناصر سلبية تعزز زواج القاصرات، ولا تقبل بقراءة عصرية جديدة، ويضيف المستشار القانوني في السلطة القضائية حميد رضا إبراهيمي إلى ما سبق أن مشاريع رفع سن الزواج تصطدم بالفتاوى الفقهية التي تجيز الزواج للجنسين بعد بلوغهما سن الرشد الشرعي المحدد بـ 9 سنوات للبنات و15 سنة للبنين، وإمكانية الحصول على تصريح من المحكمة يؤكد بلوغ سن الرشد.
ويكمل بخارايي أن "هذه الأيدولوجية تجيز الزواج مع الدخول في سن البلوغ، خاصة لأن النظام السياسي له طبيعة تعتمد القراءة الدينية"، مشيرا إلى أن هذه السلطة والمؤسسات التي تمتلكها مثل الإذاعة والتلفزيون والجامعات والتعليم والتربية تعيد إنتاج تلك القناعات وتروج لها في إيران، معربا عن أسفه لغياب "إعلام منافس" إلى جانب الإعلام الرسمي ليتحمل عبء تسليط الضوء على هذه المشكلة وإثارتها.
ويؤكد بخارايي، في حديث لـ"العربي الجديد"، على أهمية الدور التوعوي لمؤسسة التعليم والتربية والإذاعة والتلفزيون الإيرانيتين في مواجهة زواج القاصرات، منتقدا في الوقت ذاته إياهما متسائلا: "كم برنامجا خصصته القنوات الإذاعية والتلفزيونية لتناول قضايا زواج الأطفال؟". ويقيم بخارايي دور منظمة "الرعاية الاجتماعية" (حكومية تلعب أدوارا مجتمعية)، بشكل سلبي، قائلا ربما لا توجد لدى القائمين عليها قناعة لترجمتها إلى إرادة، بضرورة التصدي للظاهرة.
وفي ظل غياب دور المؤسسات الرسمية، برز دور مؤسسات المجتمع المدني ونشطاء حقوق الأطفال، إذ تقول رائحة مظفريان لـ"العربي الجديد"، إن الحراك المدني الرافض للظاهرة انطلق عام 2001 وقبل هذا التاريخ لم يكن هذا الزواج مطروحا كـ"معضلة اجتماعية"، إلى أن بدأ النشطاء منذ ذلك الحين بكتابة المقالات والكتب والحديث عن الظاهرة.
ودفعت هذه الأنشطة معاونية شؤون المرأة والأسرة في الحكومة الإيرانية السابقة المقربة من الإصلاحيين إلى إطلاق بحوث عام 2013 لإعداد لائحة لتحديد الحد الأدنى لسن الزواج في البلاد، حسب المستشار إبراهيمي، الذي أضاف أن اللائحة أعدت عام 2017 بهدف منع زواج الفتيات في سن أدنى من 13 عاما و15 عاما للبنين منعاً باتاً.
لكن لجنة القضاء بمجلس الشورى الإسلامي، التي كانت تحت هيمنة المحافظين، رفضت المشروع بحجة أنه يتعارض مع الشرع، كما يوضح إبراهيمي لـ"العربي الجديد"، مؤكدا أن "الموضوع خرج وقتها عن نطاقه الفني لينضم إلى العناوين الخلافية بين البرلمان المحافظ والحكومة التي دعمها الإصلاحيون".
العربي الجديد
* المصدر: العربي الجديد
تعليقات: