جثمان الشهيدة محمولاً على أكف رفقائها أمس
جثمان الشهيدة محمولاً على أكف رفقائها أمسبعد 23 عاماً من العملية الاستشهادية التي نفّذتها عند معبر باتر ـــ جزين في زمن الاحتلال الإسرائيلي، عادت عروس الجنوب أمس إلى بلدتها عنقون في احتفال مهيب انطلق من بيروت وتوقف في محطات مختلفة قبل أن ينتهي بمهرجان بدا كلّ شيء فيه منظماً لولا إشكال عكّر جوّ الوداع الأخير لسناء... وأوجعها، كما عبّرت والدتها
عنقون ــ
لم تهنأ سناء محيدلي بعرس شهادتها، مع أنها كانت عروساً بحق في نعشها، كما لم تهنأ ابنة بلدتها «شيرين حاموش»التي ارتدت فستان العرس وواكبت النعش، إذ عكّر «الفرح» إشكال داخل حسينية بلدة عنقون، بينما كانت سناء تسمع مرثيات فيها وعنها، على خلفية وضع الرايات والأعلام بين عناصر القومي وآخرين من عنقون قيل إنّهم مقربون من «حركة أمل».
إشكال تطوّر إلى إطلاق رشقات نارية في الهواء واستخدام العصي والسكاكين، ما أدى إلى إصابة عدد من الحاضرين، ولا سيما بين جمهور «القومي». قد يكون ما حصل أكثر إيلاماً لسناء من لحظة تناثر جسدها عندما فجّرت نفسها في قافلة للعدو. هذا ما شعرت به والدتها حين اعتلت المنبر مناشدة: «أنا أمها لسناء محيدلي، ما توجّعوها، كلّكم أخوة، أوقفوا هذا الصخب». لكن نداءها ضاع وسط تطاير الكراسي التي كان للوزير علي قانصو نصيب من واحد منها.
وكانت «عروس الجنوب» قد زفّت أمس في عرس تأخر عن موعده 23 عاماً، لتلتحف تراب بلدتها عنقون. وفي عرسها كما في شهادتها وانتمائها القومي السوري، كانت العروس عابرة للطوائف والمذاهب.
فقد استقبلت بحفاوة عند مدخل عاصمة الجنوب، فيما أصرّ أبناء مغدوشة، جارة عنقون، على أن تقام للشهيدة مراسم خاصة، فاستقبلت بالدبكة والسيف والترس وماء الزهر. كلوديت حملت صليبها وراحت تتلفت باتجاه سيدة المنطرة وتقول: «يا ستنا مريم اجعليها بمطافك وحميها، هيدي زهرة من بلادي وبنت الجنوب». وكان في استقبالها رئيس البلدية غازي أيوب وممثل التيار الوطني الحر العميد فوزي فرحات وممثل الحزب السوري جورج يونان وسط أعلام قومية، بينما ارتدى الفتية والصبايا قمصاناً عليها صور سناء وصور الشهداء خالد علوان وبسام مسلماني وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية.
في عنقون بانت الزوبعة، وبدت البلدة أمام زحف «قومي» أتى من كل قرى لبنان، شمالاً وجبلاً، ودخلت العروس البلدة على وقع زفة «خبطة قدمكم ع الأرض هدارة» و«الله معك يا بيت صامد بالجنوب» ونشيد جبهة المقاومة «للتراب وللسما»، فيما قدّمت ثلة من القوميين بلباسهم العسكري التحية مواكبة النعش داخل سيارة الإسعاف. نعش سار خلفه الآلاف قبل أن تبدأ الإشكالات: فهنا شبان من البلدة يحاولون إنزال النعش وحمله على الأكف، يمنعون في البداية ثم يكون لهم ما أرادوا. يحمل النعش ويشق طريقه باتجاه الحسينية وسط بحر من المشاركين.
تبدأ الكلمات مع سمير القنطار الذي استقبل بعاصفة من التصفيق لحظة اعتلائه المنبر ليقول: «نجتمع حول ثقافة الحياة التي كانت سناء فاتحتها وفاتحة عصر الاستشهاديات»، مضيفاً: «لا يتوهمن أحد أنه باستعادة الأسرى وإقفال الملف مع هذا العدو ينتهي الصراع»، متوعداً بساعة الحساب مع عوكر «حيث سيكون يوم الوثبة الكبرى».
تتوالى الكلمات، الأولى لحركة أمل يلقيها قبلان قبلان، ثم لحزب الله، يلقيها عمار الموسوي، والثالثة لرئيس الحزب القومي، أسعد حردان التي تتوقف بعد حصول تدافع وتبادل شتائم وتحطيم كراسيّ على الرؤوس... والشرارة كانت على خلفية إبعاد علم عن المنبر. يكبر الإشكال، ويجري إخراج القيادة القومية، من الرئيس حردان إلى قانصو إلى النائب مروان فارس من المكان. وبعد مرور نصف ساعة واكبتها إجراءات واتصالات على أعلى المستويات، تشرع أبواب الحسينية ويخرج الحاج قبلان قبلان ويتقدم موكب التشييع باتجاه مقبرة البلدة عناصر حماية من حركة أمل، فيما حمل النعش رفقاء سناء في الحزب وحشد من القوميين والقيادات القومية، بينها عميد التربية صبحي ياغي «وصرخات تحيا سوريا يحيا سعادة»، وقبل الوصول إلى المقبرة يصاب والد سناء بإعياء شديد نتيجة التأثر ونتيجة التدافع.
من بيروت
وكانت عائلة الشهيدة محيدلي قد رافقت جثمانها من بيروت (سناء الخوري)، ورغم أنها انتظرت 23 عاماً ذلك النعش، إلا أن الدقائق الأخيرة كانت الأصعب. أمام مكتب الحزب السوري القومي الاجتماعي في الروشة، وقفت العائلة وقيادة الحزب تنتظر وصول موكب الشهيدة من مستشفى الحايك. حمل عدد من الشبان والشابات أعلام الحزب. لا أحد منهم يجيب عن سؤال من نوع ما شعورك في هذه المناسبة؟ «هناك مناسبات لا مكان فيها للأسئلة والأجوبة»، يقول جهاد فرح منفذ عام الطلبة في بيروت.
عبير، شقيقة سناء، التي كانت في الثانية عشرة من عمرها، لم تجد في هذا اللقاء مع جثمان سناء فرصةً لكلام جديد على الشهيدة، فهي لم تسكت منذ فارقت أختها الكبرى حتّى تتكلّم الآن تقول السيّدة التي تزوجت في ليبيا. ما قامت به سناء، كان لكلّ امرأة عربيّة، وأنا سمّيت ابنتي على اسمها» هنا تغصّ ولا تعود تستطيع إكمال جملتها. ما كان يحسّه أولئك القوميون وأهل الشهيدة كان بادياً على الوجوه المترقّبة.
حوّل صوت سيارة الإسعاف الترقّب إلى انفعال. محمد محيدلي، أخو الشهيدة، الشاب الذي كان قد احتفظ برباطة جأشه حتّى تلك اللحظة أصبحت عيناه حمراوين. كلمات أغنية فيروز «قالولي هيدي هديّة من الناس الناطرين» طغت على أي صوت آخر، وتوقفت السيارة التي تحمل النعش أمام الأهل. اندفعوا جميعاً، فاطمة ويوسف محيدلي، ابنتهما عبير، ابنهما الصغير معتصم، قيادة الحزب والمصورون، إلى باب السيارة. بكوا جميعاً عندما وضعوا أيديهم على الخشبة التي تفصلهم عمّا بقي من جسد سناء. عانقت عبير أمّها بحرارة. أخيراً تحقق حلم كان يراود فاطمة منذ زمن. انطلق الموكب الكبير إلى عنقون وأمّ سناء تقول «زفّوها».
«أبو سناء»... هكذا يحب والدها أن يُنادى
سناء الخوري
والدة «عروس الجنوب» تمدّ يدها لوداع أخير (مروان طحطح)كان الوقت متأخراً، والشوارع بدأت تهدأ عندما وصلت العائلة مساء أول من أمس إلى أحد فنادق العاصمة بعد 3 أيام من التنقل بين مطارات ليبيا، مصر، سوريا وصولاً إلى بيروت. لم يكن يوسف محيدلي وزوجته وابنهما معتصم يتوقعون وجود الصحافيين، بل كانوا متشوقين لبعض ساعات الراحة قبل يوم التشييع الطويل.
تتذكر الوالدة يوم وجدت حذاء سناء الرياضي الذي كانت تخفيه على السطح «حتّى لا أعرف أنها كانت تتلقّى تدريبات عسكريّة، ذلك أن سرّها كان في قلبها»، وتضيف: «ليتها قالت لي إنها ذاهبة». ولكن هل كانت ستسمح لها بالذهاب إن عرفت أنها نوت تفجير نفسها؟ تصمت السيّدة قليلاً، ترتّب وشاحها الأبيض، ثمّ تقول: «يا ليتها عادت»... تستدرك: «لكنّ وصيتها بأن تدعى عروس الجنوب أغنتني عن كلّ شيء».
في الأيام الـ17 التي غابت فيها سناء عن البيت، قبل أن يصل نبأ العمليّة، بدأت الملامة تنهال على الأم من كلّ صوب. الكلّ في العائلة المحافظة راح يسأل أين البنت؟ تبدأ فجأة بالبكاء وتتذكّر اليوم الأخير، عندما أحضرت سناء المناقيش ورتبت البيت ووقفت في غرفة نوم أخوتها كأنها تودّعها. تتذكر الأم دمعة في عيون ابنتها لم تفهمها، كما لم تفهم أيضاً لماذا قالت لها: «قفي وقفة عزّ مهما كان الخبر الذي تسمعينه في الأيام القادمة». يوسف محيدلي ما زال يعيش حالة العزّ تلك منذ يوم الاستشهاد. يستحضر الفترة التي أقام فيها الإسرائيليون حواجز على الطرقات أثناء الاجتياح ووزّعوا الحلوى على المارّة. آنذاك رمت ابنته الصغيرة الحلوى بوجه الجنود. يحاول أن يسترجع صورة سناء التي تطوّعت مع فرق الإسعافات الأوليّة، وكادت تحطّم التلفاز عند متابعتها أخبار فلسطين. ربما لهذا لم يستغرب ما قامت به ويبدي فرحاً بالمدارس والشوارع والثكنات التي أطلق عليها اسم سناء، لكنّه يبدو أكثر اعتزازاً عندما يخبرنا كيف يناديه الناس في ليبيا «أبو سناء». لا يريد نجوميّة غير التي منحته إيّاها ابنته، فيندفع في الكلام ويتذكّر الطالبات الجامعيّات اللواتي أردن أن يلتقطن معه صورة بعدما عرفن أنّه والد سناء محيدلي. حنين يعيشه الأهل إلى ابنة كانت مقتنعة بأنّها ستغيّر شيئاً ما في هذا الكون. حنين لم يقنعهم بالبقاء في هذا البلد. لن نسألهم لماذا.
والدة «عروس الجنوب» تمدّ يدها لوداع أخير
تعليقات: