جريمة قتل تهزّ بعلبك: المدينة على وشك فتنة مذهبية

لم يسبق أن شارك الآلاف بهذا الشكل العفوي في أي مأتم في مدينة بعلبك (المدن)
لم يسبق أن شارك الآلاف بهذا الشكل العفوي في أي مأتم في مدينة بعلبك (المدن)


|السبت21/05/2022شارك المقال :0

جريمة قتل تهزّ بعلبك: المدينة على وشك فتنة مذهبية

ما كادت صفحة الانتخابات، وما رافق حملاتها من اضطهاد، تطوى في منطقة بعلبك، حتى قفزت المدينة إلى الواجهة مجدداً من باب أحداث أمنية، قتل على أثرها شاب بعلبكي من آل الرفاعي، وأصيب آخران، حالة أحدهما دقيقة جداً، على خلفية "حادث تافه" رفض خلاله شبان من آل الرفاعي ركن سيارة أمام مدخل محل يعتاش من حركة السيارات، فما كان من أحد المحرضين على المشكل، وهو شخص معروف بسوابقه من آل جعفر، إلا أن أحضر مع مجموعة من أربع أشخاص، بادروا إلى إطلاق النيران، فقتل وضاح الرفاعي على الفور، وأصيب محمد بيان بجروح خطيرة، فيما نجا شقيق وضاح برصاصة واحدة أخرجت من رجله.


"قطّاع طرق" وارتكابات انتخابية

الجاني والضحية في المشكل هما أبناء حي واحد، هو حي الشراونة، الذي استقطب أبناء عشيرتي جعفر وزعيتر منذ سنوات، ليتغلب هؤلاء بعددهم على الأغلبية التي كان يشكلها أهل الحي السنّة في الأساس. وعليه كان سهلاً جداً أن يستدرج المشكل ردود فعل تهدد بتفجير "السلم الأهلي" في المدينة، لولا تدخل العقلاء لاحتوائها.

وما يعزز هذه المخاوف أن الجناة معروفون من أبناء الحي، وهم "قطاع طرق" ممن يسلّفون كل البعلبكيين من ارتكاباتهم، ويسيئون إلى المدينة وصورتها، من دون أن يحسبوا حساباً لأي رادع. ولا حتى للدولة التي يثبت في كل مرة غيابها عن هذا الجزء من لبنان. بينما الضحية فرد في عائلة سنّية هي من أكبر العائلات البعلبكية، وهو والد لأربعة أطفال، يعمل في ميكانيك السيارات، وكان يحاول أن يكمل نهاره لتأمين لقمة العيش لعائلته.

وعليه، توترت الأجواء كلياً في بعلبك بعد الجريمة التي هزت المدينة بكاملها. فأقفلت جميع أبواب المتاجر، ليس فقط حداداً، وإنما خوفاً من ردود الفعل، خصوصاً أن النفوس ما زالت محقونة من ارتكابات رافقت الانتخابات النيابية على مستوى القوى الحزبية، المتهمة بحماية المرتكبين في المدينة. في وقت خرج الشارع السني من الانتخابات من دون غطاء سياسي، عزز شعوره بالغبن في هذه المدينة.


القاتل والجنازة

إلا أنه، حسب الشيخ بكر الرفاعي، وهو قريب لصيق للقتيل، فإن "منطقنا منذ البداية ليس ثأرياً ولا انتقامياً بل منطق عدالة. علماً أنه لدينا من القدرة والعدد والشباب ما يتيح لنا استخدام السلاح، ولكن هذه مسألة لا تضر إلا بأهل المدينة. ونحن قلنا منذ البداية، وبعد تواصل مع كل الأفرقاء الموجودين على الساحة، طلبنا محدد، هذا الرجل (القاتل) والذين معه يُسلَّمون للدولة، وتنتهي الأمور عند هذا الحد".

وأضاف: "بنتيجة الضغوط الحزبية، سُلم المتسبب الرئيسي بالمشكل للقضاء فجر يوم الجمعة، ولكننا أصرينا على تسليم الأربعة الباقين، ليس بهدف الانتقام ولا الثأر، بل لنقول أنه لم يعد مسموحاً في هذه المدينة أن يعتقد المرتكب أنه قادر على النجاة بفعلته لأنه لا توجد دولة." ومن هنا يدعو الرفاعي "الحريص على المنطقة، ومن يريد تجنيبها الفتنة، ليضغط باتجاه تسليم الشبان الأربعة المتهمين".

سمح تسليم المتسبب الأول بالجريمة في المقابل بإقامة مراسم الدفن لوضاح، والتي بدا فيها المشهد مهيباً لجهة عدد المشاركين في وداعه. حيث يقول الشيخ الرفاعي: "لم يسبق أن شارك الآلاف بهذا الشكل العفوي في أي مأتم في مدينة بعلبك سابقاً، وكان الحضور متنوعاً ومن جميع الفئات"، معتبراً أن خلفيات ذلك كثيرة، ومنها ما يتعلق بالقتيل الذي كان محبوباً، ومنها ما يشكل محاولة لامتصاص الفتنة ووأدها، ولكن الأهم يبقى في الرسالة التي أراد الناس إيصالها للدولة. وكانت الرسالة أن بعلبك بأكثريتها الكبرى المتمثلة في وداع وضاح تنبذ كل الارتكابات المسيئة لصورتها، وتطالب الدولة وبشدة وحزم أن تقوم بواجباتها وتوقف هذه العصابات وتنهي ارتكاباتها في المدينة".


غضب أهلي وسياسي

وكان لافتاً أنه على رغم النفوس المشحونة لم تخرج طلقة نار واحدة خلال الجنازة. والصمت الذي اعتصم به مئات المشيعين، بدا أكثر وقعاً من رشقات العيارات النارية التي امتنع المشيعون عن إطلاقها، خلافاً للعرف الذي أرساه طفار العشائر المهيمنين بارتكاباتهم على محلة الشراونة. فبدا أهل المحلة المصادرة في حالة غضب حقيقي، يختزن كل مخلفات الارتكابات بحقهم، منذ تسللت العشائر مع طفارها إلى مدينتهم، وتسبب تغلغها بقلق مكبوت، فاقمته انتخابات نيابية وضعت اليد على مقعدي "السنة" في الدائرة، وخنقت صوت أهلها كلياً.

وهكذا لم يصدر على المستوى السياسي ولو بيان استنكار للجريمة التي أودت بحياة شاب بعلبكي، وجرى الاكتفاء ببيان صدر عن العشيرة. وفي ذلك إمعان بإرساء "عادات" أو ما يعرف بأعراف عشائرية تقوض فعالية الدولة، التي غالباً ما تقبض على المضبوطات الممنوعة من دون أن توقف أصحابها المرتكبين.

وإذا كان مشهد الصمت الذي رافق مراسم دفن الرفاعي أخبر الكثير، شدد الرفاعي في المقابل على أن العائلة لن تتقبل التعزية قبل تسليم باقي الجناة. وهذا وفقاً للرفاعي "ما وعد به كبير بيت جعفر أبو علي ياسين حمد، ونحن نشد على يده ونقول سلموا الأربعة الباقين".

عادة عندما ترفض عائلة تقبل التعازي بإبنها، فإن ذلك يعني بأنها لا تسكت على حقها. وهذا ليس سبب التوتر المستمر الذي دفع إلى إقفال متاجر بعلبك ليومين متتاليين. وحسب الرفاعي "نحن نعمل منذ يومين على امتصاص حالة الغضب التي تهدأ في مكان وتنفجر في آخر. وبهذا الوضع الذي نعيشه من يقدر على ضبط ساحته". علماً أن الشاب محمد بيان لا يزال يقبع في المستشفى بين الحياة والموت، فمن يضمن الانفعالات إذا تدهورت حالته. فالسلاح وفقاً للرفاعي بيد كل الناس ولا أحد قادر على توقع كيف يكون رد فعل أحدهم. ومن هنا تشديد الرفاعي على ضرورة تسليم باقي المتورطين. ولتقرر الدولة من الجاني ومن لا.


مصير المدينة

جاءت هذه الجريمة مع عودة الجهود لاستعادة ولو جزء من وجه بعلبك الجميل، عبر مهرجانات يفترض أن يعاد إطلاقها هذه السنة، بعد سنتين من الغياب القسري الذي فرضته الظروف الصحية والأمنية في لبنان والعالم.

إلا ان مقتل الرفاعي خلق قناعة بأن حياة أي بعلبكي هي رهن مزاجية طفار تسللوا إلى وسطها، يروعون المدينة بإرتكاباتهم، وينزعون الطمأنينة من نفوس أهلها المسالمين من كل الطوائف، ويحرمونهم حتى الفرحة في مدينتهم.

فيما يشبّه البعض ما يجري من أحداث، بتلك التي رافقت نزوح المسيحيين عن هذه المدينة، فلم يعد عدد المقيمين منهم يتجاوز العشرات. الأمر الذي يتخوف البعلبكيون من تعميمه على باقي مكونات المجتمع السنّية وحتى الشيعية التي ترفض إخضاع المدينة لمنطق القوة المتحكم بها، ليس فقط على مستوى هيمنة قوى أمر الواقع السياسية، وإنما ايضاً على مستوى استقواء العصابات وأفرادها المحميين.

فالجريمة التي وقعت في بعلبك، لا يمكن فصلها عن مسار عام، أمني وسياسي، توج في انتخابات استخدمت فيها سائر وسائل الترهيب والترغيب والغش والهيمنة على أجواء المدينة. وقد حللت الهيمنة السياسية الحزبية وفقاً للبعض هدر دم الفئة الأضعف في المدينة، وسط قناعة سائدة في بعلبك بأن المرتكبين، حتى على المستوى الفردي، ما كانوا ليتجرأوا على أفعالهم لولا الغطاء السياسي والحماية اللذين توفرهما لهم هذه القوى السياسية تحديداً.

تعليقات: