في بداية الأسبوع الحالي، كان اهتمام جميع وسائل الإعلام منصبًّا على نتائج الانتخابات النيابيّة، وما أفرزته من تغيّرات في موازين القوى داخل البرلمان. ولهذا، مرّت الميزانيّة نصف الشهريّة التي نشرها مصرف لبنان يوم الإثنين الماضي، من دون الكثير من الضجيج، رغم هول بعض أرقامها، والالتباسات التي تحيط بالكثير من التغيّرات في بنودها. باختصار، مازال الغموض وحده هو ما يحكم إدارة المصرف المركزي لوضعيته الماليّة، وخصوصًا في ما يتعلّق بالأرقام التي تعكس الخسائر، التي تتضخّم بوتيرة متسارعة في الميزانيّات، من دون وجود أي تفسير منطقي واضح. مع العلم أن الميزانيّة نصف الشهريّة كانت قد عكست في النصف الثاني من الشهر الماضي هذا النوع من التراكمات الملتبسة في الخسائر، قبل أن تشهد في النصف الأوّل من هذا الشهر هذه الظاهرة مرّة أخرى، حسب الميزانيات التي جرى نشرها يوم الإثنين.
3.6 مليار دولار من الخسائر خلال شهر
الميزانيّة نصف الشهريّة التي نشرها مصرف لبنان في بداية الأسبوع الحالي، أظهرت أن بند "الموجودات الأخرى"، الذي يستخدمه مصرف لبنان لإخفاء الخسائر المتراكمة في الميزانيّة، تضخّم خلال النصف الأوّل من شهر أيار بنحو 1.63 مليار دولار، من دون أي تفسير واضح لجهة نوعيّة الخسائر التي تراكمت تحت هذا البند. مع الإشارة إلى أن الميزانيّة التي جرى نشرها في بداية هذا الشهر أظهرت أن هذا البند تضخّم خلال النصف الثاني من شهر نيسان بنحو 1.92 مليار دولار، وأيضاً من دون أن يقدّم مصرف لبنان أي شروحات لهذه التحوّلات في الميزانيّة.
وفي النتيجة، إذا أخذنا بالاعتبار الخسائر التي تراكمت في النصف الأوّل من الشهر الحالي، وتلك التي تراكمت في النصف الثاني من الشهر الماضي، يتبيّن أن خسائر مصرف لبنان تضخّمت ضمن بند الموجودات الأخرى بنحو 3.6 مليار دولار، بين منتصف نيسان ومنتصف أيار، أي خلال شهر واحد فقط.
وفي خلاصة الأمر، بلغ حجم الخسائر المخفيّة تحت بند "الموجودات الأخرى" في ميزانيّة مصرف لبنان نحو 66.73 مليار دولار، ما يمثّل مبلغاً ضخماً يوازي نحو 40% من ميزانيّة المصرف المركزي. بعبارة أدق: 40% من موجودات مصرف لبنان الإجماليّة البالغة 167 مليار دولار، باتت لا تمثّل موجودات فعليّة، بل هي عبارة عن موجودات وهميّة تم قيدها تحت مسمّى الموجودات الأخرى، مقابل السيولة التي بددها مصرف لبنان من دون أن يتم الاعتراف بها كخسائر بشكل صريح.
الذهب تنخفض قيمته بـ1.35 مليار دولار
التحوّل الثاني في ميزانيّة المصرف المركزي، تمثّل في حجم الانخفاض في قيمة الذهب المملوك من المصرف، نتيجة انخفاض أسعار الذهب عالميًّا. وبالأرقام، بين منتصف شهر نيسان الماضي ومنتصف الشهر الحالي، أي خلال شهر واحد فقط، انخفضت قيمة الذهب المقيّد في ميزانيّات مصرف لبنان بنحو 1.35 مليار دولار، ليقتصر إجمالي قيمة الذهب الموجود في مصرف لبنان على نحو 16.8 مليار دولار فقط، مقابل 18.15 مليار دولار في منتصف شهر نيسان الماضي.
مع الإشارة إلى أن حساسيّة قيمة الذهب المسجّل في ميزانيّة المصرف المركزي تكمن في حجم الخسارة الدفتريّة التي يتم قيدها عادة، بالتوازي مع تراجع ثمن الأصول المملوكة من المصرف، وهو ما يسهم في زيادة الفجوة الموجودة في الميزانيّات، أي زيادة الفارق بين التزامات المصرف وموجودات الفعليّة السائلة أو القابلة للتسييل. ومن المعلوم أن الانخفاضات السريعة في أسعار الذهب عالميًّا جاءت مدفوعة بالقوّة التي يكتسبها بالدولار في الأسواق، بفعل رفع الفوائد الأميركيّة. وقد تشهد الأسواق العالميّة المزيد من الانخفاضات في سعر المعدن الأصفر، بالتوازي مع الزيادات الإضافيّة المتوقعة في معدلات الفوائد الأميركيّة.
نهاية ضخ الدولار؟
وفقًا للميزانيّات، فقد مصرف لبنان من احتياطاته خلال النصف الأول من هذا الشهر ما يقارب 190 مليون دولار، وهو ما يعكس استمرار تقشّف مصرف لبنان في الانفاق من احتياطاته، بسبب استنزافها حتّى الحد الأقصى. وحسب الميزانيّات نفسها، لم يتبقَ لغاية منتصف الشهر الحالي من هذه الاحتياطات سوى 11.05 مليار دولار، بما يشمل أموال حقوق السحب الخاصّة التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد (بقيمة 1.13 مليار دولار)، بالإضافة إلى ما تبقى من احتياطات المصارف المودعة لدى مصرف لبنان. وبذلك، يصبح من الواضح أن ما تبقى من احتياطات المصارف المودعة في المصرف المركزي لا تتجاوز قيمته 9.92 مليار دولار، وهو ما يعني أن مصرف لبنان بدد نحو 2.58 مليار دولار من الاحتياطات الإلزاميّة التي فُرض على المصارف إيداعها لدى مصرف لبنان كضمانة للمودعين.
على أي حال، وبما أن الصفقة التي عقدها حاكم مصرف لبنان مع رئيس الحكومة نصّت على ضخ الدولار لضبط سعر صرف الليرة لغاية موعد الانتخابات النيابيّة، سرعان ما بدأ مصرف لبنان –وبمجرّد انقضاء الانتخابات- بتقليص كوتا الدولارات التي يقوم بضخها يوميًّا عبر المنصّة، وهو ما أدّى إلى تجاوز سعر صرف الدولار حدود 31,100 ليرة يوم أمس الخميس. مع العلم أن استنزاف الاحتياطات، وبلوغها مرحلة حسّاسة، ساهم في تسريع الخروج من ضخ الدولار، وعودة سعر صرف الليرة إلى التدهور في السوق الموازية.
وهكذا، بات من الواضح أن السوق الموازية ستتجه سريعًا خلال الفترة المقبلة لتسجيل ارتفاعات متتالية في سعر صرفها، تمامًا كما جرى في المرحلة التي سبقت دخول مصرف لبنان مسار ضخ الدولار. فالمصارف في مطلع هذا الأسبوع قيدت عمليّات بيع الدولار عبر المنصّة إلى حد كبير، كنتيجة لتقليص مصرف لبنان كوتا بيع الدولار المخصصة لكل مصرف، وهو ما سيرفع الطلب حتمًا على دولار السوق الموازية. وككل الارتفاعات التي حصل في سعر صرف السوق الموازية، سيلي هذا التطوّر المزيد من معدلات التضخّم في السوق، والمزيد من التدهور في قدرة المقيمين الشرائيّة.
فقد مصرف لبنان من احتياطاته خلال النصف الأول من أيار حوالى 190 مليون دولار (علي علوش)
تعليقات: